منذ اندلاع الحرب في السودان في إبريل 2023، تشكّل مشهد ميداني غير مألوف، تتكرر فيه ظاهرة لافتة؛ إذ ما إن يقترب أحد الطرفين سواء الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع من تحقيق مكاسب ميدانية حاسمة، حتى تتدفق على نحو مفاجئ إمدادات أو تدخلات، تمنح الطرف الآخر القدرة على الصمود أو شن هجوم معاكس. هذه الظاهرة ليست وليدة الصدفة، ولا يمكن تفسيرها بإمكانات داخلية فحسب، بل تمثل انعكاسًا لإدارة خارجية ممنهجة، تسعى للحفاظ على توازن قوة، يمنع الحسم، ويُبقي السودان في حالة صراع مفتوح، يتيح للقوى المتدخلة فرض تسويات من الخارج.
وتكشف التطورات الميدانية الأخيرة حجم الفجوة في القدرات العسكرية، ففي أواخر يوليو وبداية أغسطس الحالي، شهدت منطقة أم صميمة بشمال كردفان، معارك أظهرت بوضوح التفاوت في التسليح، حيث اعتمدت قوات الجيش على مركبات “تاتشر” تقليدية، في مقابل امتلاك المليشيات عربات مصفحة حديثة، وفي الوقت نفسه تعاني مدينة الفاشر من حصار متواصل منذ عامين، تسبب في مجاعة متصاعدة، فيما يتم جلب مرتزقة أجانب، من بينهم عناصر كولومبية لقصف المدينة وتدريب مقاتلي الدعم السريع. ورغم صمود القوات المدافعة عن المدينة، يجري إنهاكها عبر إذكاء انشقاقات معلنة في صفوف حركات مسلحة، مثل قوات تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي.
إن استمرار هذا النهج القائم على منع أي طرف من تحقيق النصر لا يهدد وحدة السودان فحسب، بل يفتح الباب أمام تفككه إلى مناطق نفوذ متصارعة، ويجعل من الإقليم بأسره ساحة مفتوحة للتوترات العابرة للحدود وانتقال الجماعات المسلحة وتعاظم الأنشطة غير المشروعة. ومن هنا فإن الحفاظ على تماسك السودان وقدرته على بسط سلطته على كامل أراضيه، بات ضرورة استراتيجية لحماية استقرار منطقة مترابطة المصالح والمصائر.
الشواهد الميدانية
مع بداية الاشتباكات في 15 إبريل 2023، تعطلت بواخر الإمداد العسكرية القادمة عبر البحر الأحمر في ظروف غامضة، ما أدى إلى تأخر وصول العتاد والذخيرة المخصصة للجيش في العاصمة. هذا التعطيل وفّر للدعم السريع فرصة للتقدم والسيطرة على مواقع استراتيجية في الخرطوم، مستفيدًا من حالة النقص اللوجستي الحاد لدى الجيش. وفي الفترة بين مايو ويونيو 2023، تمكنت قوات الدعم السريع من اقتحام عدد من المواقع العسكرية الفرعية في محيط القيادة العامة بالخرطوم، ما أدى إلى استيلائها على كميات كبيرة من الأسلحة والمركبات المدرعة، وهو ما عزز قدرتها النارية، ومكّنها من شن هجمات أوسع على مواقع الجيش في العاصمة.
بحلول ديسمبر 2023، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة ود مدني ومعظم مناطق ولاية الجزيرة، بعد انهيار خطوط الجيش؛ نتيجة ضعف الإمداد وعدم وصول التعزيزات. هذه السيطرة مثلت تحولًا استراتيجيًا؛ لأنها فتحت طرقًا جديدة للإمداد نحو الخرطوم، ومنحت الدعم السريع عمقًا جغرافيًا لتمركز قواته. وفي يناير وفبراير 2024، رُصدت تحركات دبلوماسية وتجارية، حالت دون وصول بعض الشحنات العسكرية التي كان الجيش يعوّل عليها لتعزيز مواقعه، ما أسهم في استمرار ضعفه ميدانيًا، بينما واصلت قوات الدعم السريع تعزيز مواقعها بالأسلحة التي استولت عليها، أو حصلت عليها من قنوات خارجية. وفي مايو 2024، توسعت قوات الدعم السريع في أرياف النيل الأبيض وسنار مستغلة حالة التراجع المعنوي لدى الجيش، في عمليات هدفت إلى السيطرة الميدانية وفرض وقائع جديدة على الأرض، تمهد لأي مفاوضات مستقبلية.
