48 ساعة من المناقشات الأممية، انتهت إلى “إعلان نيويورك” الذي تحض من خلاله 17 دولة بينها مصر والسعودية وقطر وتركيا، حركة المقاومة الإسلامية”حماس” على تسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية “سلطة أبو مازن” مقابل الحل القديم/ الجديد “حل الدولتين“.
عشرون شهرا من حرب الإبادة والتجويع، والمجازر، وقتل المدنيين والأطفال، ظل رئيس حكومة الاحتلال خلالها، يردد كأسطوانة أصابها العطب “لن ننهي الحرب حتى نقضي على حماس وندمر قدراتها العسكرية”.
ليأتي المؤتمر الأممي الذي انتهى اليوم في الأمم المتحدة بنيويورك، محاولا إهداء نتنياهو ما فشل فيه خلال تلك الشهور العشرين، إنهاء حماس عبر تسليم أسلحتها، وإنهاء سيطرتها على القطاع، فهل تنجح الدبلوماسية الغربية، فيما فشلت فيه آلة القتل الإسرائيلية؟
نزع سلاح حماس والقضاء على قدراتها، هدف نتنياهو الذي لم يتحقق، وما زال يبدو عصياً، يطرحه المؤتمرون في نيويورك، كحل سياسي مقابل “لا شيء” تقريباً.
“إعلان نيويورك” الذي أعدته فرنسا والسعودية، وأيّدته 15 دولة أخرى (بينها البرازيل وكندا وتركيا والأردن وقطر ومصر والمملكة المتحدة)، وأيضاً الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، أكد التزام الدول باتخاذ خطوات ملموسة ومحددة زمنياً، وغير قابلة للإلغاء من أجل التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتطبيق حل الدولتين، لكنه لم يحدد أيا من تلك الخطوات الملموسة.
أوروبا و”الوسطاء” وأردوغان الحالم بالخلافة، والسعودية الطامحة لدور إقليمي، اتفقوا في إعلان من 17 صفحة، على أن “الحكم وحفظ النظام والأمن في كل الأراضي الفلسطينية، يجب أن يكون من اختصاص السلطة الفلسطينية حصراً، مع الدعم المناسب، ويجب انسحاب إسرائيل من قطاع غزة… وعلى حماس إنهاء سيطرتها على غزة وتسليم أسلحتها للسلطة الفلسطينية”.
داعمين سلطة أبو مازن العاجزة عن الدفاع عن نفسها ضد انتهاكات الاحتلال في الضفة، كبديل مع وعد بدعمها اقتصاديا وأمنياً، دونما تفاصيل أو آليات معلنة.
دعونا نفسد -قليلا-، اطمئنان المتفائلين بالمؤتمر، وبالحماسة الفرنسية لحل الدولتين، والذين لا يقفون، كما ينبغي أمام التفاصيل.
مصطلح حل الدولتين “Two-State Solution” ظهر للمرة الأولى عام 1937، ضمن توصيات لجنة بيل البريطانية التي أوكل اليها التحقيق في أسباب الثورة العربية الكبرى وقتها.
في ذلك الوقت، كانت الدولة اليهودية تقتصر على السواحل الشمالية من تل أبيب إلى حيفا، إضافة إلى الجليل، بينما كانت الدولة الفلسطينية تشمل بقية أراضي فلسطين التاريخية، وتُضم إلى إمارة شرق الأردن، بينما تبقى مناطق القدس، وبيت لحم وممر إلى ميناء يافا تحت الإشراف الدولي أو البريطاني.
قفزا على مراحل متعددة، شملت حرب الأيام الستة، ثم إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988 الذي تبنى حل الدولتين، ثم مفاوضات أوسلو، ثم المبادرة العربية التي وضعت على الطاولة لسنوات، وصولا إلى كلمة وزير الخارجية الفرنسي أمس، في المؤتمر الأممي التي أكد فيها، أن “سياسة الدولتين هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام والأمن المشترك عبر تشكيل دولتين مستقلتين لشعبين، يعيشان جنبًا إلى جنب”.
