“وأخيرا العالم العربي والإسلامي فهم أن مصر هي التي تخنق غزة، ولا تفتح معبر رفح.. الحمد لله”!

هكذا كتب بالحرف “إيدي كوهين”، أحد أشهر الوجوه الإعلامية الصهيونية على الشاشات العربية، معلقا على تظاهرات واحتجاجات متزامنة ومنظمة أمام السفارات المصرية في عدد من الدول الأوروبية والعربية بذريعة، أنها تغلق معبر رفح، وتمنع إغاثة الجوعى الفلسطينيين.

كان ذلك استثمارا سياسيا ودعائيا يحاول إعفاء إسرائيل من مسئولية الجريمة التاريخية المروعة، ويلصقها بمصر بالشراكة مع حركة “حماس”!

اتهام إسرائيل بالمسئولية الكاملة محض أكاذيب لـ”حماس”، على ما يقول وزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر”.

بالأرقام تجاوزت أعداد حربي الإبادة والتجويع حاجز الـ(60) ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، وهو رقم مرعب بأي قياس.

تفلت الأحكام والتصرفات بغير تبصر لعواقبها الوخيمة، يساعد عمليا على سيناريوهات تصفية القضية الفلسطينية المحدقة.

وصلت المخاطر لحدها الأقصى في مشروعي الضم التدريجي لقطاع غزة، إلى الدولة العبرية، وفرض سيادتها الكاملة على الضفة الغربية.

المشروع الأول، يفضي بالضرورة إلى تهجير أهالي غزة لسيناء، وما قد يترتب عليه من إضرار مزدوج بالأمن القومي المصري والقضية الفلسطينية.

المشروع الثاني، يفضي إلى تهجير مماثل من الضفة إلى الأردن، بما يقضي عليها ككيان مستقل.

المصير واحد، إذا لم ترتفع مصر إلى مستوى التحديات الوجودية، أو لم تعمل على تجاوز أية أزمات سياسية معلنة، أو مكتومة بين مصر و”حماس”، فإن العواقب سوف تكون وخيمة.

بالفعل ورد الفعل تداخلت أوراق، وارتبكت مواقف في لحظة تقرير مصائر.

تعالت صيحات تدعو إلى إسقاط النظام أمام السفارات، وهذه مسئولية المصريين وحدهم، وإلا فإنها وصاية عليهم.

السفارات هي رموز الدولة في الخارج، الدولة كلها لا نظامها السياسي وحده.

إغلاقها بالأقفال ينطوي على إهانة شديدة الوطأة، تستفز ردات فعل عكسية.

كان لافتا أن شخصيات مصرية مؤثرة ومستقلة، عهد عنها معارضة النظام الحالي ونصرة القضية الفلسطينية طوال الوقت، أبدت مخاوف حقيقية وجادة، من أن يكون ما حدث استهدف بالمقام الأول تصفية ثارات سياسية وتنظيمية على حساب القضية الفلسطينية.

هناك من حاول، أن يستثمر في أجواء الغضب، التي تعتمل في الصدور، لغير صالح القضية الفلسطينية وضرورات تصعيد المواجهة الشعبية مع السياسات العنصرية الصهيونية.

أفلتت شعارات وهتافات عن كل قيد إلى النيل من البلد كله، شعبه وجيشه وأزهره الشريف.

كان ذلك توظيفا سياسيا مفرطا، افتقد الحد الأدنى من إدراك حساسية اللحظة التاريخية.. وغابت عنه الآثار الوخيمة على مستويات التضامن الشعبي المصري مع القضية الفلسطينية في لحظة قد يتقرر فيها مستقبلها ومصيرها.

وصلت المفارقات ذروتها أمام السفارة المصرية في تل أبيب، لا أمام الكنيست ومنزل رئيس الوزراء المسئول الأول عن الجريمة التاريخية البشعة.

باسم ما يسمى “اتحاد الأئمة في الداخل الفلسطيني” جرت الدعوة للتظاهر أمام السفارة المصرية.

كان تصدر “الإخوان المسلمين” لتلك التظاهرة، جناح “منصور عباس” بالذات، المنفتح على علاقات حوار وتنسيق مع أطراف يمينية متشددة في الكنيست إلى درجة الشراكة السياسية في حكومة “نفتالي بينت”، داعيا للتساؤل، عما إذا ما كان قد جرى تنسيق مسبق مع السلطات الإسرائيلية.

