الحق في الغذاء: من التكية إلى الجوع المقنع

من الفتة إلى الفول: الذاكرة التي تتآكل على المائدة

في الماضي، كان الطعام في مصر مرآةً للهوية الثقافية والاجتماعية: الملوخية مع البط برائحتها، والفتة مع اللحم في مواسمها، والفول في صباحاته الشعبية. أما اليوم، فقد تحوّلت هذه الذاكرة الغذائية إلى حنين موجع، بعدما أصبحت موائد المصريين تعكس واقعًا اقتصاديًا قاسيًا، لا يرحم ولا يُبقي للكرامة متّسعًا.. من جوع.

المصريون لا يغيّرون عاداتهم الغذائية؛ لأنهم أرادوا، بل لأن أسعار الطعام تفرض عليهم نمطًا جديدًا من الصراع للبقاء. لم تعد الخيارات قائمة بين نوعٍ وآخر، بل بين الأكل وعدمه. البروتين اختفى، الخضار تراجع، والخبز صار سيد السُفرة، بلا منازع حتى إشعار آخر..

نحن لا نشهد أزمة طعام، بل تحوّلًا بنيويًا في معنى الغذاء ذاته: من عنصر حياة… إلى عبء يومي، ومن مصدر طاقة… إلى مظهر للفقر المستتر، تحت ضغط الأسعار، وشح الدخل، وغياب نظم الحماية الكافية لسد الاجتياحات، لم يعد سؤال الغذاء في مصر اجتماعيا أو صحيا، بل تحول لسؤال وجودي: هل لا يزال للمصريين الحق في الغذاء؟

 وهل باتت التكية الحديثة بما فيها من إحسان شعبي ومساعدات رسمية، بديلا عن مسئولية الدولة في تأمين أساس الحياة، دعونا نطرح الأوراق ونقرأ بالأرقام.

خريطة الجوع في مصر: عندما تتجاوز الفجوة 120%

لم يعد الفقر في مصر مجرد رقم في تقارير البنك الدولي، بل أصبح ملموسا محسوسا على موائد الطعام التي تراجعت من ثلاث وجبات مشبعة، إلى واحدة في نسب تتحدث عن الحقيقة.

بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يعيش نحو 30% من المصريين تحت خط الفقر. لكن الفقر النقدي لا يعكس كل الحقيقة، فهناك ما يُعرف بـ “الفقر الغذائي”، وهو عجز الأسر عن تأمين احتياجاتها من العناصر الغذائية الأساسية المطلوبة لبقاء واستمرار الحياة بشكل طبيعي وإنساني.

في تقارير مستقلة مثل، تقرير الفاو، واليونيسف، إشارة إلى أن نحو 60%من المصريين لا يحصلون على الغذاء الكافي من حيث النوعية أو الكمية.

في محافظات مثل سوهاج والمنيا وأسيوط، لا يتجاوز دخل الأسرة الشهري 3500 جنيه، بينما يحتاج متوسط الإنفاق الغذائي لعائلة مكونة من 4 أفراد نحو 11,000 جنيه شهريًا، وفقًا لتقديرات خبراء التغذية. الفجوة هنا تتجاوز 120%، ما يعني أن ملايين المصريين يستهلكون أقل من نصف احتياجاتهم الغذائية، وبالتالي التساؤل الذي يطرح نفسه، ما الذي يأكله المصريون فعليا؟

الخبز المدعوم أصبح عمود المائدة. يليه الفول والبطاطس، فيما تراجعت اللحوم والدواجن إلى مناسبات موسمية. البيض يُشترى بالحبة، والطماطم تُستبدل أحيانًا بمعجون صناعي.

في المدارس، يتناول بعض الأطفال وجبات من “بطاطس وشاي”، بينما تُباع وجبات الكشري في بعض المطاعم الشعبية من دون عدس، مكتفية بالمكرونة والبصل فقط.

هذا التحول لا يُعبر فقط عن تغيرات اقتصادية، بل عن تبدل في مفهوم “الوجبة” نفسها. فبدلًا من الوجبة المتوازنة، أصبح الهدف هو الوجبة المشبعة، أو بمعنى أصح التي تملأ المعدة بأقل تكلفة، وبالتالي لا تظهر الأزمة في صورة المجاعة الكلاسيكية، بل فيما يسميه الاقتصاديون “الجوع المقنع” أو الشبع الكاذب الناتج عن الاعتماد على النشويات الرخيصة منخفضة القيمة الغذائية.

السلع الأساسية: الأسعار تسبق الدخول بأربعة أضعاف

في وجدان المصريين، لم تكن المائدة تكتمل من دون اللبن، والبيض، والجبن، والخبز، إلى جانب طبق الفول الصباحي أو العدس الشتوي الدافئ. لكن مع مرور السنوات، تحوّلت هذه العناصر من روتين يومي إلى رفاهية مستترة، لا يقدر عليها الجميع. يكفي إلقاء نظرة على تغير الأسعار خلال السنوات العشر الأخيرة، حتى ندرك حجم القفزة التي كسرت ظهر المستهلك، وبدّلت أولويات المطبخ المصري من “التنوع” إلى “الحد الأدنى للبقاء”.

