رغم الجهد المصري المؤكد في مفاوضات الوساطة من أجل وقف إطلاق النار في غزة وحرص مصر على إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، إلا أن هناك مشكلتين صاحبتا الخطاب الرسمي المصري في التعامل مع حرب غزة: الأول بطء التحرك وتأخره بحيث بدا في أغلب الأحيان كأنه رد فعل على ما يجري على الأرض، والثاني إنه حرص على دحض الاتهامات التي وجهت إلى مصر (متأخرا أيضا) أكثر من التعبير عن صدمته مما يجري في غزة من جرائم إبادة وتجويع والإعلان بصورة ملحة عن تضامنه الإنساني مع البشر مقارنة حتى بخطاب قادة من أمريكا الجنوبية وأوروبا وجنوب إفريقيا وغيرهم.
صحيح أن هناك حملة تصفية حسابات سياسية مع الحكم في مصر، وهناك المزايدين الذين يحملون مصر مسئولية عدم دخول المساعدات إلى غزة وينسون أو يتناسون أن المسئولية الأساسية تقع على عاتق إسرائيل التي أغلقت من جانبها معبر رفح وأنها يمكن أن تدمر وتصفي أي قافلة تضامن أو مساعدات دون أي حساب من المجتمع الدولي ولا مؤسسات الشرعية الدولية.
والحقيقة أن الرد الرسمي على الاتهامات بمسئولية مصر عن إغلاق المعبر مفهوم ولكنه جاء ليس فقط متأخرا إنما جاء في ظل ندرة نفس التصريحات الرسمية في فضح ما يجري في غزة من جرائم خاصة على الساحة الدولية.
إن نقطة الانطلاق يجب أن تكون كيف يمكن أن ننقذ أهل غزة وليس فقط أو أساسا الرد على الاتهامات التي كيلت بحق مصر، فإذا كان هناك من له موقف ثأري من الحكم في مصر فإن هناك جانبا آخر من الرأي العام العربي والعالمي يري أن مصر لا تقوم بجهد كاف من أجل إدخال المساعدات إلي غزة خاصة بعد الطريقة التي أديرت بها أزمة قافلة الصمود وكان يمكن لمصر أن تعطي تأشيرة دخول لعشرات منهم وتؤمن وصولهم للمعبر ويدخلون إلي القطاع على مسئوليتهم الشخصية ليكتشفوا بأنفسهم أن من يغلق المعبر ويمنع دخول المساعدات هو دولة الاحتلال وليس مصر.
معضلة الخطاب الرسمي المصري إنه لم يميز بين مترصدين مع سبق الإصرار والترصد للحكم حتى لو أصاب، وبين رأي عام محيط يحتاج لإقناعه جهدا وأداء مختلفا أكثر كفاءة وأكثر سياسية ويضع في صلب خطابة التضامن مع غزة وليس تبرير الموقف المصري والدفاع عنه.
إن جوانب الخلل في الأداء الداخلي واضحة، والمطلوب لتعديلها المشاركة الفعالة في الحملات القانونية والسياسية والإعلامية لمواجهة جرائم الإبادة الإسرائيلية كما فعل قادة جنوب إفريقيا وكثير من زعماء أمريكا الجنوبية.
لقد أصبح مطلوب إعطاء مساحة واسعة للتحركات الشعبية السلمية والمبادرات الأهلية من أجل دعم المنكوبين في قطاع غزة سواء عن طريق القوافل الطبية أو الأدوية والأطعمة وهي كلها مبادرات لن تكون رسمية ولن تحمل الدولة تكاليفها أو أعبائها وربما قد تساعد في تغيير الصورة الذهنية التي خلفتها المظاهرات التي سبق توجيهها نحو رفح وتركت انطباعات شديدة السلبية في الداخل والخارج.
إن المحرك الأول للمظاهرات الحقيقية التي تجري في العالم كله هو الجرائم المروعة التي ترتكب بحق شعب غزة والتجويع والتنكيل الذي يصيبهم بشكل يومي، وأن خطابات كثير من دول العالم ومنها تصريح رئيس وزراء بريطانيا الأخير على إنه سيلقي مساعدات من الجو إلى أهل غزة وإنه سيعترف بالدولة الفلسطينية الشهر المقبل تقول إن جرائم الإبادة والتجويع التي تجري في القطاع حركت الضمير الإنساني وجعلته أحد أوراق الضغط السياسي المهمة من أجل وقف الحرب وتغيير ولو جانب من السياسات الإسرائيلية.
إن جرائم دولة الاحتلال أعادت إحياء القضية الفلسطينية من جديد في نفوس شعوب العالم وأيقظت أصوات الضمير في مواجهه جرائم الإبادة الجماعية، فشهدنا تحركات ملهمة لدولة غير عربية مثل جنوب إفريقيا حين ذهبت لمحكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وطالبت المحكمة بإجراءات لحماية الشعب الفلسطيني لم تحترمها إسرائيل، وعلى أثرها أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا بملاحقة نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهم ارتكاب جرائم حرب، كما صار حديث قادة العالم عن تجويع الناس مدخل كثيرين لاتخاذ مواقف سياسية أكثر تشددا تجاه إسرائيل. ومنها إعلان الزعيمين الفرنسي والبريطاني نيتهما الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل، وإن هذه التوجهات والمواقف مرشحة للتصاعد بعد أن تزايدت ضغوط الرأي العام العالمي على إسرائيل وتحرك قادة أوربيون سبق وأن تواطؤا كثيرا مع دولة الاحتلال.
إن مصر مصنفة كدولة اعتدال منذ توقيعها على معاهدة سلام وبالتالي فإن أمامها فرصة أن تشارك في حملات المقاومة المدنية والسياسية خاصة بعد أن أضعفت حرب غزة تنظيمات المقاومة المسلحة، وأيضا البدائل العسكرية التي مثلتها إيران وغيرها ولا زال يستسهلها البعض، وصارت المعركة مدنية، وشعبية، وإنسانية، وقانونية.
لم تعد قضية إدخال المساعدات قضية فنية بالقول إن معبر رفح يخص فقط الأفراد أو أن تكتفي مصر بالرد المتأخر بالقول إن إسرائيل هي المسئولة عن الإغلاق وليس مصر، إنما صار هذا الوضع الإنساني الكارثي مدخل أساسي لكثير من الخيارات السياسية الحالية التي تعمل على وقف الحرب وإنقاذ أهل غزة.