استبيحت كليا أية قيمة إنسانية وانتهكت تماما أية قوانين دولية في غزة الجائعة.

بدت إسرائيل دولة فوق القانون الإنساني الدولي، وفوق فكرة الحساب نفسها.

ترتكب أمام العالم كله أبشع جرائم الحرب دون ردع، أو خشية من أحد.

لم يكن العالم العربي مستباحا إلى هذا الحد في تاريخه الحديث كله.

الجوع ينهش الحياة والمستشفيات معطلة والموت في الطرقات، من لم يمت بالقصف مات بالجوع.

هذا وضع مذل لكل عربي.. ومستفز لأي ضمير إنساني.

المسئولية معلقة في رقبة النظم العربية، جميعها بلا استثناء.

خرجت تظاهرات واحتجاجات وصدرت بيانات تدعو لوقف إطلاق النار وإدخال مساعدات إنسانية إلى غزة المحاصرة بأنحاء مختلفة من العالم، في تل أبيب نفسها وواشنطن ونيويورك، فيما لم تخرج هنا مظاهرة واحدة تحتج على أبشع جريمة إنسانية في ذاكرة الزمن.

بقدر الأمل في مصر فإن المسئولية الأولى تقع عليها.

يكاد النظام العربي أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فهو بلا قيمة ويفتقد أدنى مبرر لوجوده، أو أي قيمة لبياناته.

المثير للسخرية أن الدول التي تتصارع على نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى عواصمها وانتخاب الأمين العام من بين دبلوماسييها، بدت مشلولة تماما، لا تقدر على فعل، أو دور يخفف من المأساة المروعة.

لم يعد الرأي العام العربي مستعدا لتقبل أية أعذار تسوغ كل هذا الضعف والتخاذل.

إنه العجز الكامل أمام مشاهد الموت الجماعي تقتيلا وتجويعا في غزة المحاصرة.

هذا بذاته حكم تاريخي بأثمان سياسية سوف تدفع في أقرب الآجال.

كل السيناريوهات مفتوحة على المجهول، مستقبل المنطقة ونظمها الحالية.

الضعف المفرط يغري بالاستباحة الكاملة.

هذا جانب في المأساة الماثلة.

الجانب الآخر من المأساة يعطي رسائل عكسية تماما.

إنهم ليسوا أقوياء إلى هذا الحد.. ولا نحن ضعفاء إلى هذا الحد، لكنه التخاذل المفرط.

فوائض القوة لديهم الوجه الآخر لفوائض التخاذل عندنا.

لماذا تتصاعد الآن مشاهد حرب التجويع؟

هناك اعتباران أساسيان.

أولهما، أيديولوجي يتبناه اليمين الصهيوني المتطرف لجعل الحياة مستحيلة في القطاع المحاصر حتى يكون التهجير قسريا، أو طوعيا، إجباريا في نهاية المطاف.

وثانيهما، سياسي حتى تقبل المقاومة الفلسطينية بما يطالب به الوفد الإسرائيلي في مفاوضات الدوحة.

إنه التفاوض بالترهيب والتقتيل والتجويع لنزع أي غطاء شعبي عن المقاومة وتحميلها مسئولية تفاقم المأساة الإنسانية.

المقاومة لا الاحتلال بذريعة أنها تتشدد في المفاوضات.

لماذا لا تقبل دون إبطاء بكل شروط رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” وخرائطه لإعادة انتشار جيشه، التي تعني احتلال (40%) من مساحة غزة؟

هو نفسه يحمل علنا “حماس” مسئولية المجاعة المتفشية في غزة بالتشدد في المفاوضات وعدم قبول شروط الهدنة المؤقتة المقترحة لـ(60) يوما.

إذا سلمت “حماس” بما يطلبه “نتنياهو” ألا يكون هناك وقف للحرب فإن المعنى العودة مجددا إليها بعد خسارة أهم أوراقها التفاوضية، ورقة الأسرى والرهائن.

 إنه إعلان هزيمة سياسية وعسكرية معا تحت ضغط التجويع والتقتيل.

إذا رفضت فإنها تتحمل مسئولية تجويع شعبها.

الخيار قاس بأي معنى سياسي، أو إنساني.

