السؤال يطرح نفسه بتوقيت واحد ملحا وضاغطا على غزة ولبنان معا.
الطلب مشترك والحيثيات مختلفة.
إنه طلب الاستسلام المذل، لما تريده إسرائيل، أن يكون النصر كاملا على ناحية والهزيمة نهائية على الناحية الأخرى، حتى لا يكون لفكرة المقاومة أية قومة جديدة.
المعضلة الإسرائيلية في الحالتين، أن آلتها العسكرية لم تتمكن من إنجاز مهمة نزع السلاح، حتى الآن وتريد من الضغوط السياسية، أن تتولاها بالنيابة.
في غزة ما زالت حرب الإبادة والتجويع تجري وقائعها أمام العالم كله، توجع الضمائر الإنسانية بكل مكان دون تدخل جدي وفاعل لإيقافها.
توضع خطط عسكرية لاحتلال كامل قطاع غزة، لكن الجيش الإسرائيلي يتحسب من ضراوة المقاومة وحجم الخسائر المتوقعة ومقتل الرهائن.
المقاومة، التي يراد نزع سلاحها، لم ترفع الرايات البيضاء بعد.
لا تمانع “حماس” في تسليم ما لديها من سلاح إلى سلطة فلسطينية شرعية، تؤسس لدولة فلسطينية، وهذا ما يرفضه اليمين الصهيوني مطلقا.
وفي لبنان تجري اللعبة وفق قواعد أخرى؛ بهدف تركيعه كاملا، لما تطلبه إسرائيل من خرائط جديدة بالشرق الأوسط.
رغم تقلص القدرات التسليحية لحزب الله إلا أن ما لديه رادع واللعبة مفتوحة على سيناريوهات خطرة، تمتد آثارها إلى الإقليم كله.
استعصاء السلاح ماثل في المشهدين المتزامنين.
إذا كان سلاح المقاومة اللبنانية مقلقا بصورة أو أخرى، فلماذا الإلحاح على طلب نزع سلاح المقاومة الفلسطينية؟
الإلحاح بذاته دليل قاطع، على أنها ما زالت متمركزة في الأنفاق وقادرة على إلحاق ضربات موجعة بالجيش الإسرائيلي.
الحقائق تتحدث عن نفسها في المساجلات الإسرائيلية الحادة حول توسيع العمليات في قطاع غزة واحتلاله عسكريا بالكامل.
اليمين الصهيوني يضغط ورئيس أركان الجيش الجنرال “إيال زمير” يعترض؛ خشية أن تفضي إلى قتل المحتجزين الإسرائيليين في المناطق، التي يفترض أن يقتحمها الجيش لأول مرة.
وصلت المساجلات إلى حد ضجر رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” من تحفظات رئيس أركانه قائلا: “لا تلوح باستقالتك في الإعلام عند أي خلاف”.
يرى العسكريون الإسرائيليون، أن تمديد الحرب بغير نهاية يفضي إلى ضرب الروح المعنوية لقوات الاحتياط، وخسائر فادحة في الأرواح والمعدات بالجيش المنهك.
بتعبير عسكري لافت، فإن إسرائيل قد تدخل بتهور إلى “مصيدة استراتيجية”.
الكلام بنصوصه ورسائله تأكيد على حضور السلاح الفلسطيني فاعلا ومؤثرا في حسابات القوة رغم كل المعاناة الإنسانية القاسية.
إحدى الفرضيات المتداولة تقول إن “نتنياهو” يلوح بالحكم العسكري لقطاع غزة، حتى يجبر “حماس” على تنازلات جوهرية، ترفض تقديمها حتى الآن.
إنه يطلب صورة هزيمة مذلة للمقاومة الفلسطينية بتجريدها من السلاح، دون أن يتمكن من ذلك بالحرب، أو عبر التفاوض رغم الدعم المطلق الذي يحظى به من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.
يطلب نصرا مطلقا خشية أن يفضي أي وقف لإطلاق النار إلى إدانته جنائيا في وقائع رشى وفساد، يخضع للمحاكمة بمقتضى اتهاماتها، وسياسيا بمسئوليته عن أحداث السابع من أكتوبر (2023)، التي هزت إسرائيل بصورة لا مثيل لها في تاريخها كله.
بصياغة أخيرة لأهدافه من الحرب على غزة فإنها استكمال هزيمة “حماس” وإطلاق سراح جميع الأسرى المحتجزين، وألا تمثل مرة أخرى تهديدا للأمن الإسرائيلي.
الفشل مرجح هذه المرة، كما حدث في المرات السابقة.
