بقلم- دكتور حسني كحله
عندما قام الإنجليز بنفي أربعة من قادة الوفد المصري في 8 مارس 1919 إلى جزيرة مالطا، انطلقت ثورة الشعب المصري يوم 9 مارس، وحاول الإنجليز قمع الثورة بتعيين الجنرال اللنبي مندوب سامي، فأرسل إليهم بعد أسبوع واحد رسالة، يستنكر نفي قادة الوفد، وينبه إلى أن تأثير الثورة قد وصل إلى سوريا وفلسطين. وطلب منهم الإفراج عن سعد وصحبه، والسماح لهم بالسفر لفرنسا لتهدئة الشعب، فلن يستطيعوا التوصل لشيء. ولأن قادة الوفد لم يدركوا أبعاد القوة السياسية، فقد ظلوا يفاوضون ثلاثين سنة دون جدوى، حتى جاء شباب الضباط عام 1952، وفتحوا خريطة المنطقة والعالم. وحددوا دوائر الحركة العربية والإسلامية والإفريقي، ثم اتسعت لتشمل العالم الثالث.
إن ثورة ٢٣ يوليو لم تنه فقط الحكم الأجنبي الإنجليزي في القواعد، والألباني التركي على كرسي العرش.. بل أنهت الحكم الأجنبي الذي بدأ بسقوط الدولة المصرية القديمة عام ٥٢٥ ق. م بدخول الفرس.. الذين أخرجهم اليونان عام ٣٣٢ ق. م، ليحلوا محلهم في استعباد الفلاح المصري ونهب خيراته.. وبدورهم الرومان، فالبيزنطيين أخرجوا اليونان، ليأخذوا دورهم في احتلال مصر عام ٣٠ ق. م، حتى فتح العرب المسلمون مصر، فأخرجوهم عام ٦٤١ ميلادية، وكونوا ارستوقراطية حكم، تسكن مقرًا منعزلًا عن الشعب. بدأ بالفسطاط مع عمرو بن العاص، فالعسكر التي أنشأها الوالي صالح بن على العباسي في أول العصر العباسي، فالقطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، الوالي التركي الذي انفصل بمصر عن الحكم العباسي، فالقاهرة التي أنشأها الفاطميون خالصة لهم وبأبواب. فالأيوبيون الذين جلبهم الفاطميون، حين ضعفوا، فاستعانوا بصلاح الدين، الذي جاء بجيش كردي؛ لمواجهة الصليبيين، فأسس دولة الأيوبيين، التي أتى آخر حكامهم الصالح أيوب بدوره، بمماليك عبيد يستعين بهم في جيشه، حكموا مصر بعد ذلك. وهم المماليك البحرية من أصل تركماني، يقيمون في جزيرة الروضة في المنيل، وأشهرهم قطز والظاهر بيبرس، ثم المماليك البرجية وأصلهم شركس، جلبهم محمد بن قلوون، وسكنوا قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين) وأشهرهم الغوري وطومان باي.. حتى عام ١٥١٧ حين غزا السلطان العثماني سليم الأول مصر.. وظلت مصر تحت الحكم العثماني الأجنبي. ومن طرائف مصر، أنها على شارعين متوازيين في حي الزيتون بالقاهرة، اسمي سليم وطومان باي، ولا شأن لنا بالقاتل والقتيل.
جاءت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون عام ١٧٩٨؛ ليأخذوا دورهم في احتلال مصر ، التي تكالبت عليها كل إمبراطورية حكمت العالم، ويصف ذلك مسيو فورييه- أحد علماء الحملة الفرنسية- في كتاب وصف مصر فيقول: ” كانت كل إمبراطورية تحكم العالم، تطلع لحكم مصر، لأنها كانت ترى فيها مزرعة كبيرة أو اقطاعية وحدة، تضع يدها عليها”.
كان الفلاح المصري المتدين يعيش في الفضاء الإسلامي، فيستسلم لحكامه الغاصبين على أساس، أنهم مسلمون على كل حال.. لكن عندما جاء الفرنسيون انتفضوا ضدهم بقيادة المشايخ. واستمرت الثورة حتى بعد فشل.. لكنهم اضطروا لتنصيب أجنبي جديد هو محمد علي، أنهم بلا جيش يحمي إقليم دولتهم، فقد حرموا من حمل السلاح منذ احتلال الفرس، إلى أن اضطر محمد علي مكرهًا لتجنيد المصريين عام ١٨٢٢.
حاول أحمد عرابي، أن يستخلص حكم مصر للمصريين عام ١٨٨٢، ليس بانقلاب عسكري أو قلب نظام الحكم، ولكن بإجبار الخديوي توفيق على التوقيع على دستور في مايو ١٨٨٢.. لكن توفيق استعان بالجيش البريطاني لقمع تلك الثورة، فدخلت مصر دورا جديدا من حكم الأجنبي.. قضت عليها ثورة ٢٣ عام ١٩٥٢.
لقد أدركت ثورة ٢٣ يوليو قيمة مصر المكان والمكانة، فلم تكتف بإنهاء الاستعمار الغربي في مصر فقط، بل تعقبت الاستعمار الإنجليزي والفرنسي في العالم العربي، وفي إفريقيا، وكان صداها في العالم أجمع. وهذه ليست مغالاة ناصرية أو شوفينية وطنية، بل حقيقة سياسية.