في المقابل، شهدت بعض الفترات انتكاسات للدعم السريع وتقدمًا للجيش. ففي 15 ديسمبر 2023، أطلق الجيش عملية عسكرية واسعة في شمال أم درمان، تمكن خلالها من استعادة أحياء مثل الثورة والحارة 15، بعد معارك استمرت أيام، مدعومًا بضربات جوية مركزة، أربكت خطوط إمداد الخصم. وفي 5 فبراير 2024، استعاد الجيش عدة مواقع في وسط السودان، ما شكل ضربة استراتيجية للدعم السريع الذي كان يستخدم المنطقة كمحور إمداد لعملياته، وفي 21 مايو 2024، أعلن الجيش استعادة السيطرة الكاملة على مدينة ود مدني للمرة الأولى منذ خسارتها، بعد عملية تطويق محكمة من ثلاثة محاور، وهو ما أوقف تمدد الدعم السريع في ولاية الجزيرة مؤقتًا.
وفي 3 أغسطس 2024، نفذت وحدات الجيش الخاصة عملية مباغتة في منطقة جبل موية، استعادت خلالها السيطرة على ولاية سنار و الجزيرة، ما سمح له بقطع خط الإمداد الجنوبي للدعم السريع، وأعاد ربط شمال وجنوب البلاد بريًا.
إدارة ميزان الصراع
إن القوى التي تتحكم في ميزان الصراع في السودان ليست كتلة موحدة، بل شبكة معقدة من الأطراف الإقليمية والدولية إلى جانب شبكات خاصة على المستوى الإقليمي، تقوم بعض الدول بدور محوري في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع، مستفيدة من شبكات تهريب الذهب كمصدر رئيسي للتمويل، وبالاعتماد على مواني إقليمية أو مطارات في ليبيا و إفريقيا الوسطى وتشاد لتمرير الإمدادات الإماراتية معتمدة على علاقات مع شبكات قبلية ممتدة عبر الحدود، بينما يشكّل جنوب السودان قناة خلفية للإمداد والتجنيد.
على الصعيد الدولي، تتعامل الولايات المتحدة مع الملف السوداني من منظور إدارة الصراع لا إنهائه، إذ تسعى إلى منع الحسم العسكري لصالح أي طرف بهدف الوصول إلى تسوية سياسية، تُفرض عبر الوساطات. روسيا من جانبها حافظت على علاقات مع قوات الدعم السريع من خلال قنوات مرتبطة بالذهب والسلاح، لكنها في الوقت ذاته، أبقت على خطوط تواصل مع الجيش لتأمين مصالحها في البحر الأحمر. أما الاتحاد الأوروبي، فيركّز ظاهرياً على الملف الإنساني ومنع الهجرة، غير أن ضغوطه لفرض هدنات إنسانية تمنح الطرف الأضعف فرصة لإعادة التموضع، وإلى جانب هذه القوى الرسمية تنشط شبكات من الشركات الخاصة وتجار السلاح ووسطاء الموارد الذين يرون في استمرار الحرب فرصة لتحقيق أرباح وتوسيع نفوذهم.
استمرارية الصراع وأدوات السيطرة
إدارة التوازن بين الطرفين تتم عبر آليات متعددة، من بينها الإمداد العسكري المباشر للطرف المهدد بالانهيار أو الإمداد غير المباشر عبر دول وسيطة أو أسواق سوداء، إضافة إلى التدخل الدبلوماسي لفرض هدن، تسمح بإعادة الانتشار واستخدام الاقتصاد غير الرسمي القائم على تهريب الذهب والمعادن لتمويل العمليات، فضلاً عن حملات إعلامية ونفسية للحفاظ على المعنويات ومنع الانهيار الكامل.
