تعتبر قضايا الصحة أحد المؤشرات الأساسية على الدور الرقابي والتشريعي لأي برلمان، باعتبارها حقًا أساسيًا، لا يمكن الاستغناء عنه من قبل المواطن أو الترشيد فيه، وبنداً دستوريًا يلزم الحكومة بتهيئة الظروف التي تمكن كل أفراد المجتمع، أيًا كان وضعهم المالي أو الاجتماعي من التمتع به، وتحقيق المساواة في تلقي خدمات الرعاية وضمان الحياة والسلامة الجسدية.
على مدار مدة عمل البرلمان بغرفتيه (النواب والشيوخ)، كانت الصحة من القضايا الأساسية التي تم التطرق إليها كثيرًا، فيما يتعلق بالدور الرقابي من النواب سواء الموالاة أو المعارضة، وكان وزير الصحة أكثر الوزراء الذين تم تقديم طلبات إحاطة لهم في مجلس النواب، وأكثر من تلقوا انتقادات أيضًا في خضم مناقشة التعديلات القانونية التي قدمتها الحكومة بشأن القطاع الصحي.
وزير الصحة.. انتقادات برلمانية دون فاعلية
وعلى الرغم من أن وزارة الصحة واجهت العشرات من طلبات الإحاطة بخصوص مستوى الخدمات الطبية والإهمال بالمستشفيات والوحدات الصحية ووحدات طب الأسرة، وغياب الرقابة، وتهالك المنشآت الطبية، ونقص الأجهزة والمستلزمات، بالإضافة إلى نقص عدد الأطباء وسوء أحوالهم وهجرتهم إلى الخارج، وغياب التنسيق بين الجهات التابعة لوزارة الصحة. إلا أنه في التقييم الأخير تظل رقابة مجلس النواب في هذا الشأن منزوعة الأنياب عموما إذ إنها لم تنتج شيئا ذا قيمة على طريق الإصلاح للأوضاع محل النقد، بل وحتى مقارنة بالمجلس السابق، كما يتضح.
تعدد تلك الطلبات هو تعبير عن ظاهرة كمية لم تنتج في الأخير نتائج كيفية ملموسة، فهذا التعدد يتماشى مع زيادة عدد مستشفيات الوزارة التي تبلغ 545 مستشفى تابعة لها، و5494 مركزا صحيا، تقوم بتقديم خدمات لأكثر من 60 مليون مواطن، كما يتردد 30 مليون مواطن على أقسام الطوارئ في المستشفيات سنوًيا، فضلاً عن 3 ملايين تدخل جراحي سنوًيا.
ومن باب الرصد انتقد النواب سياسة وزارة الصحة، أيضًا، بشأن تسعير الخدمات الطبية بالمستشفيات الخاصة، وارتفاع أسعار العلاج، والحاجة لضبط سوق الدواء لضمان توفيره للمواطنين، وفوضى وصفات الأدوية المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون ضوابط طبية أو رقابة، وكذلك صرف المضادات الحيوية من قبل غير المتخصصين؛ مما نتج عنه انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية التي تهدد حياة الكثيرين.
تناولت الانتقادات أيضًا حالة معهد ناصر بالقاهرة من الإهمال والتدني في مستوى الخدمات، والرقابة على المستشفيات الخاصة، وطريقة التعامل مع ملف الصحة التي تؤدي لاحتقان اجتماعي بين الطبقات في مصر.
لكن مجلس النواب الحالي، ظل أقل انتقادا في التعامل مع قضايا الصحة عن سابقه، فالمجلس السابق شهد طلبًا لسحب الثقة من الوزيرة هالة زايد (حينها) حول وجود مستشفيات متهالكة وغير آدمية، تنتشر فيها القطط والكلاب الضالة وعدم تعامل جيد مع النفايات الخطرة، وظلت الوزيرة خمس ساعات كاملة في المجلس، ترد على اتهامات النواب، لتنتهي الجلسة بتصريح لنائب قال: “نجحت الوزيرة، ولم ينجح المجلس”، وهي العبارة التي اعترض عليها رئيسه حينها علي عبد العال، وطلب حذفها من المضبطة.
كما شهد المجلس السابق أيضًا انتقادات عنيفة لإدارة الوزارة بشكل عام، وليس الأزمات التي تشهدها المنظومة الصحية فقط، إذ شهد اتهامات حول كيفية إدارة المخصصات والمستشفيات التي تم الإنفاق عليها من ميزانية الدولة دون افتتاح رسمي، وكيفية التعاطي مع أزمة كورونا، وسوء منظومة العلاج على نفقة الدولة التابعة لوزارة الصحة وتعطيلها لقرارات علاج المواطنين.
مثيرة للأسى
خلال العام الماضي، صدرت عدة قرارات مثيرة للأسى من وزارة الصحة بعضها تصدى له البرلمان بالانتقاد الذي لم يسفر في النهاية عن وقف التطبيق، مثل القرار رقم 485 لسنه 2024، الذي ينص على عدم صرف الألبان الصناعية للرضع، إلا في حالات وفاة الأم، أو إصابتها بالسرطان، أو الدرن، أوالفشل الكلوي.