ففي عام 2015، كان سعر لتر اللبن لا يتجاوز 5.5 جنيهات، بينما تخطّى اليوم حاجز 38 جنيهًا، أي بزيادة أكثر من 500% بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتقارير منافذ البيع في القاهرة والوجه البحري. أما البيضة الواحدة، التي كانت تُشترى بجنيه وربع، فقد أصبحت تُباع في بعض المناطق بـ6 جنيهات، بل تصل إلى 7 جنيهات في السوق السوداء، وإن انخفضت مؤخرا مقارنة بالفترات السابقة.

اللحوم شهدت واحدة من أكثر القفزات لفتًا للانتباه؛ فاللحم البلدي، الذي كان يُباع بـ75 جنيهًا للكيلو في 2015، تجاوز 370 جنيهًا في بداية 2025، أي تضاعف سعره تقريبًا خمس مرات. كما ارتفع كيلو الفول من 7 جنيهات إلى نحو 52 جنيهًا، والعدس من 10 إلى 70 جنيهًا، والجبن الأبيض من 18 إلى 95 جنيهًا. حتى الأرز، السلعة التي يُفترض أنها ركيزة الفقراء، قفز من 5.5 جنيهات إلى 28 جنيهًا في المتوسط، رغم كونه مدعومًا في بعض المنافذ التموينية..

ورغم أن الخبز البلدي المدعوم ظل نسبيًا في نطاق السعر الرسمي البالغ 20 قرشا للرغيف، إلا أن التكلفة الحقيقية لإنتاجه تضاعفت– وفقًا لتقديرات وزارة التموين– ثلاث مرات على الأقل، ما يطرح تساؤلات عن مدى استدامة الدعم الغذائي نفسه في ظل الأزمة.

دخل لا يواكب رغم الزيادات

لكن ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا، هو أن هذه الطفرات السعرية لم يواكبها أي تحرك حقيقي في دخول المواطنين. الموظف الذي كان يتقاضى راتبًا قدره 10,000 جنيه في عام 2015، كان يستطيع آنذاك شراء قرابة 133 كيلو لحم بلدي، أو 800 لتر لبن، أو 8000 بيضة.

اليوم، ومع متوسط زيادات لا تتجاوز 60% في رواتب القطاع الحكومي خلال عشر سنوات– أي ما يعادل راتبًا جديدًا بنحو 16,000 جنيه – فإن نفس الموظف يستطيع بالكاد شراء 43 كيلو لحم، أو 570 لتر لبن، أو أقل من 2700 بيضة.

أي أن قوته الشرائية الفعلية تراجعت بنسبة تزيد عن 65%، فيما يخص الغذاء، وفقًا لحسابات مقارنة الدخل مقابل الأسعار المستندة إلى أرقام وزارة المالية، ومصادر سوق الجملة.

الغذاء يتحول إلى عبء نفسي واقتصادي

لم يعد الأمر إذًا مجرد صعود دوري في الأسعار، بل تحوّلًا عميقًا في طبيعة علاقة المواطن بالغذاء. في السابق، كانت ميزانية الأسرة تضع بند “الطعام” كجزء من توزيع الدخل. اليوم، أصبحت هذه الميزانية بالكامل تقريبًا مخصصة للطعام، ولم تعد تغطّي أكثر من الأساسيات. وفي كثير من الأحيان، لا تكفي حتى لذلك.

التضخم الغذائي في مصر لم يعد رقما في نشرات الأخبار، بل واقعًا على أطباق العشاء في شكاوى الأمهات، وفي قوائم الطعام المختصرة. إنه الوجه الأكثر وضوحًا، والأشد قسوة، للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.

تقزم الأطفال وأنيميا الأمهات: الوجه الصامت للجوع

أظهرت بيانات منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 22% من الأطفال في مصر يعانون من التقزّم، و27% من النساء الحوامل يعانين من الأنيميا. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات صحية، بل إشارات خطر عن أجيال تنشأ بنقص غذائي مزمن..

يؤكد المتخصصون في مجال التغذية، أن “الأنيميا وسوء التغذية ينعكسان مباشرة على التحصيل الدراسي، والقدرة على التركيز، والمناعة، بل وحتى على الصحة النفسية”. وأنه: “لا يمكن لأي دواء، أن يعوض نقص الغذاء الحقيقي”.

