خطة السيطرة على الشرق الأوسط من إدلب إلى تل أبيب… خارطة طريق أمريكية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
بينما يخيّم السكون على الجبهات، ويتظاهر الإقليم بالاستقرار، تتسلل تحولات كبرى إلى عمق البنية السياسية والثقافية للمنطقة، تقودها واشنطن بهندسة ناعمة، تُعيد رسم خريطة الولاء والعداء. التقرير التالي يقدم قراءة موسعة ومفصلة لمحاور إعادة تشكيل الشرق الأوسط، عبر بوابة سوريا والتطبيع القادم في الطريق للمنطقة.
في لحظة إقليمية تتقاطع فيها مظاهر الهدوء الظاهري مع صخب خفيّ تحت الرماد، تدخل سوريا مسارًا جديدًا من التحولات العميقة. لم تعد الاتفاقات، تُعلن عبر مؤتمرات، ولا المعاهدات تُوقّع أمام عدسات الكاميرا، بل أصبحت السياسات تُنسج بخيوط غير مرئية، تُحرّكها واشنطن وتباركها قوى إقليمية، فيما تلتزم موسكو وأنقرة صمتًا مدروسًا. في هذا السياق، ينشأ تطبيع سوري– إسرائيلي غير تقليدي، لا يمر عبر بوابة دبلوماسية، بل يتسلل عبر التعليم، الإعلام، والدين.
ما يحدث الآن ليس مجرد صفقة معزولة أو ترتيبات أمنية محدودة. إنه مشروع شامل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، مشروع يُعاد فيه تعريف كل ما اعتُبر يومًا من الثوابت: الجغرافيا، المقاومة، العدو، وحتى معنى الدولة. خارطة جديدة تُرسم من إدلب إلى تل أبيب، بتوقيع أمريكي صامت، ورضا إقليمي يفضل وهم الاستقرار على كلفة المواجهة.
تحوّلات ما بعد الأسد
خروج بشار الأسد من المشهد، لم يكن نهاية نظام فقط، بل بداية لإعادة تعريف الدولة السورية من جديد. تعيين أحمد الشرع، الشخصية المقبولة أمريكيًا أو لنقل المصنوعة أمريكيا، رئيسًا انتقاليًا، لم يكن نتيجة حراك داخلي، بل جاء ثمرة ترتيبات دولية دقيقة. الرجل نفسه ليس أكثر من عنوان لمرحلة جديدة، شعارها: المرونة بدل الشعارات، والتهدئة بدلا من المقاومة.
هذا التحول بدأ بتفكيك البنية المعنوية للصراع العربي الإسرائيلي، لا عبر إعلان السلام، بل عبر تغييب الحرب من الخطاب. لم يعد يُذكر الجولان إلا لمامًا، وغابت مصطلحات مثل، الصمود والتصدي. في المقابل، طُرحت مفردات جديدة مثل، “الاستقرار” وإعادة البناء” والتكامل الإقليمي”.
التحولات لم تكن فقط سياسية، بل ثقافية وإعلامية أيضًا. الإعلام الرسمي خفف من نبرة العداء، والخطاب الديني أعيدت صياغته بحذر. هذا لا يعني أن الشعب السوري بات محبًا لإسرائيل، بل يعني أن الصراع لم يعد جزءًا من حياته اليومية.
الراعي الأمريكي: من تدخل مباشر إلى برمجة ناعمة
الولايات المتحدة، التي طالما ارتبطت في أذهان الشعوب بتغيير الأنظمة بالقوة، باتت اليوم تُعيد برمجة الأنظمة الباقية بأدوات أقل كلفة: المال، الإعلام، التعليم، ومؤسسات المجتمع المدني.
لم تعد واشنطن بحاجة لإسقاط النظام السوري، بل اكتفت بتعديل سلوكه وتحويل مساره. بدأت التغييرات برفع تدريجي للعقوبات مقابل “حُسن سلوك سيادي”، أي التخلي عن دعم المقاومة، وتقليص العلاقات مع إيران، والانخراط في ترتيبات أمنية مشتركة– أبرزها في الجولان.
كما موّلت برامج تعليمية جديدة، تهدف لإعادة تشكيل وعي الجيل القادم، حيث تُقلص مساحة الحديث عن الاحتلال، ويُقدم السلام بوصفه خيارًا عقلانيًا، لا موقفًا سياسيًا.
في الإعلام، بدأت منصات ممولة أمريكيًا بإنتاج محتوى، يركز على “السلام الداخلي” وبناء المستقبل”، دون ذكر أي مشاريع تحررية أو رمزية مقاومة.
