كانت المحادثات الهاتفية بين وزيري خارجية السعودية وإثيوبيا (25 يوليو) محطة جديدة ودالة، فيما يمكن وصفه بتوجه تنشيط إثيوبيا دبلوماسيتها الخليجية، لا سيما في ظل البيئة الإقليمية الجديدة التي خلفتها الحرب الإسرائيلية- الإيرانية (يونيو 2025)، لا سيما في التقاطعات الجيو استراتيجية بين إثيوبيا ودول الخليج العربي في جنوبي البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وأتاحت تداعيات هذه الحرب، ومن أبرزها ما يمكن ملاحظته من تبريد إيران لوتيرة توجهاتها في إفريقيا، حرية حركة خليجية، مشروطة في بعض جوانبها، مع استثناء واضح للإمارات من هذه المشروطية، بحكم امتداد روابطها الأمريكية- الإسرائيلية في مختلف قضايا الإقليم. كما مثلت بيئة ما بعد الحرب المذكورة فرصًا كبيرة وحقيقية لتعميق إثيوبيا ارتباطاتها الخليجية التي تتراوح من التعاون الاقتصادي الثنائي والاستثمارات الخليجية في إثيوبيا إلى تعميق التعاون العسكري والأمني، ولا سيما مساعي إثيوبيا الوصول إلى منفذ بحري.

تطورات دبلوماسية إثيوبيا الخليجية: العامل القطري

عمقت إثيوبيا في ظل الاهتمام الخليجي الكبير بالعلاقات معها، لاعتبارات المصالح الثنائية المباشرة وإمكانات توظيف دور إثيوبيا في القارة الإفريقية لصالح الدول الخليجية بشكل أو بآخر، دبلوماسية خليجية نشطة، تزامنت مع جهودها لتوظيف كافة القضايا الإقليمية في الدول المحيطة بها (بلا استثناء تقريبًا) لصالح مكاسب آنية، واستراتيجية، باتت مفهومة أكثر من أي وقت مضى. وعلى سبيل المثال، حضر الدعم الإماراتي (والخليجي في درجة تالية) لنظام آبي أحمد في مساعي الأخير للحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر في إريتريا المجاورة، الأمر الذي لفت إليه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في حديث نشرته وزارة الإعلام الإريترية (23 يوليو)، وتضمن انتقادًا مباشرًا لمساعي أبو ظبي الاستيلاء على حزمة مواني من “السويس إلى تنزانيا”، حسب وصفه، وتكثيف جهود أديس أبابا وأبوظبي للاستيلاء على المواني الإريترية. كما يمثل الدعم الخليجي لآبي أحمد قاطرة رئيسة في تعزيز سياسات الأخير في الصومال، وإنجاح الجهود الإثيوبية المستمرة للحفاظ على وضع “الأخ الكبير” لتوجيه الأمور داخل الصومال. إضافة إلى تجاهل مخاوف جيبوتي من الدور الإماراتي في البحر الأحمر، (وخاصة تجاه جيبوتي نفسها)، مما يهدد الصلة الإثيوبية- الجيبوتية، ويتسق مع سياسات أديس أبابا بالضغط على جيبوتي بعد رفض الأخيرة منح أديس أبابا ميناءً في أراضيها “بشروط سيادية”.

