بعد تخوفات سودانية، أعلن عنها منذ منتصف يوليو إزاء الأجندة التي كانت مرتقبة لاجتماع رباعية السودان (مصر والسعودية والإمارات وبرعاية الولايات المتحدة) في واشنطن نهاية يوليو الفائت، ومنها حرص واشنطن وأبوظبي على عقد محادثات مباشرة بين قادة الجيش السوداني وقادة ميليشيات الدعم السريع كطرفين متساويين، وصلت محطة الرباعية الأخيرة لتأجيل جديد، وربما إعلان وفاة مقترح الرباعية بصيغته الحالية (لا سيما مسألة شمول الإمارات رغم قطع السودان علاقاته الدبلوماسية الكاملة معها)، والعودة مجددًا إلى منابر أخرى أكثر مقبولية لدى السلطات الشرعية في السودان، وبدعم مصري معلن، كما اتضح في المحادثات الهاتفية التي عقدها وزيرا خارجية البلدين بدر عبد العاطي وعمر صديق (29 يوليو)، بعد وقت وجيز من إعلان تأجيل الاجتماع، وتأكيد وزير الخارجية المصري على دعم مصر الدائم “لسيادة السودان ومؤسساته الوطنية ووحدة أراضيه وسلامتها” ورفض مصر “لأية خطوات يمكن أن تهدد وحدة السودان” في إشارة لتكوين ما عرفت بالحكومة الموازية بدعم إماراتي، والبند الذي طرحته واشنطن في الساعات الأخيرة قبل الموعد المحدد لالتئام الرباعية باستبعاد الأطراف الفاعلة في أزمة السودان الحالية من المشهد وإطلاق مرحلة انتقالية بفاعلين “جدد”.
تأجيل الرباعية: جدل الأجندة
كانت أجندة الاجتماع المؤجل تستهدف تكوين رؤية مشتركة لإنهاء الحرب في السودان وتأمين التوصل لوقف شامل لإطلاق النار، ووضع أساس لعملية سياسية ذات مصداقية، ينخرط فيها جميع المعنيين السودانيين. كما كان مقررًا أن تركز الأجندة على إنهاء التدخل الأجنبي. كما استبعدت مصادر دبلوماسية قبيل موعد الاجتماع توسيع الرباعية لتشمل قطر والمملكة المتحدة، لافتة إلى حاجة أي تغييرات في تكوين المجموعة إلى اتفاق مسبق بين دولها الحالية؛ وللمفارقة، فإن تمثيل الإمارات في الرباعية بدا من اللحظة الأولى مستهجنًا من قبل السلطات القائمة في السودان (الذي قطع علاقاته مع الإمارات في ربيع العام الجاري)، ومثيرًا لعلامات استفهام لدي المراقبين حول فرص نجاح الرباعية في ظل ضلوع الإمارات بانتهاكات غير مسبوقة لسيادة السودان واستقلاله، حسب هذه السلطات. كما كان مرتقبًا صدور بيان مشترك بعد الاجتماع، يحدد موقف الرباعية من القضايا الرئيسة في السودان، ومن بينها تحقيق وقف دائم للأعمال العدائية، والبدء في حوار سياسي شامل، ووقف التورط الخارجي في الشؤون السودانية، (وهو بند بالغ السذاجة ويتجاهل ضلوع أطراف في الرباعية نفسه بتغذية هذا التدخل وفي مستويات معقدة للغاية)، وتيسير وصول الإغاثة الإنسانية، والتأكيد على دعم وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه.
ورغم تجاهل أطراف الرباعية لمخاوف السودان من تهميشه المتزايد في اجتماع يخص مستقبله، فإن الاجتماع نفسه واجه فشلًا ذريعًا منذ البداية وحتى إعلان تأجيله (29 يوليو) لينعقد في سبتمبر المقبل على خلفية ما ورد عن خلاف مصري إماراتي بشأن نص الإعلان المشترك الذي كان مفترضًا إعلانه في ختام الاجتماع على الدور المستقبلي للجيش النظامي وقوات الدعم السريع في عملية سلام مقترحة. وجاء فشل الاجتماع بعد تصميم الإمارات “على إدخالها في اللحظات الأخيرة تغييرًا في نص البيان (فيما يبدو بتنسيق تام مع واشنطن) بحيث يتضمن “عدم وجود للجيش و(ميليشيات) قوات الدعم السريع في العملية الانتقالية المستقبلية”، وحسب مصادر مطلعة في العملية فإن البيان (بإضافة الإمارات) حظي بقبول واشنطن وأبو ظبي والرياض فيما رفضته القاهرة، مما دفع واشنطن لقرار تأجيل الاجتماع “لموعد آخر”.
