تفرض التطورات المتلاحقة بشأن السعي لوقف الحرب في السودان على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكذلك تأجيل أو إلغاء إجتماعات اللجنة الرباعية في واشنطن، ثم اجتماع وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي مع نظيره الأمريكي، وقفة مع الذات، أي مراجعة مصرية خالصة، بشأن ماذا فعلنا؟ وماهي خطوتنا القادمة في ملف السودان الشائك المرتبط بمعطيات رئيسية في أمن مصر القومي.
ربما يكون من المهم في البداية التأكيد على عدة نقاط قد ساهمت في بلورة الموقف المصري في تقديرنا، منذ بداية الحرب وهي:
١- أن هناك مخططا دوليا بمكون إسرائيلي؛ يستهدف وحدة التراب الوطني السوداني، ويسعى إلى تفتيت كيان، يرونه أكبر من اللازم، وهذا المخطط له دور مزدوج، الأول هو أن يلعب دورا في تشتيت المجهود المصري، بما يجعله غير قادر على التركيز في التهديدات الإسرائيلية للأمن القومي المصري، كما يساهم في إضعاف موازين القوى بمنطقة دول حوض النيل لصالح دول المنابع على حساب دولتي الممر والمصب، أما الدور الثاني، فهو تسهيل ولوج الشركات، أيا ما كانت تبعيتها، وأيا ما كانت دولها، إلى الموارد الطبيعية السودانية.
٢- ألا تخلي عن الجيش السوداني، مهما كان وضعه ولا إغلاق لباب أمام الدعم السريع؛ نظرا إلى أن التخلي عن الأول يعني فقدان العمود الفقري للدولة السودانية، وقيام حروب لتنازع الشرعية بين الفصائل المسلحة التي نعرف تاريخها في الانقسام وتغيير الولاءات، أما إغلاق الباب أمام الثاني (الدعم السريع) فيعني دعم خيارات انفصال دارفور، وتحول الإقليم إلى بؤرة لتهديد الأمن الإقليمي، فضلا عن عدم الاستقرار الداخلي في الإقليم ذاته.
٣- إن قوى النظام القديم مهما كانت انحيازاتها الفكرية المعادية لمصر، فإنه يمكن التعامل معها، حتى يمكن صياغة معادلات اليوم الثاني للحرب، على نحو يحقق قدرة على استقرار.
٤- وجود موقف حذر ومتشكك من القوى السياسية السودانية، فيما يتعلق بمدى جدارتها في القيام بأدوار غير قابلة للاختراق الخارجي، خصوصا الغربي والخليجي، فيما يتعلق بالقدرة على إحراز حجم سياسي وازن في المعادلات الداخلية، مؤسس على توافق وطني، يستطيع قيادة فترة انتقالية تقود إلى انتخابات نزيهة، أي صناعة شرعية سياسية جديدة تمهد لاستقرار سياسي مستدام.
وإذا كنت أتفق مع النقاط الثلاث الأولى، فإني أطرح النقطة الثالثة للنقاش والتفاكر، وهي الخاصة بالموقف المصري من المكون المدني السوداني، وذلك في ضوء تطورين: الأول هو طبيعة طرح الأزمة السودانية في بيانات وزارتي الخارجية في الدولتين طبقا لمنظورين، ركز كل منهما على موقفه، دون أن يتضح لنا حجم مساحات التوافق في الملف بين الطرفين، ذلك إن بيان وزارة الخارجية المصرية قال نصا: “تناول الوزيران الأوضاع فى السودان، وأهمية التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ونفاذ المساعدات، وأكد الوزير عبد العاطي على موقف مصر الداعم لمؤسسات الدولة السودانية، وضرورة واحترام سيادة ووحدة وسلامة الأراضي السودانية”.
أما ما صدر عن الخارجية الأمريكية طبقا لموقعها الرسمي، فهو تصريح مقتضب من جانب المتحدثة تامي بروس التي قالت: “ناقش الوزيران ضرورة الانتقال إلى الحكم المدني في السودان”.
التطور الهام الآخر هو صدور تقارير دولية عن عدد من الجهات الأوربية والأمريكية بعد إلغاء اجتماع واشنطن للرباعية، والتي طرح بعضها مشكورا المفكر السياسي السوداني د. الشفيع خضر، في مقال أخير له، وخلص فيه إلى اقتراح أنضم إليه في طرحه بشأن التوجه نحو بلورة تفاهم عربي عربي بشأن السودان، بدلا من أن يطرح الآخرون هندستهم لهذا التفاهم، طبقا لمصالحهم، وليس طبقا للمصالح العربية الإفريقية المشتركة.