من إدلب إلى تل أبيب: المختبر الميداني للنموذج الأمريكي
إدلب التي كانت ذات يوم مركزًا للفصائل الجهادية، تحوّلت اليوم إلى نموذج تجريبي لإدارة مناطق مضبوطة، لا تُعادي إسرائيل، ولا تهدد المصالح الغربية. هيئة تحرير الشام، التي كانت تُصنّف إرهابية، أعيد تأهيلها كشريك محلي.
تحت غطاء خطاب ديني مرن، وبإشراف استخباراتي، تُدار إدلب اليوم كمنطقة حكم ذاتي منخفض التوتر. المدارس تعتمد مناهج مخففة سياسيًا، والإعلام المحلي يتحدث عن الأمن والخدمات، بدل الصراع والعدو. والأهم: لم تُطلق رصاصة واحدة تجاه الجولان.
الغرب، خاصة الإعلام الأمريكي والبريطاني، بدأ يُروّج لإدلب، على أنها نموذج لمستقبل سوريا: منطقة محافظة، لكنها متسامحة، بلا جهاد، وبلا مقاومة.
الجماعات الجهادية: تفكيك عالمي وتدجين محلي
لم تعد الجماعات الجهادية تُعامل ككتلة واحدة. بل يجري فرزها، تدجين ما يمكن تدجينه، واستنزاف الباقي. هيئة تحرير الشام حصلت على الضوء الأخضر؛ لتتحول إلى “إسلام سياسي منضبط”، حيث أقدمت الولايات المتحدة على خطوة مثيرة للجدل برفع اسم هيئه تحرير الشام” جبهة النصرة سابقا “من قوائم الإرهاب الامريكية، في مؤشر لا يمكن فصله عن خارطة التطبيع بأي حال. .
في الشمال الشرقي، تُعاد صياغة فصائل الجيش الوطني تحت إشراف تركي، وتحولت من جماعات عقائدية إلى أدوات أمنية محلية..
ما يجري ليس فقط تصفية للجماعات المسلحة، بل تصفية للفكرة التي قامت عليها. الجهاد كعقيدة أممية انتهى، وحل مكانه “جهاد الخدمات”، وجهاد الاستقرار”، وجهاد الحدود”.
المجتمع السوري: من الحماسة إلى الحيرة
المجتمع السوري، الممزق والمنهك، يعيش اليوم بين طبقتين من الصمت: صمت الخارج عن مشهد التطبيع، وصمت الداخل عن الحديث فيه.
في الجنوب، تمر ذكرى الجولان بصمت، بلا فعاليات، بلا بيانات، بلا ذكر في الإعلام. في إدلب، لا وجود لأي نقاش سياسي. في مناطق النظام، تبدو القضايا الكبرى مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
الجيل الجديد، خاصة بعد 2011، لم يعد يرى في إسرائيل عدوًا واضحًا، بل دولة بعيدة، لا تؤثر في حياته اليومية. والأخطر: أنه لم يعد يعرف الكثير عن فلسطين أصلاً، إلا ما يتداوله عبر المقاطع القصيرة أو الأخبار العاجلة.
تركيا وروسيا: تقاطع مصالح لا تناقض
تركيا رغم خطابها الإسلامي، تُشارك ميدانيًا في ترتيبات، لا تخدم المقاومة، بل تخدم إعادة ترتيب القوى، بما لا يُزعج إسرائيل. تعيد تدوير الفصائل، وتُبقي حدودها مضبوطة.
روسيا التي تدخلت لدعم النظام، وجدت نفسها شريكًا غير مباشر في مشروع تفكيك العداء. طالما احتفظت بمصالحها الاقتصادية والعسكرية، فهي لا تعترض.
الخلاصة: الخصمان السابقان لإسرائيل أصبحا شريكين في صمت، في هندسة إقليم خالٍ من الصراخ..
إسرائيل: لا حاجة لاتفاق جديد، بل لتعريف جديد للعدو
إسرائيل لم تعد تبحث عن توقيع مع دمشق، بل عن تحوّل في الخطاب الإقليمي. وهذا ما تحقق جزئيًا بتغيير المفاهيم:
المقاومة أصبحت “تهديدًا للأمن”.
فلسطين قضية معطلة.
العدو هو إيران، وهو ما تروج له الآن النخب اليهودية بمهارة، على أن العرب معها في هذا العداء لإيران، أو كل من يرفض الانخراط في الخريطة الجديدة.
