الشرق الأوسط المعاصر مثله مثل الشرق الأدنى القديم، تتنافس أو تتصارع على السيادة فيه ثلاث قوى، كانت وما زالت وهي: من الشرق هضبة إيران، ومن الغرب آسيا الصغرى أو الأناضول، ومن القلب وادي النيل. أما الشام حيث توجد إسرائيل فقد كان في كل عصوره موضعاً للصراع بين هذه القوى الثلاث، ولم يكن الشام صاحب سيادة على نفسه إلا مع الإسلام وانتقال عاصمة الأمة الناشئة من المدينة المنورة إلى دمشق، مع انتقال الدولة الناشئة من حكم الخلفاء إلى حكم بني أمية، فعلى مدى ما يقرب من قرن من الزمان، أصبح الشام هو قلب السياسة الدولية، حيث امتدت إمبراطورية الأمويين على بساط ثلاث قارات، من شمال الهند إلى الأطلنطي. في الشرق الأدنى القديم، كان الشام محلاً للصراع بين ثلاث إمبراطوريات عظمى، وهم ميتاني ذات الأصل الآري في الشرق، والحيثيون في الغرب، ومصر في القلب. ولتفهم دور مصر وموقعها من الصراع بإيجاز، يلزمك أن تعرف أن مصر في عصر الدولتين القديمة والوسيطة لم تكن تعبأ بما وراء سيناء، ثم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، جاءها أول احتلال حيث الرعاة الهكسوس الذين تمكنوا من السيطرة على الدلتا قريباً من قرنين من الزمان، وكان هذا الاحتلال نقطة تحول في التاريخ، حيث لم يكن أمام المصريين إلا أن يكونوا إمبراطورية عسكرية مقاتلة، فنشأت الدولة الحديثة 1570 – 1070 قبل الميلاد، هذه الدولة التي رسمت المجال الحيوي لمصر في شمالها الشرقي، وفي غرب آسيا من ذاك التاريخ حتى يومنا هذا. هذا المجال الحيوي فهمه تحتمس الثالث 1481 – 1425 قبل الميلاد، حيث أدرك أن الخطر يتهدد مصر من الشام، والشام موضع للنفوذ الآري، حيث إمبراطورية ميتاني، كما هي موضع لنفوذ إمبراطورية الحيثيين، فكانت معركة مجدو 1457 قبل الميلاد. كذلك فهم هذا المجال الحيوي رمسيس الثاني 1279- 1213 قبل الميلاد، فكانت معركة قادش 1274 قبل الميلاد. كان الهكسوس أول خطر يأتي من الشام في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وتوالت الأخطار عبر التاريخ، حتى الخطر الإسرائيلي عند منتصف القرن العشرين، وقد احتل سيناء مرتين بينهما عشر سنوات 1956 – 1967. هذا المجال الحيوي يفرض نفسه بالغريزة السياسية على كل من يحكم مصر، غريزة البقاء، غريزة الأمن، غريزة اليقظة، التي هي ألف باء السياسة، لم يحكم مصر حاكم، يتمتع بغرائز السياسة، إلا وأدرك أن بقاءه في حكم مصر يستلزم تأمين مصر في مجالها الحيوي من الفرات في الشمال الشرقي، حتى آسيا الصغرى أو الأناضول في الشمال الغربي، أو غرب آسيا على العموم: الفاطميون انطلقوا من مصر إلى الشام، حتى حاصروا الخلافة العباسية في مقرها في بغداد على مساحة أشبه ما تكون بمساحة دولة الفاتيكان، فأسس الفاطميون إمبراطورية تكاد تكون صورة مستنسخة من إمبراطورية تحتمس الثالث، وهو ما تكرر بحذافيره مع صلاح الدين، كما تكرر مع المماليك الذين كانوا آخر من تمتع بأقوى غرائز السياسة، فوقفوا على إمكانات مصر، حتى جعلوا منها إمبراطورية مثالية على طراز تحتمس الثالث، لقد كان عصر المماليك 1250 – 1517 هو أزهى عصور مصر السياسية منذ الفراعنة، أو منذ فقدت مصر استقلالها لأول مرة أمام الفرس عند منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، وبالتحديد 525 قبل الميلاد.