وأغفلت وزارة الصحة العديد من الحالات المرضية التي تحول بين الأم و بين الرضاعة الطبيعية، مثل الاضطرابات الهرمونية كنقص إفراز هرمون البرولاكتين المسئول عن إنتاج الحليب، علاوة على مشاكل الغدة الدرقية، سواء فرط النشاط أو القصور، وأيضاً حالات تكيس المبايض التي قد تؤثر على التوازن الهرموني، وبالتالي يقل إنتاج لبن الأم، بالإضافة للجراحات السابقة في الثدي كإزالة الأنسجة.
كما أصدر وزيرا الصحة والتنمية المحلية، القرار رقم 75 لسنة 2024، الخاص بوضع لائحة جديدة للمستشفيات ومراكز الخدمات العلاجية والوحدات والمكاتب الصحية، تتضمن زيادة الموارد المالية الذاتية للمنشآت لصالح صندوق لتحسين الخدمة بكل منها عبر رفع أسعار تذاكر العيادات الصباحية من جنيه إلى عشرة جنيهات في المستشفيات العامة، وخمسة جنيهات في الوحدات الصحية، على أن يجوز مضاعفة كل منها خمس مرات، بعد موافقة مديرية الصحة المختصة.
كما تم تقليص نسبة العلاج المجاني بالمستشفيات العامة من 60% في اللائحة القديمة، إلى 25% في اللائحة التي بدأ تطبيقها في الرابع من مارس الماضي والتي استحدثت اللائحة الجديدة نصًا يحدد المستحقين للعلاج المجاني في تلك المستشفيات، وحصرتهم في ست فئات أهمهم، الحاصلون على معاش تكافل وكرامة، والمعاقون حاملو بطاقات الخدمات المتكاملة.
التشريع
فيما يتعلق بالتشريعات الصحية، بدأ البرلمان الحالي عمله في الفصل التشريعي الأول بإصدار قانوني تنظيم عمليات الدم والتبرع بالبلازما لتصنيع المشتقات وإنشاء صندوق مواجهة الطوارئ الطبية، لاقى التشريع الأول ترحيبا نياييًا، باعتباره يخدم الأمن القومي، إذ لا توجد أية مصانع لمشتقات الدم بالشرق الأوسط سوى في إيران وإسرائيل.
على عكس الفصل التشريعي الأول، كان الفصل التشريعي الأخير مثيرًا للجدل، لصدور قانون تنظيم المسئولية الطبية وسلامة المريض، الذي شهد حالة من الصراع مع نقابة الأطباء، انتهت بخفض غرامة مقترحة على الأطباء حال الأخطاء غير الجسيمة، في مشروع القانون من 100 ألف جنيه إلى 10 آلاف جنيه كحد أدنى.
إذ نزل القانون بالحد الأقصى ليكون 100 ألف جنيه، بدلاً من مليون جنيه، كما استحدث مادة تتضمن المعاقبة بالحبس مدة لا تتجاوز 3 أشهر وغرامة لا تزيد على 30 ألفاً أو بإحدى هاتين العقوبتين لكل من أبلغ أو قدم شكوى كيدية ضد مقدم الخدمة أو المنشأة.
وأقر القانون عقوبة الحبس أو الغرامة، لمن يهين أحد مقدمي الخدمة الطبية في أثناء تأدية مهنته أو بسبب تأديتها، لكن الأطباء اعترضوا على أن عقوبة الخطأ الطبي أكبر من عقوبة انتحال صفة طبيب، بالإضافة إلى الكلمات الفضفاضة التي لا تزال موجودة في تعريف الخطأ الطبي.
النقابة: قانون يجافي المريض ويحابي المستثمر
أما القانون الثاني، فكان أكثر إثارة للجدل، وهو المعني بتنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، والذي يؤثر في فئة كبيرة من محدودي الدخل الأولى بالرعاية الصحية، ويتضمن تقليص عدد الأسِرة التي كانت متاحة للمواطنين للعلاج بشكل مجاني داخل المستشفيات الحكومية إلى النصف.
كان صوت نقابة الأطباء أعلى من النواب في انتقاد مواد القانون، خاصة التي تسمح للمستثمر بجلب 25% كحد أقصى من الأجانب للعمل ضمن الأطقم الطبية، وكذلك إمكانية تقسيم المنشأة الصحية المؤجرة لـ50% للعلاج على النفقة الخاصة، و50% للعلاج على نفقة الدولة، بالإضافة إلى المادة التي تمنح المستثمر إمكانية التخلص من 75% من العاملين المصريين بالمنشأة مع الاحتفاظ بـ25% فقط كحد أدنى، كما يسمح القانون بالتعاقد مع خبراء وفنيين أجانب، بما لا يزيد عن 25% من إجمالي العاملين بالمنشأة الطبية.