هناك أيضا معضلة ثانية لا سبيل لتجاوزها، تتمثل في تصاعد الضغوط الشعبية الغربية إلى مستويات غير مسبوقة، تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل ومقاطعتها اقتصاديا على خلفية جرائم الحرب النازية، التي ترتكبها في غزة.
لا يمكن لإسرائيل أن تتحمل طويلا تنامي موجات الغضب عليها والدعوات المتصاعدة لنبذها، باعتبارها دولة مارقة.
السؤال الرئيسي الآن: إلى أي حد يستطيع “ترامب” صد الضغوط الشعبية الغربية ومن داخل الولايات المتحدة نفسها؟
يمدد الفرص واحدة تلو أخرى لـ”نتنياهو” لإنهاء الحرب، يؤيده ويدعمه دون جدوى.
يعطي الضوء الأخضر لجرائم حرب متكاملة الأركان والأوصاف، لكنه تحت ضغوط حلفائه الغربيين يحاول أن يكون إنسانيا، فيعترف “أنه من الواضح أن سكان غزة لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء”.
كان ذلك اعترافا مراوغا وباهتا، فهو متواطئ في جريمة تجويع غزة ومبعوثه الخاص “ستيف ويتكوف”، بدت تصريحاته في غزة، التي نفى فيها أن تكون هناك مجاعة، مخجلة ومهينة لسمعة الولايات المتحدة.
بقوة الصور تبددت ادعاءات “ويتكوف”.
بصورة أخرى، حاول مبعوث رئاسي ثان “توماس باراك”، أن ينجز بالضغوط السياسية مهمة نزع سلاح حزب الله باسم “حصر السلاح بيد الدولة”.
في أية ظروف طبيعية، أو شبه طبيعية، المبدأ صحيح تماما، ولا جدال فيه، لكنه يفتقد جديته واحترامه، إذا ما كان طلبا خارجيا، أمريكيا وإسرائيليا، بهدف فرض الوصاية الكاملة على القرار اللبناني.
هذه حقيقة الموقف في لبنان المأزوم.
في ظروف ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتقوض جانب كبير من قدرات حزب الله التسليحية، فضلا عن خسارة قائده التاريخي “حسن نصر الله“، تبدت حسابات وضغوط وجدت تعبيرها في ورقة أمريكية، تجاهلت أية تحفظات عليها.
تماهت الحكومة معها، وبدا الصدام ماثلا.
لم يمانع حزب الله في حصرية السلاح، أو أن يكون قرار الحرب والسلام بيد الدولة، لكنه رفض قاطعا التسليم المسبق بالورقة الأمريكية، المعتمدة إسرائيليا بطبيعة الحال.
اعتبر الحزب ملف السلاح مسألة ميثاقية، أو دستورية، لا يقررها التصويت في مجلس الوزراء، بل التوافق.
الأهم، وهذه مسألة صحيحة وسليمة، “أن توضع مسألة السلاح ضمن استراتيجية الدفاع الوطني”، فـ”لبنان بحاجة إلى عناصر قوة في ظل التغيرات الإقليمية الجديدة”.
أين– بالمقابل- الاستحقاقات الإسرائيلية؟!
لا شيء تقريبا يضمن للدولة اللبنانية سلامة حدودها وسيادتها وعدم التغول عليها بضم أجزاء منها لإسرائيل.
لا أحد في لبنان، عاقل أو غير عاقل، يطلب حربا أهلية جديدة، لكنه قد يدفع إليها.
دون توافق، أو شروع في توافق، اندفعت الحكومة اللبنانية في اتخاذ إجراءات نزع سلاح حزب الله، وكلفت الجيش بتقديم خطة تطبيقية، لإنفاذها فورا قبل نهاية هذا العام.
هذا مشروع صدام، تبدت مقدماته في انسحاب ممثلي الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، من الاجتماع الوزاري.
ربما ينسحب ممثلو الشيعية السياسية من التشكيل الحكومي تاليا.
في الوقت نفسه، أعلن الأمين العام للحزب الشيخ “نعيم قاسم” عن رفض الخطة الأمريكية، إذا لم تكن هناك ضمانات متفق عليها.
بأي نظر إلى موازين القوى، ليس بوسع الحكومة أن تفرض على المقاومة اللبنانية نزع سلاحها، ولا بوسعها أن تتراجع بسهولة، عما بدأت فيه.
أحد السيناريوهات المحتملة، أن يحدث توافقا على الطريقة اللبنانية بالقرب من الحافة، أو إنها الحرب الأهلية لا محالة.
لا توجد إجابات سهلة على سؤال نزع السلاح، في فلسطين ولبنان معا خارج الإطار الوطني.
الإملاء الإسرائيلي مسألة أخرى ثمنها تفجير المنطقة كلها.