يسقط البعض في نظرية المؤامرة بغرض إلغاء العقل وتقديم نظرة عدمية تعتبر أن مصيرنا مُسير بيد غيرنا وأن المؤامرات التي تحاك ضدنا هي سبب كل مشاكلنا وأننا مهما حاولنا فإن النتيجة معروفة وهي تعثرنا بسبب مؤامرات القوى الكبرى وأمريكا وإسرائيل.

والمؤكد أن خطورة نظرية المؤامرة تكمن في هذا الجانب “العدمي” الذي يجعل نتيجة تحركاتنا سواء أحسنا التصرف أم لا، سلبية، ويلغي قيمة العقل والعمل والكفاءة الذي يساعد في التمييز بين خطط سرية أو معلنة تُعِدَها القوى الكبرى لتحقيق مصالحها ولو على حساب الدول الصغرى، وبين “حديث المؤامرة” الذي لا يتوقف من أجل إخفاء الإخفاقات التي تعاني منها دولنا بسبب سوء أداء نظمها السياسية وافتقارها للمناعة الداخلية التي تحميها من خطط الخارج.

والحقيقة أن الفارق في التعامل مع نظرية المؤامرة والخطط السرية أو المعلنة التي قد تستهدف أي دولة، هو الفارق بين العمل الجاد المنظم والعشوائية، لأن الصراع ما دام هو خفي وسري فيمكن ولو مجازا اعتباره مؤامرة، ولكن ما دام انتقل للعلن فيصبح صراعا له أداوته المعلنه التي تستلزم مواجهته بأدوات مقابلة.

والحقيقة أن مصر عرفت خطاب المؤامرة طوال تاريخها ولكنها حاولت في كثير من الفترات أن تكشف أبعاد هذه المؤامرة للعلن وتحدد أطرافها ومخططاتهم، ففي عهد عبد الناصر كان الحديث واضحا ومباشرا عن الاستعمار ومؤامراته، وكانت أطراف الصراع واضحة وسياستهم تجاهنا أكثر وضوحا، فكانت إسرائيل والولايات المتحدة ومعهما الدول الاستعمارية هم أعداء المرحلة وواجهونا بسياسات معلنه وكنا نحن أيضا نواجههم بسياسات معلنة.

 فقد انتصرت مصر على العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ و”مؤامرات الخارج” نتيجة مقاومة شعبها ودعمه لقرار تأميم قناة السويس بجانب أخلاقية القرار، حتى لو اختلف البعض على توقيته، ولكنه كان في جوهره استعادة لحق شعب في السيادة على أرضة وممتلكاته، كما نالت القاهرة دعما عربيا ودوليا كبيرا ساهم في انسحاب قوي العدوان رغم تفوقها العسكري واحتلالها لسيناء.

هذا المشهد حدث عكسه في ٦٧ حين دخلت مصر في مواجهه عسكرية مع إسرائيل حكمها سوء الأداء العسكري وانقسام واستقطاب سياسي عربي، فحُسمت الحرب لصالح إسرائيل، واعتبر البعض أن الهزيمة حدثت بسبب مؤامرات الخارج أو مخططاته، وهو ما لم يمنع عبد الناصر بالاعتراف بمسئوليته عن الهزيمة وإعلانه الاستقالة في مشهد نادر لم يتكرر في العالم العربي رغم وجود كثير من الهزائم والإخفاقات.  

أما في الوقت الحالي فإن هناك خططا أعلنتها أمريكا مثل قضية تهجير الفلسطينيين ومطالبة مصر باستقبال جانب منهم وأن الرفض المصري لا يجب أن يصاحبه استدعاء لنظرية المؤامرة “التي تحاك ضد مصر”  لأن الخطة معلنة وقالها الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي وأن مواجهتها يتطلب امتلاك أداوت إدارة الصراع الدولي السياسية والقانونية والإعلامية وليس الكلام الفارغ والشعارات الجوفاء

أما العالم العربي فقد عرف ترويجا مستمرا لنظرية المؤامرة، فعقب غزو صدام حسين للكويت في عام ١٩٩٠ شهدت المنطقة صعودا كبيرا في الحديث عن نظريات المؤامرة، وكيف أن العراق لقوته كان مستهدفا من قبل أمريكا والقوى الكبرى، ونسي أو تناسي البعض أن غياب أي أساس أخلاقي/ سياسي يبرر شطب دولة عربية من على الخريطة الدولية جعل أمريكا تستغل “خطيئة صدام” ولا تتوقف عند تحرير الكويت إنما أيضا تستهدف العراق حتى أسقطت نظامه ودولته في أعقاب غزو آخر في ٢٠٠٣.

أما في لبنان فإن مؤامرات إسرائيل على هذا البلد لم تتوقف منذ عقود، ومع ذلك فإن تجربة حزب الله تقول إنه انتصر في حرب تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام ٢٠٠٠ لأنه واجه احتلالا عسكريا مباشرا، ولأن البيئة اللبنانية بكل تنوعاتها كانت داعمه له ولأن معادلة هذه الحرب حملت نقاء قيم التحرر الوطني المنتصرة في مواجهة الاحتلال.

وقد اختلت هذه المعادلة منذ أن أصبح حزب الله جزءا من الاستراتيجية الإيرانية ودخل العام الماضي في حرب إسناد لصالح غزة أضرت بلبنان ولم تفد غزة ورفضها غالبية اللبنانيين، وأن التآمر الإسرائيلي على لبنان وحزب الله كان واحدا في الحالتين، ومع ذلك انتصر حزب الله حين امتلك أدوات النصر في عام ٢٠٠٠ رغم وجود المؤامرات الخارجية وخسر معركته الأخيرة حين فقد أدوات النصر وخسرت معظم المكونات اللبنانية. 

من الوارد في مراحل كثيرة وخاصة في عصر التحرر الوطني أن تترصد أمريكا وإسرائيل أخطائنا، وفي الوقت الحالي يفضل الغرب أن نبقي في مرحلة “التلصيم ” لا نسقط وننهار ولا نتقدم وننهض، أو على الأقل يعتبر تقدمنا قضيتنا وليس قضيته، فالمهم أن لا نُصدِر له إرهابيين أو لاجئين بصرف النظر عن طبيعة نظامنا السياسي ولن يمانعوا “خالص” أن يكون استبدايا ما دام لا يضرهم ويضر شعبه فقط.

والحقيقة إن استدعاء المؤامرة الدولية بهذا الشكل القاصر والمخل مع كل حادثة أو أزمة يبعدنا عن مناقشة أسبابها الحقيقية، ومعالجة أسبابها وأوجه القصور، فحوادث الطرق والحرائق وسوء الأداء السياسي وقوانين الانتخابات المجحفة هي أمور يجب أن تناقش في مصر بعيدا عن نظرية المؤامرة وأن أسبابها ترجع لسوء الأداء الداخلي حتى لو وظفها البعض لمصالحة السياسية في الداخل أو الخارج فيبقى الخلل في الأداء الداخلي.

إن الاعتراف بأوجه القصور ومعالجتها أمر في صالح بلادنا وليس مؤامرة ضدنا، وإن الصريخ والصوت العالي والترويج اليومي لنظرية المؤامرة سينقلنا من فشل إلي فشل أكبر.