وتثير “إضافة” الإمارات، إضافة إلى ما أوردته “فايننشال تايمز” من رفض الخارجية الأمريكية اقتراحًا مصريًا قبيل موعد الاجتماع بساعات لشمول ممثل للقوات المسلحة السودانية في فعاليات الاجتماع، هواجس تعمد إفشال عمل الرباعية في المقام الأول، وانتهاز فرصة تعاظم الضغوط على القاهرة (كما قد يتمثل في قبول الرياض للإضافة ودلالة ذلك على تغير جذري محتمل في مقاربة السعودية للأزمة السودانية، لا ينفصل عن مجمل التغيرات الجارية في الإقليم بضغوط أمريكية غير مسبوقة) من أجل تغيير موقفها من الأزمة في السودان، بغض النظر عن تداعيات هذا الموقف الذي يعيد الأزمة في السودان– واقعيًا- إلى المربع صفر، ويفتح مستقبل البلاد على مرحلة جديدة من الفوضى والانتقال السياسي الهش ويحرم الجيش السوداني من منجزاته على الأرض، لا سيما مع وضع ذلك إلى جانب دعم الإمارات الكبير (بالتعاون مع بعض دول جوار السودان) لقيام حكومة موازية، تمثل غطاءً سياسيًا بينًا لميليشيا الدعم السريع.
مصر وخيارات تسوية الأزمة
في المجمل، يبدو أن أحد خيارات تسوية الأزمة الراهنة في السودان هو العودة إلى “منبر جدة”، وهو سيناريو متوقع بشكل كبير، برغم فشل المنبر في السنوات السابقة في إلزام ميليشيا الدعم السريع بتسوية محددة. ومن حيثيات هذا السيناريو قبول الرياض الضمني بالرؤية الإماراتية- الأمريكية لسبل تسوية الأزمة، والتي لا تعني بالضرورة سوى إطالة أمد الأزمة، (وربما إعادة إنتاجها) عبر تقديم خيارات غير واقعية، ستشمل بالضرورة إقصاء القوى السياسية الإسلامية (التي راكمت دعمًا كبيرًا لتحركات الجيش السوداني بعد إبريل 2023، وتمثل تقليديًا الثقل الانتخابي الأكبر في البلاد)، ووضع ضوابط “غير ديمقراطية” لعملية الانتقال الديمقراطي المرتقبة لضمان تمكين “قوى مدنية”، لا تتمتع في الواقع بشعبية انتخابية حاسمة وسط قطاعات المجتمع السوداني على المستوى الوطني.
لكن يبدو أن تجاوز وجود مؤسسة الجيش السوداني ودورها في مستقبل السودان، (أو ما وصفتها ميديا إثيوبية كالت الهجوم لمصر وموقفها “بإرساء تسوية بقيادة شخصيات مدنية محايدة برعاية دولية”)، سيظل “خطا أحمر” في رؤية مصر لمستقبل السودان وأية مرحلة انتقالية، يُتفق على بدئها. واتضح ذلك في مواصلة القاهرة مشاوراتها الوثيقة مع الخرطوم بعد تأجيل الاجتماع، وما جاء في محادثات هاتفية بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونظيره السوداني عمر صديق (30 يوليو)، وشملت مراجعة موقف مصر وجهودها لتحقيق السلام والاستقرار في السودان والحفاظ على موارد الشعب السوداني، “بما فيها مناقشات في إطار الرباعية الدولية حول السودان”، وحرص مصر، حسب تصريحات عبد العاطي، على رفض “أية خطوات قد تهدد وحدة السودان”، في إشارة إلى تكوين ما عرف بـ”بتحالف تأسيس السوداني” (الذي يقوده ميليشيات الدعم السريع) لحكومة سودانية انتقالية، حسب إعلانه في نيروبي (27 يوليو) بدعم إماراتي لمشاورات الخطوة المبدئية، مما اعتبره محللون سودانيون ضغطًا على الجيش السوداني بشكل مباشر لقبول مخرجات اجتماع الرباعية.
كما أكد عبد العاطي خلال وجوده في واشنطن ولقائه مع عضوي مجلس الشيوخ الأمريكي كريس فان هولن، وجيف ميركلي (1 أغسطس) على موقف مصر الذي يرى أهمية التوصل لاتفاق (دائم) لوقف إطلاق النار وضمان وصول الإغاثة الإنسانية للمناطق المتضررة، ودعم مصر لمؤسسات الدولة السودانية (وأبرزها الجيش السوداني) وضرورة احترام سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه.
