“إن إسرائيل تشهد تدهورًا غير مسبوق في مكانتها الدولية”، و”تتعرض لتسونامي حقيقي، سيزداد سوءًا”، بعد أن وصلنا إلى “أسوأ ما مررنا به (في تاريخنا) على الإطلاق”.
جاءت هذه العبارات الحادة من “إيتمار آيخنر” في صحيفة يديعوت أحرونوت”، لتعكس مدى التحول الهائل في الموقف الدولي من إسرائيل في الأشهر الأخيرة، والتي وصلت إلى انقلاب ضخم للرأي العام العالمي، بل وحتى الإسرائيلي الداخلي ضد سياساتها، في زلزال سياسي لم يكن بالحسبان.
إسرائيل تواجه عزلة غير مسبوقة
هذا التحول أظهر هزيمة إسرائيلية واضحة في معركة كسب الرأي العام العالمي، بما فيه الأوروبي والأمريكي، مع استمرار الانتقادات، وآلاف المظاهرات الحاشدة في كل أنحاء العالم ضد جرائم الحرب والتجويع، والاعتراف الرسمي بنية التطهير العرقي والإبادة الجماعية، بل وممارستها، عبر قتل أكثر من 60 ألف ضحية موثقة، وما يزيد عن 18 ألف طفل، والتدمير التام للبنية التحتية، ما جعل غزة غير قابلة للحياة.
أنصار فلسطين نجحوا في كسب “معركة الصورة”، ما دفع حتى ترامب ونائبه “جي دي فانس”، ورئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” للاستشهاد بصور المجاعة المنتشرة، في دعواتهم لتغييرات جذرية في غزة.
وكذلك ضغط لإصدار 28 دولة غربية بيانا يدين القتل غير الإنساني للأبرياء، ويصر على وقف غير مشروط لإطلاق النار مع وصول معاناة المدنيين لمستويات غير مسبوقة، ما أدى لتداعيات دبلوماسية واضحة ببحث فرض الاتحاد الأوربي لعقوبات سياسية واقتصادية ضد إسرائيل، بل وإعلان بعض دوله الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
حتى ألمانيا أشد المؤيدين لإسرائيل، غيّرت موقفها بشكل مفاجئ، حيث اعترف وزير خارجيتها “فاديفول”، بأن إسرائيل “تزداد عزلة دبلوماسياً”، بعد أن بلغت معاناة الناس هناك أبعادا لا يمكن تصورها، مطالبا إسرائيل بالتحرك الفوري والشامل والمستدام لمعالجة الكارثة الإنسانية في غزة.
فشل إسرائيلي في حرب العقول والقلوب
صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، كشفت في تحقيقها المطول “الفشل على الجبهة الثامنة” عن بعض أسباب وتفاصيل خسارة إسرائيل، “حرب السرديات الإعلامية” عالمياً، رغم إضافة نتنياهو “معركة الحقيقة” إلى جبهاته السبع (غزة، والضفة الغربية ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وإيران)، وحذرت الصحيفة، من أن ثبوت تهمة “الإبادة الجماعية” في غزة قد يعزل إسرائيل دولياً، ويمنع الإسرائيليين من السفر أو التعامل مع دول أوروبا، مع تعرض بعضهم فعلا للحصار والهجوم والملاحقة في بعض الدول.
وأقر مسئولون إسرائيليون حاليون وسابقون للصحيفة، رفضوا الكشف عن هوياتهم (من رئاسة الحكومة والخارجية والجيش)، بأن الأزمة ناتجة عن سياسات الحكومة الفاشلة والخلل الداخلي، وأشاروا أنه لتعويض الخسارة الإعلامية، تعمل إسرائيل على عدة جبهات منها:
إنشاء “غرفة حرب إعلامية” لمراقبة السرديات العالمية، واستضافة وفود من المؤثرين وصناع القرار بحوالي 550 شخصا حتى نهاية 2025، والتعاون مع منتدى “جي 50” لقادة الجاليات اليهودية، وتعزيز التحالف مع “المجتمعات المسيحية الإنجيلية”.
“إيمانويل نحشون” (المتحدث الأسبق لشيمون بيريز)، وصف الدبلوماسية الإسرائيلية بـ”الكارثية”، محملا اللوم كله للحكومة الإسرائيلية بانعدام الاستراتيجية أو الدبلوماسية والرسالة الموحدة، والتي كانت “شعب يعود إلى وطنه بعد ألفي عام، ويعيد بناء دولة ذات سيادة، ويمد يده للسلام”، بينما الآن لا يوجد اتفاق على ماهية إسرائيل، وإذا لم نتفق فيما بيننا، فكيف لنا أن نقنع أي شخص آخر؟.
وختمت الصحيفة معترفة، بأن استمرار الحرب أدى لتآكل شرعية إسرائيل حتى في نظر حلفائها، وبذا لا يمكن لإسرائيل أن تنتصر على الجبهة الثامنة.