ومن هنا، فإن تنشيط أديس أبابا دبلوماسيتها الخليجية؛ يهدف إلى عدة مكاسب من بينها دعم الاقتصاد الإثيوبي مباشرة عبر الاستثمارات والتدفقات النقدية الخليجية المباشرة، (حيث شهد قطاع تمويل الدول الخليجية للجهود الإنسانية في إثيوبيا تطورات ملحوظة منذ نهاية العام الماضي بتحويل دول، مثل الإمارات وقطر والبحرين مئات الملايين من الدولارات لهذا الغرض بالتنسيق مع مؤسسات الأمم المتحدة المعنية)، وكذلك دعم سياسات إثيوبيا الإقليمية بشكل مباشر وغير مباشر، (كما يتضح في التنسيق العسكري الإماراتي- الإثيوبي رفيع المستوى، وبدعم عملياتي أمريكي، في ولاية بونتلاند الصومالية قبل الحرب الإسرائيلية الإيرانية وبعدها)، إضافة إلى بدء إثيوبيا في طرح نفسها كقوة فاعلة في مواجهة الإرهاب في القرن الإفريقي، إذ يلاحظ أن إثيوبيا قد أبدت إشارة حسن نوايا تجاه إدارة ترامب واهتمامها بهذا الملف– على سبيل المثال- بإعلان جهاز الاستخبارات الإثيوبي (15 يوليو) عن إلقاء القبض على نحو 90 إرهابيًا “من جناح داعش في الصومال”، وأن المقبوض عليهم كانوا يتدربون في إقليم بونتلاند بالصومال؛ بهدف توسيع أنشطتهم إلى دول أخرى من بينها إثيوبيا، وأن عمليات الاعتقال تمت في عدة مدن بإقليم أوروميا في غربي إثيوبيا، مما يؤشر إلى استعداد إثيوبي لدعم الجهود الأمريكية في هذا الملف بشكل خاص، وفي مجمل المقاربة الأمريكية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. وهي رواية تلقى قبولًا أمريكيًا وخليجيًا متزايدًا.

وبشكل أكثر تحديدًا فقد حققت العلاقات الإثيوبية القطرية تقدمًا مهمًا في فبراير الفائت، لا سيما في مسار تعميق الشراكة الاقتصادية بينهما. وقد أعلنت أديس أبابا حزمة مبادرات لتوفير “بيئة صديقة للأعمال”، وبذل جهود مكثفة تشمل تحرير قطاعات متنوعة في الاقتصاد، وتيسير القيام بمبادرات العمال، وجذب القطاع الخاص؛ بينما أكدت قطر (22 فبراير) على لسان سعد بن مبارك نعيمي، سفيرها في أديس أبابا ومبعوث قطر الدائم للاتحاد الإفريقي في العاصمة الإثيوبية، اتفاقها مع إثيوبيا على التزام الدوحة بتعزيز التدفقات الاستثمارية المتجهة إلى إثيوبيا. وعلى إطلاق إطار مؤسسات لهذا المسار بداية من انعقاد مؤتمر خاص بالمستثمرين القطريين في إثيوبيا؛ أملًا في إفساح الطريق أمام مزيد من العلاقات المستدامة بين البلدين. وتعمق هذا المسار في مايو الماضي، خلال زيارة قام بها وزير الدولة لشؤون وزارة الخارجية محمد بن عبد العزيز الخليفي (الذي نص “الأمر الأميري رقم (5)” تعيينه وزيرًا للدولة في العام 2023، على قيامه بمهام “جهود الوساطة وتسوية النزاعات ودعم دور دولة قطر في الحل السلمي للنزاعات) لأديس أبابا، وعقده لقاء مع رئيس الوزراء آبي أحمد لمناقشة علاقات التعاون الثنائي بين البلدين وسبل دعمها وتعزيزها؛ إضافة إلى حضور ما يعد بندًا خليجيًا تقليديًا في التوجه نحو إثيوبيا، باعتبارها بوابة ملكية للقارة الإفريقية، إذ تمت مناقشة التطورات في الأخيرة ورؤية قطر وإثيوبيا لها وسبل معالجة عدد منها. وتمت متابعة هذه الأجندة في اجتماع مطلع يونيو الماضي بين وزير الدولة للشئون الخارجية سلطان بن سعد المريخي، والسفير الإثيوبي في الدوحة، مما قد يؤشر إلى قرب توقيع البلدين اتفاقات تعاون مهمة في الشهور المقبلة.

وجاء ذلك مع وقوف قطر بقوة خلف توجهات إثيوبيا لتحقيق ما تعتبره استقرارا في ملفات إقليمية مثل المحادثات مع الصومال (التي ترعاها تركيا)، وجهود تقديم مساعدات إنسانية للمناطق المنكوبة من الحرب والظروف الطبيعية في إثيوبيا.