في ظل تفاهمات قديمة ومعروفة، وصلت في بعض الحالات إلى دعم إحدى حكومات اليمين الصهيوني في الكنيست، ربما يكون قد جرى تفاهم مسبق مع رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو”.

كان ذلك تبنيا عمليا لادعاءاته المتكررة في نسبة مسئولية إغلاق معبر رفح إلى السلطات المصرية، التي بدت مقيدة تماما ولا ولاية لها على الجانب الفلسطيني من المعبر.

لم يكن بمقدور السلطات المصرية تجاوز حقائق السلاح على الحدود مع غزة، أو تمرير أية إغاثات إنسانية بلا تنسيق مع الجانب الإسرائيلي.

لم يكن هناك رد مصري واضح ومصدق على الادعاءات الإسرائيلية.

غلبتها خشيتها من أن تفلت التفاعلات والمشاحنات إلى مواجهة عسكرية واسعة مع إسرائيل وشكوكها العميقة في مستويات الدعم والإسناد المتوقعة من عالمها العربي.

الادعاءات الإسرائيلية المتواترة دون رد قوي ومقنع أضعف مكانة مصر وأدوارها.

الادعاءات بنصوصها ترددت أمام محكمة العدل الدولية في القضية، التي رفعتها جنوب إفريقيا، ولم تنضم إليها مصر!

قيل رسميا في مصر، إنها سوف ترد، لكنها لم تفعل، كانت تلك خطيئة سياسية، سمحت بتكرار الادعاءات مرارا وتكرارا، كأنها حقيقة.

أفضت المعالجات الدبلوماسية والإعلامية القاصرة إلى إحكام الخناق على صورة البلد، حتى وصلنا إلى حصار السفارات المصرية في الخارج.

بأي حساب عقلاني لحقت الخسائر بالأطراف كلها.

فقدت “حماس” جانبا معتبرا من دعم الرأي العام المصري بتصويرها، كما لو كانت محض فرع لـ”الإخوان المسلمين”، أو طرفا متداخلا في الصراع الداخلي.

إذا فقدت “حماس” بوصلتها، فإن خسارتها سوف تكون قاتلة.

بدورهم، فإن “الإخوان المسلمين” عرضوا أنفسهم لخسارة فادحة في الرأي العام، يصعب تدارك نزيفها.

السلطة نفسها، تعرضت لموقف صعب يستدعي مقاربات أخرى وتطويرا لمستوى خطابها السياسي.

استدعت محنة التجويع بصورها المروعة رغم كل ذلك النزيف، تعاطفا دوليا غير مسبوق وضع إسرائيل في المكان الذي تستحقه كقوة نازية، تستحق العقاب والردع.

المظاهرات والاحتجاجات تعم العالم، بيانات التنديد، التي يكتبها فنانون ومثقفون كبار ومؤثرون في دولهم، تكاد أن تكون واجبا يوميا.

تحت ضغط الرأي العام الدولي، الأوروبي بالذات، رفض المؤتمر الدولي لحل الدولتين، الذي عقد في مقر الأمم المتحدة، أية تغييرات ديموجرافية، أو أي تهجير قسري بحق المدنيين الفلسطينيين.

فرنسا وصفت أعمال المستوطنين في الضفة الغربية بالإرهابية، هولندا حظرت الوزيرين المتطرفين “إيتمار بن جفير” و”بتسلئيل سموتريتش” من دخول أراضيها.

بدأت نقاشات داخل الاتحاد الأوروبي على درجة عالية من الجدية عن العقوبات التي يمكن فرضها على إسرائيل.

توج ذلك كله بإعلان دولتين أوروبيتين كبيرتين، فرنسا وبريطانيا، توجههما للاعتراف بالدولة الفلسطينية سبتمبر المقبل.

الإجراءات كلها رمزية، لكنها تعبر في مجملها عن تحولات عميقة في النظر إلى إسرائيل، تؤسس لما بعدها.

الرأي العام الغربي صاحب الفضل الأول في تلك التحولات، ونصيب العالم العربي محدود للغاية.

بضغط الرأي العام الغربي، اضطرت إسرائيل لإجراءات أقل توحشا في إيصال المساعدات الإنسانية.

لا يمكن أن يُعزى للمظاهرات أمام السفارات المصرية أي دور مؤثر وفاعل، أو له قيمة، بقدر ما كانت حرفا للانتباه عن المجرم الحقيقي وتشويشا على جريمتي الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي، التي تفوق المحارق النازية.