—
يهود العالم يرفضون التوظيف السياسي للهولوكوست
لكن بالمقابل ومنذ اللحظة الأولى، وجهت عديد من الشخصيات والمنظمات اليهودية العالمية- في الولايات المتحدة وأوروبا- انتقادات حادة لجرائم الحرب، ورفضوا الخلط بين اليهود وإسرائيل، أو استغلال الهولوكوست لتبرير أي شيء تفعله، مثل منظمة “الصوت اليهودي” الألمانية، التي كانت، ولا تزال على رأس المظاهرات الاحتجاجية، ومن أعلى الأصوات المنتقدة في ألمانيا.
وظهر هذا أيضا في انتقادات شخصيات مثل، المرشح الرئاسي الأمريكي اليهودي الأسبق” بيرني ساندرز”، بل وفي وصف المدعى العام لجرائم الحرب “ريد برودي”، ابن ناج من المحرقة، بأن نتنياهو أيضا يقوم بـ”هولوكوست”، بقوله: “إن محرقة واحدة لا تبرر أخرى”، ولا يمكن استدعاء المحرقة، للسماح لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب اليوم.
وكذلك في قيام المؤرخ اليهودي الأمريكي “نورمان فنكلشتاين”مؤلف كتاب “صناعة الهولوكوست”، وابن ناجيين من المحرقة، بالمقارنة بين إسرائيل والنازية، بتشبيهه لتجويع وقتل الفلسطينيين كـ”مصيدة فئران”، بغرف الغاز في معسكر اعتقال “آوشفيتس”.
كيف اخترقت الانتقادات الحادة الخطاب الإسرائيلي الموحد
التطور الأكثر مفاجأة، كان في تزايد وانتشار حدة الانتقادات الحادة في الداخل الإسرائيلي نفسه، بعد أن كانت مقتصرة لفترة طويلة منذ 7 أكتوبر على مواقع إخبارية محدودة مثل “هآرتس” و”مجلة +972″، وبعض جمعيات حقوق الإنسان، بينما التزم باقي الإعلام الإسرائيلي بعدم نقل الحقيقة، والانحياز لرواية حكومته، بينما الغالبية العظمى من سكان إسرائيل اليهود، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي “جيروم بوردون” لا يرون، أو لا يريدون، أن يروا، معاناة سكان غزة.
في الوقت الذي كان الإعلام الإسرائيلي والعالمي بأسره منحازا في بداية الحرب بصورة مطلقة، لكل ما تقوم به حكومة نتنياهو، ارتفعت بعض الأصوات اليسارية الحادة ضد نتنياهو، خاصة في “هآرتس”، مثل “عيتاي ماك” الذي أكد أن الجرائم ضد الإنسانية في غزة ستؤدي إلى النهاية السياسية والأخلاقية لإسرائيل نفسها، وأن نتنياهو يشكل تهديدا وجوديا لبقاء إسرائيل، بل ولكثير من دول العالم.
وكذلك “أميرة هاس” التي حذرت، من أن نتنياهو يهدد بتوريطنا جميعا في حرب إقليمية، إن لم تكن حرب عالمية ثالثة، من شأنها أن تعرض أمن إسرائيل، بل ووجودها أيضا للخطر.
انهيار الجدار الإعلامي الإسرائيلي
لكن مع استمرار وتزايد جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة عبر القتل والتجويع، وانهيار صورة إسرائيل في عيون وقلوب العالم، وتحولها لدولة منبوذة عالميا، بدأ يحدث انهيار في جدار الإعلام الإسرائيلي المؤيد لحكومته، ويعترف بما كان نتنياهو والغرب يرفضون أي إشارة له، وبعض الدول كألمانيا تعتبر الحديث عنه “معاداة للسامية”.
هذا ما انعكس في أمثلة عدة، منها عنوان تقرير منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية “إبادتنا”، الذي أكدت فيه أن إسرائيل تقوم بتطهير عرقي وإبادة جماعية، تتم بتقاعس دولي، وتجاهل وتمكين أوروبي أمريكي.
وكذلك تأكيد “ديفيد ليفي” على نية “التطهير العرقي المتعمد”، و”الإبادة الجماعية”، وأن ما يحدث يستوفي شرط “القصد الإبادي” القانوني، كما نصّت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة، ووجه انتقادات لاذعًا للمجتمع الدولي لتقاعسه وتواطؤه، بل ووصوله للتشبيه بين تصرفات إسرائيل بالنازية، بمقال بعنوان “إنكار المجاعة في غزة، ليس أقل دناءة من إنكار الهولوكوست”!
ولم يقتصر الأمر على الصحفيين، بل وصل إلى السياسيين الكبار، بحجم رئيس الوزراء الأسبق “إيهود أولمرت” الذي اتهم نتنياهو بالخيانة والسماح بارتكاب جرائم حرب، واعتبره خطرا على بلاده بوضعها في أعمق أزمة داخلية في تاريخها، مع تهديده للمنطقة بأسرها بالفوضى وعدم الاستقرار، ليختم تصريحاته مع مجلة “دير شبيجل” التي وضعتها عنوانا للمقابلة معه: “كفى، لقد قتلنا ما يكفي، ودمرنا ما يكفي”.