عند مطلع القرن السادس عشر، كان الشرق الوسيط موزعاً بين ثلاث قوى: الصفويين في فارس، والعثمانيين في آسيا الصغرى أو الأناضول، والمماليك في مصر والشام. الصفويون والعثمانيون كل منهما كان قوة متحفزة، تقف على أعتاب التاريخ صاعدة نحو المجد، أما قوة المماليك فكانت في طور الأفول، وكانت ممتلكاتها في مصر والشام والحجاز واليمن والبحرين الأحمر والمتوسط، بما فيهما من مواني وجزر، كل ذلك كان محل أطماع الصفويين والعثمانيين، وكلاهما في وقت واحد، كان يفكر أن يسبق الآخر نحو التهام الإمبراطورية المصرية، سقطت مصر بين أيدي العثمانيين، وانتقلت من إمبراطورية عظمى، تحكم من حولها إلى مجرد ولاية محكومة من المركز الاستعماري في الأستانة. ثم عند النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان علي بك الكبير 1728 – 1773 يجدد إدراك واكتشاف المجال الحيوي لمصر، فسارت به غريزة السياسة الطبيعية على خطى تحتمس الثالث حتى المماليك العظام. ولم تكد أقدام نابليون تطأ تراب مصر، حتى وجه بصره صوب الشام. ثم نجح محمد علي باشا- بصورة مثالية- في اكتشاف ثم إحياء المجال الحيوي لمصر في وثبة عظيمة، أضاءت تاريخ مصر المعاصرة، وقشعت عنها ظلام ثلاثة قرون من الخمول تحت الإدارة العثمانية، لقد استطاع الباشا، أن يفهم إمكانات مصر وقدرتها على بسط كلمتها على من حولها، فكان هو تحتمس الثالث الجديد بحذافيره في التاريخ، وقد صدق الدكتور جمال حمدان، حيث وصفه بآخر المماليك العظام، وأول الفراعين الجدد. كذلك صدق دكتور جمال حمدان، حينما وصف جمال عبد الناصر، بأنه أول المماليك الجدد وآخر الفراعين العظام، فمثله مثل محمد علي باشا، يمتاز جمال عبد الناصر، أنه كان يمتلك غريزة السياسة العظمى، غريزة أن أمن مصر متصل غير منفصل عن معادلة الشرق الأدنى القديم: هضبة إيران، الأناضول، وادي النيل. لكن غريزة السياسة الكبرى عند عبد الناصر، كان عليها أن تواجه ثلاثة تحديات عظمى: بقايا الاستعمار الأوروبي، الصراع السوفيتي الأمريكي على النفوذ والهيمنة والمصالح في الشرق الأوسط، ثم الأخطر وهو تأسيس إسرائيل. محمد علي باشا تعامل مع بقايا الهيمنة العثمانية ذات السيادة الاسمية على مصر، كما تعامل مع أطماع الروس في الممتلكات العثمانية، كما تعامل مع الصراع الفرنسي البريطاني على مصر، وبغريزة السياسة استطاع أن يكون سيد نفسه، وسيد مصر وسيد إمبراطورية كبرى مساحتها عشر أمثال مساحة مصر.  عبد الناصر- رغم ضعف الإمكانات المادية لبلد خارج من احتلال، استمر ثلاثة أرباع قرن- استطاع من 1954ــ 1967، أن يكون سيد مصر الأوحد بعد عقود تمزقت فيها السيادة بين قوة الاحتلال والقصر الخديوي أو السلطاني أو الملكي، ثم الشعب ممثلاً في قيادة الوفد التاريخية سعد زغلول ثم النحاس، جمع عبد الناصر كل مفاصل السيادة بين يديه سيداً أوحد لمصر، ثم نجح في أن تكون مصر سيدة العرب والشرق الأوسط، كانت الكلمة كلمة مصر، لا إيران، ولا تركيا، ولا العراق، ولا السعودية، ولا إسرائيل، ولا أمريكا، ولا السوفيت، حتى كانت الهزيمة 1967، انتهى تاريخ، وبدأ تاريخ جديد، لكن أيا ما يكون التاريخ الجديد، فسوف يكتشف أنه لا بديل عن المعادلة القديمة، معادلة الشرق الأدنى القديم في الألف الثانية قبل الميلاد، وأنها لا تزال هي المعادلة الغريزية الكامنة في عصب الشرق الأوسط المعاصر، حيث ثلاث قوى: إيران، تركيا، مصر، تتنافس أكثر مما تتعاون، لكن تظل هي، وهي فقط، القوى العمدة التي ينهض عليها الشرق الأوسط.

الأساليب العسكرية من تحتمس الثالث، حتى محمد علي باشا في مصر، لم تعد هي الأساليب المناسبة لهذا العصر، السلاح والتفوق العسكري مهم، لكن ليس هو كل شيء، يلزم أولاً، أن نكون قوة معاصرة، ومعنى معاصرة هو الحكم الرشيد المسئول المقيد بضوابط المصالح العامة، سواء كان على نمط الديمقراطية الليبرالية الغربية، أو كان على النمط الآسيوي الصيني، فالصين ليس ديمقراطية غربية، لكنه حكم رشيد مسئول غير مطلق من كل قيد وضابط. 

لقد جرب شاه إيران، أن يكون قوة معاصرة، لكن دون حكم رشيد مسئول مقيد بضوابط المصلحة العامة، فسقط رغم أنه كان يمتلك واحدة من أقوى ترسانات السلاح في العالم، حيث كان الجيش الإيراني يحتل الترتيب الخامس بين جيوش العالم  .

إيران وتركيا ومصر- كدول حديثة- متقاربة من حيث تاريخ النشأة: مصر 1922، تركيا 1923، إيران 1925، كما تتقارب تجارب الشعوب في الدول الثلاث، من حيث النضال من أجل الحداثة والديمقراطية واللحاق بركب التقدم، ويمكن تلخيص مراكز قوة الدول الثلاث في الشرق الأوسط الراهن في اللحظة المعملية الميدانية يوم 8 ديسمبر 2024 يوم سقط النظام القديم في سوريا، وحل مكانه نظام جديد حيث: تركيا في لحظة إقدام، وإيران على العكس في لحظة انكسار، ومصر ليست في قلب العملية.

……………….

 لكن هذه اللحظة السورية بمقدار ما هي كاشفة، وبمقدار ما هي صادمة، فهي في الوقت ذاته طارئة مؤقتة، لها ما بعدها.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.