اختبارات الحماية الاجتماعية: الدعم الذي لا يُسمن

برامج مثل “تكافل وكرامة” تغطي أقل من 40% من الاحتياجات الفعلية للأسر، بحسب دراسة حديثة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية. وبطاقات التموين، التي كانت تمثل شريانًا أساسيًا للأسر الفقيرة، أصبحت عاجزة عن توفير الكفاية أو الجودة.

تقول سهير، أم لخمسة أطفال من قرية في بني سويف: “بطاقة التموين ما بتكفّيش أسبوع… وبنستلف عشان نكمل الشهر”. في الوقت نفسه، تعاني آليات التسجيل في هذه البرامج من تعقيد، مما يحرم كثيرين من الاستفادة الفعلية..

التكية الجديدة: العمل الخيري في أزمة

في مواجهة عجز الدولة، تحاول الجمعيات الخيرية ملء الفجوة، لكنها تصطدم بواقع مؤلم: انخفاض التبرعات بنسبة تقارب 50%، وارتفاع الطلب على المساعدات الغذائية بنسبة تصل إلى 70% في بعض المناطق، وفقًا لتقرير صادر عن اتحاد الجمعيات الأهلية.

الجمعيات التي كانت توزع وجبات ساخنة أو سلال غذائية أسبوعية، أصبحت تكتفي الآن بتوزيع مواد جافة شهريًا. وتحولت شرائح كانت تتبرع بالأمس إلى طالبي معونة اليوم..

السوق السوداء: عندما يصبح الجوع تجارة

في السوق السوداء، يُباع البيض بـ 6 جنيهات للحبة، فيما يصل سعر الأرز التمويني إلى 25 جنيهًا للكيلو. سلع مدعومة تُهرّب، وتُباع بأسعار مضاعفة.

وتؤكد الشواهد، أن “بعض تجار التموين يعيدون بيع السلع المدعومة مجزأة لتحقيق أرباح مضاعفة، مستغلين ضعف الرقابة وشدة الطلب”.

وفي ظل هذا الغياب الرقابي، يتحول الجوع من معاناة إنسانية إلى فرصة استثمار ذهبية..

الفقر الخفي: جوع النفس قبل الجسد

الجوع لا ينعكس فقط على الأجساد، بل يترك أثرًا عميقًا على النفس. تقول د. هالة حسين، أخصائية علم النفس الاجتماعي: “الجوع يخلق شعورًا بالخجل، والدونية، وأحيانًا بالعجز. النساء يحرمْن أنفسهن لصالح أطفالهن، والمراهقون ينسحبون من التعليم، والكبار من الحياة الاجتماعية”.

بعض الأسر تفضل إخفاء فقرها، ما يجعل الجوع أكثر خفاءً، وأصعب رصدًا، وأكثر قسوة.

هل لدى مصر خطة غذائية عادلة؟

على الرغم من مشروعات زراعية كبرى مثل، الدلتا الجديدة ومستقبل مصر، إلا أن غياب خطة مركزية لتوزيع الغذاء بعدالة يفرغ هذه الجهود من معناها الاجتماعي.

لا توجد خريطة وطنية للجوع، تُرشد صناع القرار إلى مناطق الاحتياج. وتغيب المرونة عن الاستجابات الحكومية، التي غالبًا ما تُصاغ من الأعلى إلى الأسفل، دون إشراك المجتمعات المحلية.

الخاتمة: الجوع قضية دولة لا موائد

أزمة الغذاء في مصر لم تعد ظرفًا اقتصاديًا طارئًا، بل تحوّلت إلى تحدٍ استراتيجي. وإذا لم يتم الاعتراف بالجوع كقضية وطنية، تتطلب تدخلًا مؤسسيًا عاجلًا ومتكاملًا، فإن ملايين المصريين سيعيشون في ظل جوع مقنّع… ويُربّى جيل على نقص المناعة، والعلم، والكرامة.

الجوع لا يُرى فقط في البطون، بل في العيون، في اختفاء الابتسامات، وفي تراجع الطموحات. لقمة العيش لم تعد مسئولية الأمهات وحدهن… بل مسئولية دولة كاملة.

وإن لم نتحرك اليوم، فثمن الجوع سنراه غدًا… في أطفال لا يكبرون، وفي وطن لا ينمو لا جسديا ولا عقليا، وطبقات تأكل، وطبقات تمحى، ولا زال للحديث بقية عن الطبقات الاجتماعية في مصر، وفقا للمقدرة على الغذاء…

المصادر:

1. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء– تقارير الفقر والدخل (2024)

2. WHO & UNICEF – Egypt Nutrition Snapshot (2023)

3. المركز المصري للدراسات الاقتصادية– تقرير الحماية الاجتماعية (2024)

4. اتحاد الجمعيات الأهلية – تقرير التمويل الغذائي (2024)

5. مقابلات شخصية مع أخصائيي تغذية ومواطنين (بني سويف – القاهرة – سوهاج)

تقارير اليونيسف والفاو (6)