والحق ما شهدت به الأعداء، فبرنارد لويس المستشرق الإنجليزي الأمريكي واليهودي المتعصب قال في كتابه: “من بابل إلى التراجمة- تفسير الشرق الأوسط From babel to dragomans: Interpreting Middle East يقول: في الستينيات كان الشباب التركي اليميني واليسار على السواء ناصريين، يقومون بالمظاهرات لتأييد ناصر. مع ملاحظة أنك تتحدث عن تركيا التي حكمت مصر مئات السنين. وكذلك يقول عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتينجتون، في “كتابه النظم السياسية في المجتمعات المتغيرة Political orders in changing societies”: في أمريكا اللاتينية خلال الستينيات، كان الكولونيلات والمدنيون على السواء، يعتقدون أن النموذج الناصري في التحرر والتنمية هو الحل.
كما قال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لولا أن ناصر أعطى لنا مثلًا في الصمود أمام عدوان ثلاث دول كبرى عام ١٩٥٦، كنا سنستلم، فقد ألهمنا الاستمرار في الكفاح، حتى النصر على الطاغية باتيستا حتى أسقطناه عام ١٩٥٩. فكان صمود ثورة ٢٣ يوليو في وجه العدوان، قد حقق النصر المبين، باستعادة قناة السويس وبناء السد العالي واستقلال الجزائر…
من جهة أخرى، يقول أحمد بهاء الدين في كتابه “محاوراتي مع السادات”: كنت في الكويت، وحضرت أثناء زيارة السادات مقابلته للعيلة الحاكمة، وسمعت أحد الأمراء يوجه للسادات احتجاجا كبيرا، بسبب الهجوم على عبد الناصر في الصحافة المصرية، واستهجان الادعاء الذي يمس ذمة عبد الناصر المالية. حيث قال له ما هذا يحدث في مصر، ضد الرجل الذي لولاه لما أعطى لنا الإنجليز أي اعتبار، وما كانوا لولاه قبلوا الجلوس معنا في مفاوضات الاستقلال، قبله لم يكن للعرب قيمة في العالم، ولا يسمع بهم أحد، ولقد كانت خزائن العالم العربي كلها تحت أمره، فكيف تتهمه في ذمته؟ قولوا لنا كم أخذ، ونحن سنجمعه في يوم واحد، لكن لا تقولوا هذا عن عبد الناصر”.. ويعقب بهاء الدين، قابلت السادات في اليوم التالي، وقلت له: “شوفت يا ريس، ماذا قالوا أمس، فرد عليه السادات، اسكت يا أحمد، وسمعت أكثر من ذلك أمس في السعودية”..
لقد استقلت الكويت عام ١٩٦١، كما استقلت عدن عام ١٩٦٧ بدعم القوات المصرية في اليمن، واستقلت عام 1971 الإمارات، والبحرين، وقطر، وعمان؛ بسبب الثورة المصرية. وقبلهم تونس والمغرب، ولولا مساعدة الثورة المصرية، ما انتصرت الثورة الجزائرية، رغم التضحيات الجسام التي قام بها شعبها. وأكبر شاهد على ذلك ما جاء في خطاب جي موليه رئيس وزراء فرنسا، الذي قال أمام البرلمان الفرنسي ليبرر مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، بأنه ذهب لمصر لضرب رأس الأفعى ليموت الذنب في الجزائر..
لم يكن الدعم للثورات دعما ماديا فقط، ولكنه كان دعما سياسيا، فعبد الناصر هو من قدم وفد جبهة التحرير الجزائري لمؤتمر باندونج.. وهو من قدم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أثناء زيارته للاتحاد السوفيتي.
لم تنس الإمبريالية الأمريكية هذا الدور الكبير في دعم حركات التحرير.. لذا دفعت إسرائيل لشن عدوان ١٩٦٧.. وليس هنا مجال الاستطراد في هذا الموضوع. لكن أكتفي بالإشارة لجهد الكاتب الوطني الكبير دكتور جمال حمدان الذي حفزته هذه الهزيمة العسكرية، المتمثل في كتاب (شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان).
وأستطيع أن أقول بكل ثقة، لم يعرف قدر مصر- بعد مصطفى كامل الذي قال: (لو لم أكن مصريا، لوددت أن أكون مصريا) – سوى ثورة ٢٣ يوليو. فقادة ثورة ١٩١٩ لم يدركوا هذا البعد الجيو- استراتيجي والجيو- ثقافي لمصر..
لقد استقلت الهند قبل مصر، واستقلت يوغوسلافيا قبل مصر، بل استقلت سوريا ولبنان والعراق؛ بسبب سايكس/ بيكو قبل مصر.. لكن من الذي حرك العرب.. من الذي حرك العالم.. وأنا هنا لا أتحدث عن شخص جمال عبد الناصر، بل رؤية ثورة ٢٣ يوليو، التي تشكلت من اختلاط الثقافة السياسية الوطنية بالرؤية الاستراتيجية..
هل تعلم عزيزي القارئ، إن شابين ضابطين برتبة نقيب، من الصف الثاني في تنظيم الضباط الأحرار، ومدرسان في مدرسة المشاة، هما صلاح محمد نصر، وكمال الدين الحناوي، قد أصدرا كتابا عام 1949 بعنوان “الشرق الأوسط في مهب الرياح”، وهو كتاب يجمع الجغرافيا والتاريخ بالاستراتيجية.
هذه الرؤية هي التي حددت دوائر حركة الكفاح الوطني المصري التي بكل أسف، تم الارتداد عنها. فهي التي تحقق المصلحة الوطنية المصرية.