وتطورت الانتقادات لتشمل قطاعات أكبر من المجتمع منها المثقفين والفنانين والنشطاء، مع قيام 31 شخصية عامة إسرائيلية، (تضم سياسيين ومثقفين بينهم رئيس برلمان ونائب عام سابقين وحائز على جائزة الأوسكار) بنشر رسالة يتهمون فيها إسرائيل بـ”تجويع سكان غزة حتى الموت، ونية تهجير ملايين الفلسطينيين قسرًا من القطاع”، ويعلنون تبرؤهم وخجلهم من ذلك، ومطالبتهم للمجتمع الدولي بفرض “عقوبات صارمة على إسرائيل”، حتى تُنهي ما وصفه بهذه “الحملة الوحشية”، وتُطبّق وقفًا دائمًا لإطلاق النار.
هذا كله ما جعل “فيل روزنبرج” زعيم “مجلس نواب يهود بريطانيا”، يؤكد في اجتماع مع مجلسه- حسب صحيفة “جويش كرونيكيل” – “إن إسرائيل معرضة بشكل متزايد لخطر التحول إلى دولة منبوذة”.
ولكن هل تنهار الحصانة اللا أخلاقية لإسرائيل؟!
هذا ما علق عليه الباحث الأمريكي “تود ستورمر” مؤلف كتاب “التاريخ المقاوم”، بالقول إن غزة تُغير كل شيء، في كيفية دراستنا للتاريخ، بل وفي إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية العالمية بأسرها، حيث لم تعد إسرائيل قادرة على الاعتماد على “بطاقة الهولوكوست” لتبرير سياساتها، وهو ما قد يُحدث تحولاً تاريخيًا في موازين القوة الأخلاقية والسياسية!
—-
مصادر:
إيتمار آيخنر في يديعوت أحرونوت: لم تعد إسرائيل تتمتع بالشرعية الدولية لشن الحرب
https://www.ynetnews.com/opinions-analysis/article/hjgpvhkfxe
إسرائيل في عزلة: تسونامي من الرفض العالمي
https://www.asianewslb.com/en/?page=article&id=27
ألمانيا تحذر إسرائيل من زيادة عزلتها الدبلوماسية
https://shorturl.at/Zlydc
تايمز أوف إسرائيل: الفشل على الجبهة الثامنة: التكلفة المتزايدة لدبلوماسية إسرائيل العامة المتعثرة
https://www.timesofisrael.com/failing-on-the-8th-front-the-mounting-cost-of-israels-dysfunctional-public-diplomacy/
لوموند: الغالبية العظمى من يهود إسرائيل لا يريدون رؤية معاناة سكان غزة
https://www.lemonde.fr/en/international/article/2024/04/07/the-vast-majority-of-israel-s-jewish-population-don-t-want-to-see-the-gazans-suffering_6667664_4.html
“ريد برودي” المدعي العام لجرائم الحرب:”إن محرقة واحدة لا تبرر أخرى”
https://www.democracynow.org/2023/11/16/israel_impunity
“نورمان فنكلشتاين”: ما يحدث في غزة نموذج “مصيدة فئران”، كغرف الغاز في معسكر اعتقال “آوشفيتس”
https://youtube.com/shorts/CgwYxU36xQI?feature=shared
عيتاي ماك– “هآرتس”: “نتنياهو يشكل تهديدًا وجوديًا لبقاء إسرائيل”
https://shorturl.at/qZtcF
أميرة هاس– “هآرتس”: نتنياهو يهدد وجود إسرائيل، بحرب إقليمية وربما عالمية ثالثة
https://shorturl.at/hkwwF
جدعون ليفي– هآرتس: “إنها ليست مجرد حرب، بل إبادة جماعية، وتُرتكب باسمنا”
https://shorturl.at/2pfXZ
منظمة “بتسليم” الحقوقية الإسرائيلية: “إبادتنا” (بالعربية والإنجليزية)
https://www.btselem.org/arabic/publications/202507_our_genocide
https://www.btselem.org/publications/202507_our_genocide
جدعون ليفي– “هآرتس”: “إنكار المجاعة في غزة ليس أقل دناءة من إنكار الهولوكوست”
https://shorturl.at/Xh361
أولمرت: مقابلة مع دويتشه فيله، عن خيانة نتنياهو وسماحه بالفوضى وارتكاب جرائم حرب
https://shorturl.at/KWB4R
شخصيات عامة إسرائيلية تدعو إلى فرض “عقوبات قاسية” على إسرائيل بسبب تجويع غزة
https://www.theguardian.com/world/2025/jul/29/letter-sanctions-israel-gaza-starvation
“: “جويش كرونيكل”: إسرائيل معرضة لخطر التحول إلى “دولة منبوذة”
https://www.thejc.com/news/uk/israel-pariah-state-board-president-e8acly0n
الباحث الأمريكي “تود ستورمر”: “غزة تغير كل شيء، التاريخ وإعادة كتابة الذاكرة الجماعية”
https://www.instagram.com/reel/DM3AGKKh1bg/?igsh=OTllNG9jemE5cHl3