ما الذي تغير.. التاريخ يبدأ في السابع من أكتوبر
لم يقدم الوزير الفرنسي، سببا يجعل “حل الدولتين” قابلا للتنفيذ بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على طرحه للمرة الأولى، وبالطبع لم يشر إلى تصويت الكنيست “البرلمان” الإسرائيلي في 18 يوليو 2024 بأغلبية كبيرة “68 صوتا مقابل اعتراض 9 أصوات” على حل الدولتين، ورفض إقامة دولة فلسطينية حتى ضمن تسوية سلمية، وكذا اعتبار أن إقامة دولة فلسطينية “خطر وجودي” على إسرائيل.
وبمتابعة كلمات المتحدثين في المؤتمر، نجد أن الوزير الفرنسي جان نويل بارو، وحتى الأمين العام أنطونيو جوتيرش المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، يركزان على إدانة أحداث السابع من أكتوبر، حيث يصر الغرب، على اعتبار أن الصراع يبدأ من هذا التاريخ.
وبدا الوزير الفرنسي سعيدا؛ كونها المرة التي تدين فيها دول عربية حماس، وأحداث السابع من أكتوبر.
جوتيريش المتعاطف، قال إن حدود الدولة الفلسطينية المقترحة يفترض أن تكون على حدود الـ67، بينما لم يحدد الوزير الفرنسي الحدود، واكتفى بالقول، إنها يجب أن تكون مترابطة، في إشارة ضمنية إلى كونها ليست وحدة جغرافية محددة.
السيادة والسلاح.. أمن إسرائيل أولا وأخيرا
وبينما اتفق المؤتمرون على استقلال الدولة الفلسطينية المفترضة، شدد الجميع على ضمان أمن إسرائيل كأولوية، واعتبر الجميع، أن نزع سلاح حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة جزء أساسي من “ترتيبات” الدولة التي سيعترفون بها.
ورغم ترديد كلمات مثل، “دولة قابلة للحياة وذات سيادة” إلا أن “الغرب” توقف عند نقطة السلاح، معتبرا أن قوات أمن داخلي مسلحة جيدا تكفي، إذ أشار الوزير الفرنسي “ضمنيا “، إن الدولة التي ستعترف بها حكومته منزوعة السلاح، فيما شددت ألمانيا على أن تكون الدولة الفلسطينية “غير مسلحة بشكل يهدد الجوار”.
مصر رفضت تقييد تسليح الدولة المفترضة، وطلبت دعم بناء أجهزة أمنية فعالة، مع مفاوضات لنزع سلاح حماس أو دمجه ضمن بنية السلطة الفلسطينية، ولم يخف الأردن تخوفه من فراغ أمني على حدوده الشرقية.
الولايات المتحدة التي سبق واقترحت في مبادرات سابقة “خارطة الطريق وصفقة القرن” الاكتفاء بقوات شرطة وأمن داخلي، وأن تكون الدولة المقترحة منزوعة السلاح الثقيل مع رقابة أمنية دولية وإسرائيلية لفترة انتقالية، عبر رئيسها الحالي دونالد ترامب، على ما جرى تداوله، أبدت رفضا للمؤتمر الأممي وللمسارات التي اقترحها الفرنسيون والألمان والأمين العام، ووصف المؤتمر بـ”الحيلة الدعائية”.
ورغم أن المشاركين حرصوا على تقديم إدانة واضحة لعملية طوفان الأقصى، إلا أن المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، اعتبرت الحدث بمثابة إهانة لضحايا هجوم 7 أكتوبر، ذلك الهجوم الذي تصر الأطراف كلها على اعتباره بداية التاريخ.