إثيوبيا والإمارات: تعزيز التحالف

تعمقت الصلات بين أديس أبابا وأبوظبي منذ وصول آبي احمد للسلطة في العام 2018، ومع اعتماد الأخير على الإمارات لنيل أشكال مختلفة من الدعم وعلى الصلة الخاصة التي باتت تجمعه برئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، تعزز وجود الإمارات الواضح في إثيوبيا، إذ تشير تقارير محلية إلى “تنازل آبي أحمد عن أرض الفشقة (السودانية) الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد على امتداد الحدود مع السودان للإمارات لتقوم بالاستثمار الزراعي بها، وأنه هناك ادعاءات عن محاولة آبي أحمد الحصول على منفذ للبحر الأحمر عبر السيطرة على مواني إريترية مثل عصب ومصوع (بدعم إماراتي)، ربما بطريق استخدام القوة، إضافة إلى معلومات عن بيع الحكومة الإثيوبية للكثير من المباني الجديدة في أديس أبابا لمستثمرين إماراتيين”.

كما يستمر تعويل آبي احمد على دعم الإمارات بمستويات متزايدة، خاصة أن الوضع الإقليمي بات أكثر عرضة للانفلات، وربما تجدد الحرب بين إثيوبيا وإريتريا. ومن جانبها اتهمت أسمرا الإمارات مباشرة بضلوعها وراء مطالب آبي أحمد القوية لحصول بلاده على منفذ بحري، وأن هذه المطالب لا تخص أديس أبابا وحدها، بل إنها “جزء من استراتيجية إماراتية أوسع نطاقًا” مع ما لاحظه أفورقي (23 يوليو)، من وقوف الإمارات خلف “عسكرة المواني والقواعد في اليمن والصومال”، وأن أبوظبي باتت تولي اهتمامها حاليًا بالاستيلاء على ميناء عصب الإريتري (من بوابة أجندة التعاون الإثيوبي الإريتري)، كما انتقد أفورقي بشكل واضح رئيس الإمارات، بتأكيده أنه “في طليعة هذا المشروع المربك (الذي يستهدف خلخلة إقليم القرن الإفريقي والسودان على وجه الخصوص في سياق حديث أفورقي الذي نشرته وزارة الإعلام الإريترية)، والذي يتضمن أجندة موسعة لضم (الإمارات) لمجموعة من المواني الممتدة من السويس شمالًا، حتى خليج عدن وتنزانيا جنوبًا.

وأكدت آمنة الشامسي وزيرة التغير المناخي والبيئة في الإمارات، نهاية يوليو الجاري، خلال استقبالها نظيرها الإثيوبي جيرما أمينتي، وجود علاقات استراتيجية ممتازة بين الإمارات وإثيوبيا في العديد من القطاعات، مع تكثيف تعاون البلدين في قطاع الزراعة على وجه الخصوص في المرحلة المقبلة. وتعهد الإمارات بتعزيز تعاونها مع إثيوبيا في مجالات مثل الاستثمار الزراعي والتعبئة، والشراكات بين القطاعين العام والخاص “بهدف تحقيق تنمية مستدامة وجذب مزيد من المستثمرين (الإماراتيين وغير الإماراتيين) لإثيوبيا”.

إثيوبيا والسعودية: اقتراب حذر

أجرت السعودية وإثيوبيا نهاية العام الماضي، ما وصفت بالجولة الأولى من المشاورات الثنائية بين وزارتي الخارجية بهما في الرياض؛ وركزت الجولة على سبل تعزيز التعاون الثنائي في مجالات متنوعة ومناقشة التطورات حول القضايا الإقليمية والدولية. وفي مارس من العام الجاري، عقد وزير الخارجية الإثيوبي جدعون تيموثيوس، محادثات رفيعة المستوى مع نائب وزير الخارجية السعودي، وليد عبد الكريم الخريجي (الذي ترأس جولة المشاورات السابقة) خلال زيارة الأخير لأديس أبابا. وأكدت الخارجية الإثيوبية وقتها تركيز الاجتماع على “تعزيز التعاون الاقتصادي، وتبادل وجهات النظر حول القضايا الثنائية والإقليمية الرئيسة”، لا سيما أنه تم وسط توتر متصاعد بين إثيوبيا وإريتريا واتهامات الأخيرة للأولى، بتبني مطامع توسعية بخصوص ميناء عصب الإريتري على البحر الأحمر، حسب البيان الإثيوبي. وهدف الاجتماع إلى حث السعودية على تهدئة المخاوف الإريترية، وتفنيد رواية أسمرا، خاصة بعد إرسالها رسالة للحكومة السعودية قبل الاجتماع، تحذر فيها السعودية (باعتبارها من أهم دول حوض البحر الأحمر) من اندفاعة إثيوبيا نحو شن حرب ضد إريتريا، وبالتزامن مع ما أوردته تقارير محلية إريترية موالية لحكومة أفورقي، أن أسمرا والرياض قد أكملا بالفعل الخطوط النهائية لاتفاق استثمارات سعودية في ميناء عصب.