أسوأ ما فيه أن النظم العربية تكاد أن تدخل في غيبوبة تاريخية.

تتابع وربما تقلق من التداعيات المحتملة، ولا تفعل شيئا أكثر من تحميل مصر وحدها كامل المسئولية.

مصر مسئولة فعلا، لكنها ليست وحدها.

هذه حقيقة لا يصح التهرب من تبعاتها بالصمت، أو بانتحال الأعذار.

العتاب على مصر، حتى بالإفراط في تحميلها وحدها مسئولية مأساة غزة دون جهد حقيقي لإدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، فيه إقرار بقيمتها وأوزانها في حسابات المنطقة.

لا عالم عربي بلا مصر.

هذه حقيقة ثابتة.

بالقدر نفسه فإن مصر بلا عالمها العربي تفقد كل وزن وهيبة.

القضية الفلسطينية مسألة أمن قومي على درجة عالية من الحساسية والخطورة.

إذا لم ترتفع مصر إلى مستوى تحديات اللحظة التاريخية فإن العواقب سوف تكون وخيمة على أمنها ومستقبلها.

ربما تندفع إسرائيل بعد وقت أو آخر، لفرض سيناريو التهجير من غزة إلى سيناء.

هذا سيناريو ماثل لا افتراضي.

لا أحد في مصر المأزومة اقتصاديا واستراتيجيا يطلب الحرب، لكنها قد تفرض عليها.

مصر ليست دولة صغيرة حتى يستباح أمنها القومي على حدودها الشرقية مباشرة دون خشية غضب، أو تلويح جدي وحقيقي بتعليق اتفاقية “كامب ديفيد”، التي تعتبر الإنجاز الأهم في تاريخ الدولة العبرية بعد إعلانها مباشرة (1948).

الدول العربية الأخرى سوف تدفع أثمانا سياسية وخيمة.

مصير المشرق العربي كله على محك سيناريوهات التقسيم والتفكيك.

سلطة الأمر الواقع في دمشق تحاور إسرائيل علنا وسرا لضمان بقائها ورفع العقوبات الأمريكية عنها.

بالمقابل تدعو ميليشيات مسلحة درزية لتدخل إسرائيلي بذريعة حمايتها متنكرة لإرثها الوطني العروبي.

لبنان بدوره على محك عواصف وترتيبات الشرق الأوسط الجديد.

لن تكون هناك دولة عربية، مهما بذلت من تريليونات الدولارات لشراء رضاء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في مأمن من تلك العواصف والترتيبات.

رغم العجز العربي المفرط فإن إسرائيل نفسها منهكة، وجيشها يطلب ويلح على وقف إطلاق النار في غزة.

لم تعد هناك بنوك أهداف يضربها والروح المعنوية داخله منخفضة بأثر ضربات المقاومة الموجعة، وحالات الانتحار فيه تتزايد.

الرأي العام الإسرائيلي نفسه تميل أغلبيته إلى ذات الخيار لوقف الحرب والتوصل إلى صفقة تبادل للأسرى والرهائن.

يحاول “نتنياهو” تمديد الحرب لأيام إضافية لعله يقنع “حماس” و”الجهاد” بسلاح التجويع أن تقدم تنازلات جوهرية تحافظ على تماسك حكومته الائتلافية اليمينة المتطرفة.

“ترامب” يوافقه على خططه، وهو متواطئ معه في حرب التجويع.

اللافت هنا أن حركة “ماجا” “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، التي تمثل ظهيره السياسي تستشعر الآن أن “نتنياهو” بات عبئا لا يطاق على مصالح واشنطن.

الأفدح من ذلك كله أن الدولة العبرية، التي استثمرت سياسيا واستراتيجيا في الهولوكست للعب دور الضحية وإضفاء نوع من الحصانة على سياساتها باعتبار أن كل من ينتقدها معاد للسامية، لم يعد ممكنا تسويغ جرائم الحرب المروعة في غزة بالعداء للسامية، أو الادعاء بأنه دفاع عن النفس.

سوف تدفع إسرائيل أثمانا باهظة من صورتها ومستقبلها، لن تفلت من العقاب مهما دعمتها الإدارات الأمريكية المتواطئة.

قد تفلت مؤقتا لكن الأثمان سوف تدفع لا محالة.