كل ما تريده إسرائيل هو شرق أوسط لا يعاديها، ولا يذكرها، ولا يضعها في سلّم الأولويات.
الجامعات الشرعية: هندسة دينية جديدة
في عمق المشهد، تُعاد صياغة العقل الديني، بما يتناسب مع رسم الواقع الجديد.
حذف مفاهيم الجهاد في سبيل الله من مناهج العقيدة.
إعادة تعريف الولاء والبراء، بما يتناسب مع الجوار الإقليمي.
إنتاج خطباء جدد، يتحدثون عن السلام الاجتماعي، ويبتعدون عن قضية فلسطين.
لم يعد الدين في هذه الجامعات صوتًا للقضية، بل صار أداة لترويض الجماهير.
الهيمنة الجديدة: واشنطن ترسم… وإسرائيل تتمدد من الجولان إلى الخليج
ليس ما يجري في سوريا سوى قطعة من لوحة أوسع. الولايات المتحدة تسعى إلى هندسة شرق أوسط جديد، لا يخوض حروبًا مباشرة، بل يُدار عبر تحالفات مرنة واقتصاد مشروط وقواعد صارمة للأمن الرقمي وبالطبع أعلام ناعم، يكمل المهمة وبالطبع إسرائيل في قلب كل ذلك.
الهيمنة الأمريكية– الإسرائيلية، تأخذ الآن شكلًا جديدًا:
إدارة بلا جيوش: قوى محلية تُدير السياسات، تحت إشراف تقني أمريكي.
إسرائيل كقائد عمليات إقليمي: في الأمن السيبراني، والطاقة، والرقابة الحدودية.
العرب كمصفقين أو شركاء مشروطين: من القاهرة إلى الرياض إلى أبوظبي.
في هذا السياق، يصبح التطبيع أداة للضبط لا للسلام، ويتم ترويض العواصم العربية على قبول إسرائيل كضرورة وجودية، لا يمكن الفكاك منها.
مصر: حالة خاصة تحت الضغط
القاهرة التي ظلت لعقود مركز ثقل عربي، تجد نفسها أمام خريطة جديدة لا مكان فيها لدورها التقليدي. تل أبيب باتت ضيفًا مرحّبًا به في الخليج، وشريكًا في ملفات أمن البحر الأحمر، وحليفًا في تكنولوجيا الزراعة والطاقة تل أبيب في كل مكان..
بينما تُطوّق مصر بأزمات اقتصادية، تتزايد الضغوط الدولية لتنسجم مع “الرؤية الإقليمية الجديدة”، التي تقودها واشنطن، وتُنفذها إسرائيل.
النتيجة: شرق أوسط مُعاد ترتيبه بلا جيوش… ولكن بأذرع ناعمة.
كل شيء يُعاد تشكيله مفاهيم المقاومة تدفن، الخطاب القومي يعاد تعليبه والهوية تفرغ من معناها.
القوى المحلية تُدمج في تحالفات غير متجانسة، هدفها الأول والأخير: حماية الوضع القائم، وتأمين المصالح الأمريكية– الإسرائيلية.
والسؤال الأخطر الآن:
هل نحن أمام سلام؟ أم أمام نظام سيطرة مقنّعة؟
في كل الأحوال، إسرائيل لم تكن أبدًا بهذه القوة… لا عسكريًا، ولا سياسيًا، ولا حتى مفاهيميًا.
الشرق الأوسط يُعاد تصنيعه… وسوريا أول التجارب.
ما يحدث ليس فقط تطبيعًا بين دمشق وتل أبيب، بل هو مشروع إعادة تصنيع للمنطقة. تبدأ الخطة من الجنوب السوري، لكنّها تمتد إلى الجولان، لبنان، العراق، مصر، والخليج.
الخاتمة: هل ما زالت فلسطين في الطريق؟
حين يُعاد تعريف كل شيء– من الجغرافيا إلى التعليم، من العدو إلى الخطاب الديني– تصبح فلسطين سؤالًا، لا قضية.
هل ما زالت في الطريق؟ أم أصبحت خارج الخريطة؟ هل هي حاضرة في وعي الشعوب، أم معلّقة في أرشيف الذكريات؟
قائمة مختصرة بالمصادر:
- تقارير ISW – Institute for the Study of War
- تقارير مركز RUSI البريطاني
- وثائق وتصريحات من الخارجية الأمريكية
- بيانات وزارة الدفاع الإسرائيلية
- تقارير دورية لمركز كارنيجي ومركز المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية تقارير إعلامية حول تغييرات المناهج الدراسية السورية