وبغض النظر عن التنافس “المكتوم” بين الرياض وأبوظبي على مواني البحر الأحمر، فإن إثيوبيا تعزز قدرتها على المناورة لإقناع السعودية بأهمية وصول أديس أبابا لمنفذ بحري ووفق ترتيبات، لن تثير مخاوف السعودية، ومن بينها– كما يتوقع- الدخول في شراكات إثيوبية- سعودية، وتمكين السعودية من الاستفادة من مقدرات القطاع الزراعي الإثيوبي بشروط تنافسية، وتسخير الدبلوماسية الإثيوبية لخدمة سياسات السعودية في إفريقيا (أو دوائر التأثير الإثيوبي في القارة على الأقل).

ويبدو أن هذه البنود جميعًا كانت حاضرة في محادثات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بن عبد الله، مع نظيره الإثيوبي (25 يوليو) الهاتفية، والتي تمت خلالها مراجعة التعاون الثنائي ومواقف الرياض، وأديس أبابا من التطورات الإقليمية الأخيرة والجهود المبذولة لمعالجة تداعياتها. وتعول إثيوبيا على إسناد سعودي لها في ظل مقترحات حالية بتكوين “منتدى الأمن البحري في البحر الأحمر” بعضوية كل من مصر والسعودية والإمارات وجيبوتي والسودان وإثيوبيا، ومشاركة الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والأمم المتحدة كمراقبين.   

مصر والمقاربة الإثيوبية للخليج: تصعيد جديد؟

تتوازى تحركات أديس أبابا النشطة تجاه دول الخليج مع حراك دبلوماسي مصري في القرن الإفريقي، (أو ما بات يعرف بمحور الصومال- جيبوتي- إريتريا)، إضافة إلى تشديد مصر مواقفها في الأزمة السودانية لصالح دعم الدولة ومؤسساتها ومعارضتها القوية لأفكار الحكومة الموازية، الأمر الذي يؤشر إلى تمدد خطوط “المواجهة” المصرية الإثيوبية، وربما وصولها لمستوى يتجاوز الآفاق الدبلوماسية المتعارف عليها. وتبدو أدوار دول الخليج الراهنة حاسمة في مسار هذه “المواجهة”: فالإمارات تجاوزت بمراحل أية تخوفات مصرية تجاه الأوضاع في السودان، ومشروع تمكين إثيوبيا في الصومال (من بوابة تحالفات أديس أبابا مع عدد من ولاياته)، وإظهار عداء كامل تجاه جيبوتي وإريتريا، وعلى نحو يتطابق مع السياسات الإثيوبية الراهنة. أما السعودية، فإنها توازن بين علاقاتها الوطيدة مع مصر، وحسابات مصالح أي تقارب مع إثيوبيا يفيد في تحقيق مردودات اقتصادية وامنية وجيو سياسية للسعودية في القارة الإفريقية. وتجنح قطر– من جانبها- إلى بناء علاقات أوثق مع إثيوبيا على الأقل لتعزيز دور الدوحة في وساطاتها في الأزمات الإفريقية راهنًا.

ومع نجاح مصر في إرساء واقع جديد لدبلوماسيتها الإفريقية، وبداية ما يمكن وصفه بإعادة تشكيل صورة مصر وسياساتها الخارجية في القارة، كرقم مهم وفاعل على الأرض، فإن التفاهم الإثيوبي- الخليجي المتبادل، ووفق مستويات متعددة، سيمثل تهديدًا لمصر، ويتطلب منها تعميق علاقاتها مع الدول الإفريقية المعنية، والبناء على قواسم العمل المشترك بشكل مباشر.