عرفت الانتخابات في الماضي القريب متابعا ومرشحا وناخبا، وشهدت في الانتخابات الأخيرة صور تشبه الانتخابات من لجان وناخبين، ولكنها في المضمون ليست مثل الانتخابات التي عرفتها مصر في عقودها الماضية.
والحقيقة، أن الانتخابات التي جرت منذ إعلان تجربة التعددية المقيدة في عام 1976، كانت تتسم بسمات تختلف عن الانتخابات الأخيرة، فقد كانت انتخابات تنافسية “تحت الخطوط الحمراء”، أي إن كان هناك تنافس بين الجميع السياسيين والعائلات والقبائل والمناطق، بشرط أن يحتفظ حزب الدولة بأغلبية الثلثين في مجلس الشعب، كما أن المال السياسي كان يوظف لصالح عملية انتخابية تنافسية، وحين خرج حزب الدولة الحاكم عن هذه القواعد بالتزوير الكامل لانتخابات 2010، انفجرت بعدها أحداث ثورة يناير.
وقد أخذ حضور المال السياسي أشكالا مختلفة، فشهدنا في الفترة الأخيرة “حزب الكرتونة” للذين يذهبون إلى لجان الانتخابات، بعد أن يتسلموا كرتونة مواد غذائية، كما شهدنا “حزب البطاقة الدوارة” الذي يدفع فيه المرشح 100أو 200 او 500 جنيه، مقابل التأكد من التصويت له، كما تنوعت أشكال مختلفة من المال السياسي من مواد غذائية إلى أموال، تدفع للناخبين ليصوتوا لمرشح، يمتلك رصيدا ماليا، ويغيب عنه أي رصيد سياسي أو شعبي.
والحقيقة، أن قضية المال السياسي ظلت حاضرة في مجمل تجاربنا الانتخابية، وأن تراجع تأثيرها مرتبط بنسبة المشاركة في العملية الانتخابية، فأي انتخابات ترتفع فيها نسبة المشاركة إلى 50% ستعني أن تأثير المال السياسي وعمليات شراء الأصوات، سيكون محدودا، ولن يحسم نتيجة الانتخابات، ولن يستطيع أي مرشح الفوز معتمدا فقط أو أساسا على المال السياسي وشراء الأصوات.
ولأني سبق وخضت تجربتين انتخابيتين برلمانيتين في 2011 و2015 وكللتا بالنجاح، فأستطيع أن أؤكد أن المال السياسي لن يحسم أي انتخابات، يشارك فيها بأي حال أكثر من ربع الناخبين، وسيصبح تأثيره محدودا، إذا وصلت نسبة المشاركة إلى 50% أو 60% من الناخبين، وأن مشاركة الناس الكثيفة تجعل تأثير المال السياسي محدودا جدا، ولا يمكن أن يُنجح بمفرده أي مرشح، صحيح أنه يمكن أن يؤثر أو يشتري كتلة من الناخبين قد تصل إلى الربع، ويمكن أن يحسم نتيجة أي انتخابات نسبة المشاركة فيها أقل من الربع أيضا.
والحقيقة، أن صور الوجبات الغذائية وشراء الأصوات التي شهدتها انتخابات مجلس الشيوخ ووثقتها منظمات حقوقية مصرية، وأشار لها عدد من المواقع الصحفية، مشكلتها أنها تختلف عن الانتخابات السابقة التي كان يحدث فيها تنافس بين مرشحين، بعضهم يستخدم المال السياسي وبعضهم لا، وحتى في الحالات التي جرت فيها الانتخابات بين مرشحين كلاهما يستخدم المال السياسي، فكانت انتخابات تنافسية يشعر فيها المواطن، بأنه يختار ولو عبر معايير خاطئة، وباستخدام وسائل خاطئة أيضا، على عكس الانتخابات الحالية التي لم يعد هناك مبررا لاستخدام المال السياسي بصورة واسعة، ودفع مبالغ مالية كبيرة للمواطنين؛ لأن المرشح بات ينفق أساسا من أجل ضمان الانضمام “لقوائم النجاح” المعدة سلفا، في حين يحصل المواطنون على وجبات غذائية ومبالغ مالية زهيدة؛ لأنها انتخابات محسومة سلفا للقائمة المعدة سلفا، بصرف النظر عن مشاركة المواطنين.
خطورة ما جرى في انتخابات مجلس الشيوخ، وما هو متوقع، أن يحدث في انتخابات البرلمان، أن 55% من أعضاء البرلمان سيكونون معينين سواء عن طريق القوائم التي لا تنافسها قوائم أخرى، بجانب حق الرئيس الدستوري في تعيين 5%، إذا أضفنا إلى ذلك، أن الدوائر الفردية أصبحت مترامية الأطراف بحيث لا يفوز فيها إلا كبار رجال الأعمال، وسنصبح أمام مشهد انتخابي معد سلفا، وسيكون مطلوبا من المواطنين الذين سيشاركون فيه، أن يصدقوا عليه حتى لو حاول البعض بشكل فردي، أن يعدل في صورتها النهائية.
يقينا المشهد الحالي، يقول إن هناك انسحابا من المشاركة في الانتخابات نتيجة غياب التنافسية بكل صورها، كما أن المال السياسي ظل حاضرا رغم غياب التنافسية، ولكن من أجل دفع قطاعات من الناخبين للمشاركة في الانتخابات بشكل احتفالي.
والسؤال المطروح، هل وجود هذه النوعية من الأميين والمهمشين، ومن قهرهم الفقر والعوز، وباعوا صوتهم وكرامتهم من أجل مساعدات مالية أو عينية، تعني أننا لا يمكن أن نجري انتخابات حرة شفافة، ما دام هناك من هو مستعد أن يبيع كل شيء تحت وطأه الفقر والعوز، وأنه نتيجة ذلك لا يمكن أن تبنى في مصر دولة قانون ديمقراطية؟
يقينا هذه الظواهر ستظل موجودة سواء كان النظام القائم ديمقراطيا أم لا، ولكن المؤكد أن بناء دولة القانون سيخلق إرادة سياسية لمحاربة الفقر والأمية وتوقف حملات التجهيل، وينشر قيم العلم والعمل والإبداع.
والحقيقة أن نظرية الشعب الجاهل تختلف جذريا عن نظرية المجتمع المأزوم أو المعطل، ففي الأولى توصم الشعب بصفات، كأنها جينية ولدت معه، في حين أن الحديث عن المجتمع المأزوم، تدفع الجميع إلى العمل على فهم أسباب هذه الأزمة ومواجهتها بإرادة سياسية تؤسسها دولة القانون.
مشاهد الانتخابات تفصل بين أغلب المواطنين والمؤسسات التشريعية، ولا تفتح أمام الناس قناة في النور للتعبير عن همومهم وغضبهم بصورة مؤسسية، حتى لو أخطأوا في جوانب، مما يجعلها مخفية وغير مرئية، وقد تنفجر في وجوهنا جميعا، في وقت تكالب القلة على دخول قوائم سابقة التجهيز ومضمونة النجاح في انتخابات ليست انتخابات.