ويتضح من مواقف القاهرة الحاسمة، وربما غير القابلة للتراجع في الفترة المقبلة، تجاه السودان ومعادلة ضرورة مقاربة الرباعية الدولية للأزمة من زاوية حماية وحدة السودان واستقلاله ومنع “التدخل الخارجي” (في إشارة باتت مباشرة تمامًا للإمارات)، أن خيارات القاهرة محسومة بالفعل. لكن تظل إشكالية ضغوط أطراف الرباعية الأخرى (الإمارات والسعودية والولايات المتحدة) المرتقبة في الفترة المقبلة التي ستزداد على مصر في الفترة المقبلة، تثير عددًا من المخاوف، قد لا تنتهي بانتقال المفاوضات إلى منبر جدة مرة أخرى.
الإمارات والرباعية: حصان طروادة
تواصل الإمارات، كما كان متوقعًا، الهجوم السياسي العنيف على قيادة الجيش السوداني بعد قرار الأخيرة الصادم بقطع كافة العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات (6 مايو)، مشفوعًا بحزمة تهم تمس صورة الإمارات الدولية بشكل لا لبس فيه. ولئن أتاحت الشراكة الاستراتيجية بين أبوظبي وواشنطن مساحات شاسعة لحركة الأولى في الملف السوداني، ودون مساءلة دولية جادة لأبعاد هذه الحركة (كما تمثل في خطوة ضمها غير المنطقية، حسب مراقبين سودانيين للرباعية)، فإن غايات الإمارات في السودان تتجاوز في واقع الأمر الاضطلاع بدور سياسي في الجهود الدولية “لحل الأزمة” إلى الدفع بقوة لخروج الجيش السوداني من أية مرحلة انتقالية سياسية. واتضح ذلك من البند الذي سعت أبوظبي لإضافته في بيان الرباعية المؤجلة، مع ملاحظة أن استبعاد الأطراف المتحاربة مستقبلًا لن يعني بأي حال من الأحوال التزام ميليشيات الدعم السريع بمثل هذه الخطوة، وأنها لديها تمثيل سياسي حقيقي سواء، فيما عرفت بحكومة تأسيس، أو مع قوى “مدنية” اضطلعت بأدوار تخادم لصالح الميليشيات منذ إبريل 2023، ولا يستبعد أن يتم انتقاء “شخصيات محايدة” (حسب مصطلح البند الإماراتي) لقيادة المرحلة الانتقالية من بين هذه القوى المدنية المتحالفة مع ميليشيات الدعم؛ مما يعني في نهاية المطاف إما مسار انتقال ديمقراطي شكلي، (يظل هدفًا إماراتيًا وأمريكيًا منذ سقوط نظام عمر البشير)، وإما دفع البلاد نحو السيناريو السوري في مراحله الأخيرة مباشرة.
بأي حال، فإن عمل الرباعية، حتى في حال انعقاد اجتماعها المؤجل في سبتمبر المقبل، سيظل مجرد أداة لتمرير السياسات الأمريكية- الإماراتية (والتي لم تعد تحظى بمعارضة سعودية تذكر، حسبما يفهم من ردود فعل الرياض في واشنطن مؤخرًا) تجاه الأزمة في السودان وتصورات حلها، وفي قلبها إبعاد قيادة القوات المسلحة السودانية عن المشهد السياسي، (وربما العسكري نفسه في فترة لاحقة عبر إطلاق عملية تفكيك منهجية). ويتوقع الأمر نفسه في حالة إطلاق محادثات جديدة انطلاقًا من “منبر جدة”، إذ لا يتوقع في ضوء قراءة المشهد الحالي، تبني الرياض نهجًا مخالفًا عن التنسيق المباشر مع واشنطن، وتهميش الأطراف الإقليمية الأخرى بمستوى أو بآخر.
وتظل الفترة المقبلة، والمواجهات على الأرض بين قوات الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع، حاسمة في تحديد قواعد عمل جهود التسوية، ووضع خطط لمستقبل مرحلة انتقالية في السودان، ومدى مقبولية هذه الخطط لدى مؤسسات الدولة السودانية، ومصر التي تعد حاليًا الداعم الأبرز لها، بغض النظر عن تكاليف هذا الدعم.