من هذه الزاوية، سوف أركز هنا على تقرير المجلس الأوروبي للسياسات الخارجية ECER؛ نظرا لتأثيره ووزنه السياسي على دوائر صناعة القرار الأوربية والعالمية، وأيضا بسبب منظور الطرح الذي ارتكن إليه التقرير، والذي ركز على ضرورة الانتقال المدني في السودان بآليات، إن لم تستبعد مصر على الإطلاق، فهي على الأقل تقوم بتهمشيها في المساهمة في بلورة حلول للأزمة الراهنة في السودان، صحيح أن مصر قد نجحت حتى الآن أن تصد كل محاولات هذا التهميش على المستويات الدبلوماسية والرسمية، ولكنها ونتيجة موقفها الحذر والمتشكك من المكون المدني السوداني، فهي تواجه أيضا جهات وفاعلين رافضين لفاعلية مصرية أصلا في المشكل السوداني، عطفا على فاعلية مصرية محدودة لكسب المكون المدني السوداني الذي لا يشمل القوى السياسية السودانية فقط، ولكنه أيضا يشير إلى الفاعلين المدنيين على الأرض في السودان، والذين أثبتوا فاعلية كبيرة بآليات متعددة منها غرف الطوارئ ولجان الأحياء، وكذلك التكايا، وذلك لصالح إنقاذ المواطن السوداني من ويلات الحرب، وهو أمر لم يلتفت إليه أصلا أطراف الصراع العسكري على الأقل من ناحية وجود نية لوقف الحرب.
في هذ السياق، تقرير المجلس الأوروبي تجاهل تماما واقع المصالح الجيوسياسية بين مصر والسودان وحقيقة التفاعل المصري السوداني تاريخيا، وكذلك في إطار الأزمة السودانية الراهنة، خصوصا من زاوية الوجود السوداني المدني في مصر، وطبقا لذلك ركز التقرير فقط على المصالح الجيوسياسية والاقتصادية بين السودان ودول الخليج على نحو تفصيلي، حيث قدم تشريحا لتضارب المصالح الخليجية بين كل من دولة الإمارات والمملكة السعودية وقطر، وموقف كل دولة إزاء السودان، من زاوية الصراع الراهن إذ يساهم ذلك في تمديد زمن الحرب، بكل تداعياتها على الدولة السودانية.
التوصية الرئيسية التي خلص إليها التقرير هي ضرورة بذل مجهود غربي يسعى إلى بلورة توافق خليجي بشأن السودان يساهم في التوافق الداخلي بين الأطراف المحلية التي هي حاليا مرتهنة لهذا الصراع الخليجي.
وربما المثير للانتباه في تقرير المجلس الأوربي الذي أنجزه باحث ألماني، أنه يتجاهل حتى التقدير السوداني المعادي لمصر من زواية تأثيرها على ديناميات الصراع السوداني.
عطفا على ما تقدم، خصوصا من زاوية السعي لتهميش الفاعلية المصرية في الأزمة السودانية، وما يترتب عليها من تداعيات مؤثرة على المصالح السودانية، في تقديرنا، قبل المصالح المصرية، ربما يكون من المهم اقتراح الآتي:
١- عدم انتظار بلورة موقف غربي لصناعة التوافقات الخليجية، ولكن المضي قدما في خلق مساحات للتفاهم المصري الخليجي بشأن الأزمة السودانية في سياقات ما يعرف دبلوماسيا بالمسار الثاني، خصوصا بعد تعثر عقد الرباعية.
٢- بلورة موقف مصري واضح ومعلن يمتلك آليات سياسية محددة بشأن التحول للحكم المدني في السودان، دون تفريط في دعم مؤسسة القوات المسلحة السودانية.
٣- التحضير لمؤتمر القوى السياسية السودانية الثاني، والذي تم الإعلان عنه في يناير الماضي على لسان وزير الخارجية د. بدر عبد العاطي، ولكن بعد خلق منصات تفاعل سودانية في القاهرة بهذا الشأن سابقة على انعقاد المؤتمر، تضمن الشروط المناسبة للتوافق السوداني.
٤- توفير منصات غير رسمية في مصر بشأن التفاكر حول مستقبل العلاقات المدنية العسكرية ومسألة العدالة الانتقالية في السودان.
٥- التفاعل المدروس مع الأزمة الإنسانية السودانية والتفكير في توفير منصات مصرية لدعم السودان، تتفاعل مع المكونات الميدانية في السودان كالتكايا وغيرها بالتوازي مع التفاعل مع مؤسسات الدولة الرسمية السودانية.
ويبقى في الأخير، ضرورة الإشارة إلى أن جزءا هاما من نجاح أية سياسيات ليس الفاعلية فقط، ولكن توقيت هذه الفاعلية والآليات التي تعتمد عليها أيضا، ذلك أن التأخير لم يعد لا في صالح مصر ولا في صالح السودان، ولا حتى في صالح دول الخليج التي توفر بتباين مواقفها وعدم ترتيب مصالحها في السودان تهديدا قويا مرتدا لهذه المصالح ذاتها.