ووجه نقيب أطباء مصر أسامة عبد الحي خطاباً عاجلاً لجهات الدولة، تطلب إعادة القانون مرة أخرى للمناقشة تحت قبة البرلمان لتلافي السلبيات الموجودة به، باعتبار أن تشجيع القطاع الخاص ومنحه فرص استثمارية، يجب أن يتم من خلال بناء مستشفيات جديدة، وزيادة عدد الأَسِرَّة الموجودة بتلك المستشفيات، وليس عن طريق تأجير المستشفيات الحكومية للمستثمرين.
أكدت النقابة، أن مصر تواجه مشكلة خطيرة بشأن نقص عدد الأَسِرَّة، والذي بلغ معدل 1.1 سرير لكل ألف مواطن، في الوقت الذي يبقى المتوسط العالمي عند مستوى 2.8 سرير لكل ألف شخص، أي أن مصر بحاجة لزيادة عدد الأَسِرَّة معدل مرة ونصف المرة.
بحسب نقابة الأطباء، فإن قانون الحكومة لا يتضمن أية ضمانات لالتزام المستثمر بالنسبة المحددة لعلاج مرضى التأمين الصحي ونفقة الدولة، إذ يقول د. أبو بكر القاضي وكيل صندوق النقابة، إن القانون أغفل حق المريض المصري في الحصول على العلاج والرعاية الصحية، وفقا لما نص عليه الدستور، لافتا إلى أن المستثمر يستهدف بالأساس الربح- وهذا حقه-، بالتالي من يضمن توفير العلاج لإنسان يستطيع التقشف في المأكل والمشرب، وتحمل مختلف الأعباء، لكن عند المرض ماذا يفعل.
وتطالب الدراسات، بأن يكون نظام التأمين الصحي بمصر اجتماعيا غير هادف للربح، حيث تمثل الطبقة الفقيرة ومحدودي الدخل في مصر القاعدة العريضة من المجمتع المصري، وهذه الطبقة غير قادرة في ظل غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتكاليف العلاج الباهظة على تحمل تكاليف العلاج وشراء الأدوية، كما دعت إلى دور رقابي للمنظمات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالصحة في وضع السياسات الصحية والرقابة عليها.
مجلس الشيوخ
على المستوى الرقابي، يملك مجلس الشيوخ أداتين أولهما تقديم اقتراح برغبة في أي شأن يخص السياسة العامة للدولةـ، و طلب للمناقشة العامة في قضية أو موضوع هام، ونظرا لأن الصحة من القضايا العامة فقط كانت من أكثر المجالات التي تم فيها تقديم اقتراحات برغبة من قبل النواب.
من بين الاقتراحات برغبة التي تم مناقشتها إنشاء مستشفيات جديدة لأماكن محرومة أو مراكز متخصصة لأمراض بعينها كأمراض العضلات، أو تخصيص أراض لمراكز علاجية أو أماكن لمكاتب العلاج على نفقة الدولة وإتاحة تدريب وكورسات معتمدة للكوادر الطبية كالكوادر الصيدلانية في وزارة الصحة ، أو صياغة استراتيجيات تتعلق بوزارة الصحة كالاستراتيجية الوطنية المصرية للدواء التي تحقق الاستخدام الآمن والعادل للدواء ومنع إهدار الأدوية، وتشديد الرقابة علي مراكز أنقاص الوزن والتغذية العلاجية لمواجهة ظاهرة تعاطي حقن السكري بهدف التخسيس.
تضمنت الاقتراحات أيضًا بعض الأفكار الجديدة للحكومة مثل تشكيل فرق تغذية إكلينيكية “طبية” بكل المسـتشـفيات والوحدات التابعة للهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية لحالات السمنة والنحافة والأمراض المزمنة وحالات سوء التغذية عند الرضع وطلبة المدارس والمراهقين، وإنشاء سجل طبي إلكتروني لكل مواطن وربطه بقاعدة البيانات الرسمية الخاصة، واعتماد تأمين صحي إلزامي على السائحين القادمين إلى مصر ليكون جزءًا من التأشيرة السياحية.
بالنسبة لآلية طلب المناقشة العامة فكانت أقل استخداما في المجلس وكان أشهر استخداماتها تقديم 21 نائبًا طلب مناقشة لاستيضاح سياسة الحكومة بشأن الحد من آثار الأزمات الاقتصادية والصحية والسياسية التي يشهدها العالم على قطاع الرعاية والخدمات الصحية وأسعار الدواء.
وعلى مستوى التشريع، أقر مجلس الشيوخ أيضًا قانون المسئولية الطبية، واعتبر أنه يحقق التوازن بين حقوق المرضى وواجبات الأطقم الطبية، ومسئولية القائمين على إدارة المنشآت الطبية، وتوفير بيئة داعمة للأطقم الطبية من خلال حماية الممارسين الصحيين من التعدي عليهم أثناء عملهم والملاحقة التعسفية وضمان توفر التأمين ضد المخاطر المهنية، مما يشجعهم على أداء عملهم بثقة وأمان.