الدولة الفلسطينية التي سيعترف بها الغرب.. أي أفق؟
المؤتمر الأممي الذي نظمته السعودية وفرنسا، وسوق له البعض، باعتباره إنجازا دبلوماسيا وسياسيا، قدم وعودا، ولم يقدم إجابات على الأسئلة الحرجة.
استنكر المشاركون التجويع، وقتل المدنيين، دون إدانة الفاعل “إسرائيل”، ولم يقدم أيا منهم تصورا لجغرافيا الدولة المبشر بها، ولا كيف سيكون الوضع، إذا أجريت انتخابات ديموقراطية بإشراف ورقابة دولية، وأسفرت عن فوز حماس، كما سبق وحدث في انتخابات عام 2006، والتي أشادت بنزاهتها مؤسسات دولية، وكان رد المجتمع الدولي هو رفض التعامل مع الحكومة المنتخبة، وفرض حصار اقتصادي عليها.
مرة ثالثة يتجاهل الجميع حدث انتخابات 2006 التي جرت بشروط المجتمع الدولي، لأن التاريخ يبدأ فقط في السابع من أكتوبر 2023.
التطبيع.. الجائزة العربية التي لا تريدها إسرائيل “إلا بشروطها”
كان من الطبيعي أن يعيد العرب طرح التطبيع مع دولة الاحتلال كجائزة، حال السير في اتجاه حل الدولتين، وهو طرح قديم سبق تقديمه في المبادرة العربية التي أعلن عنها الملك السعودي الراحل عبد الله عام 2002، وظلت مطروحة على المائدة لسنوات دون أن تقترب منها إسرائيل .
هذه المرة، قال وزير الخارجية السعودي، إن بلاده لن تأتي للسلام إلا بالاعتراف بالقضية الفلسطينية كجزء من حل الدولتين، هذا الحل الذي رفضه الكنيست الإسرائيلي بأغلبية كبيرة.
فرنسا بدورها، اعتبرت أن المؤتمر يمهد لاتفاقات تطبيع مستقبلية ضمن منطق اتفاقات إبراهام، التي ابتكرها وهندسها صهر الرئيس الأمريكي ترامب أثناء فترة رئاسته الأولى، والتي وقعت عليها الإمارات المتحدة ومملكة البحرين، وانضمت لها لاحقا السودان والمغرب.
اتفاقات إبراهام التي تشمل تعاونا اقتصاديا وتكنولوجيا، وتبادلا للسفراء وتطوير مشاريع أمنية واستراتيجية، ترتكز في الأساس على التنسيق الأمني في مواجهة التهديدات، خاصة الإيرانية.
المفارقة، أن أمريكا تحت رئاسة ترامب الثانية، والتي رفضت حضور المؤتمر الأممي، اعتبرت اتفاقية إبراهام “منجزا مدهشا”، ووعدت بالإعلان عن انضمام المزيد من الدول لها قبل نهاية العام، لكنها في الوقت نفسه، اعتبرت أن أي اعتراف منفرد بالدولة الفلسطينية خارج إطار تفاوضي دولي، هو “مكافأة للإرهاب” وسيقوّض فرص السلام ، أي ببساطة فصلت مسار التطبيع عن مسار الاعتراف بدولة فلسطينية.
أسئلة مفتوحة.. وملامح غائمة
في الأخير فإن هذا المؤتمر الأممي المنظم عبر شراكة فرنسية سعودية لا يقدم جديدا: إدانة لـ”الإرهاب” ومقترحات بحلول سياسية مع تعظيم شأن الاعتراف الغربي بدولة فلسطين، دونما تحديد لملامح هذه الدولة جغرافيا أو أمنيا، ودون أن يطرح آلية لإجبار إسرائيل على تنفيذ مخرجات المؤتمر، تاركا كل التساؤلات عن مصير آخر احتلال استيطاني على كوكب الأرض، ولا كيف سيتعامل العالم “المتحضر” مع مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الذي يترأس حكومة الاحتلال.