الأحداث الميدانية تقدم شواهد على هذه الإدارة المتعمدة للصراع؛ ففي يونيو 2023، توقف تقدم الجيش في أم درمان بعد وصول مضادات طيران وذخائر متطورة لقوات الدعم السريع. وفي ديسمبر من العام نفسه، شنّت قوات الدعم السريع هجوماً واسعاً في ولاية الجزيرة عقب تقارير عن تسلمها شحنات مدرعات حديثة. أما في منتصف عام 2024، فقد مكنت تعزيزات عبر تشاد من إعادة فرض الحصار على مناطق في شمال دارفور، بعد أن كان الجيش قد حقق تقدماً ملموساً.
استمرار هذا النهج يخدم أهدافاً إقليمية مثل، منع سيطرة طرف موالٍ لمنافس إقليمي وإبقاء السودان ساحة مفتوحة لتبادل النفوذ، كما يخدم أهدافاً دولية، تتعلق بالتحكم في الموارد الاستراتيجية وتأمين الممرات البحرية في البحر الأحمر، وإدارة تدفقات الهجرة نحو أوروبا، وهناك أيضاً أهداف اقتصادية غير معلنة، تتعلق باستمرار أرباح تجارة السلاح واستغلال الموارد تحت غطاء الفوضى.
آليات الإضعاف المتبادل في إدارة الصراع السوداني
آلية الإضعاف المتبادل تعتمد على منهجية دقيقة تهدف إلى منع أي طرف من تحقيق انتصار حاسم، سواء على المستوى الميداني أو السياسي، وفي كل مرة يحرز الجيش تقدماً أو يحقق مكاسب، تبدأ محاولات الضغط عليه من خلال تقليص الدعم اللوجستي والسياسي الذي يتلقاه من حلفائه، مما يحد من قدرته على الاستمرار في العمليات بشكل فعال. إلى جانب ذلك يتم فتح جبهات جديدة أو تأليب بعض القوى المحلية ضده؛ كي تشتت انتباهه وتمتص زخمه القتالي، كما يتم إشغال القيادة العسكرية بأزمات إنسانية أو سياسية، تفرض عليها التعامل مع قضايا معقدة، تستهلك الوقت والجهد وتعرقل العمليات الميدانية التي يخطط لها بالمقابل، عندما يتمدد الدعم السريع أو يحقق مكاسب ميدانية ملموسة، لا يمر هذا الأمر دون رد حيث يتم استنزافه في معارك طويلة الأمد، تمتص قوته، وتجعل تقدمه بطيئاً ومتعِباً. إضافة إلى ذلك يتم عرقلة خطوط إمداده أو سحب الدعم الدبلوماسي مؤقتاً لإضعاف موقفه على الساحة كل هذه الأدوات مجتمعة، تخلق حالة مستمرة من التوازن الهش، تقوم على الإضعاف المتبادل لضمان عدم تمكن أي طرف من حسم الصراع بشكل نهائي.
فخ التوازن الهش
تُظهر المؤشرات، أن السيناريو الأرجح في المدى القريب هو بقاء التوازن الهش في السودان حتى عام 2026 على الأقل مع ضآلة فرص الحسم العسكري الكامل، وزيادة احتمالات تسوية، تُفرض من الخارج مقابل أثمان سيادية مرتفعة، يتم الحفاظ على هذا التوازن عبر آلية الإضعاف المتبادل، المستفيدون من هذه الحالة يتوزعون بين قوى دولية وإقليمية وشبكات اقتصادية غير رسمية، مرتبطة بتجارة الذهب والسلاح وبعض القوى السياسية الهامشية التي ترى في استمرار القتال فرصة لإعادة التموضع. لكن هذا النهج يحمل أيضًا مخاطر جسيمة على الدول المنخرطة فيه، من اتهامات دولية بدعم أطراف متهمة بارتكاب جرائم حرب إلى ارتدادات أمنية داخلية، وانتقال العنف عبر الحدود وتعطل الاستثمارات وفقدان السيطرة على مسار الصراع، إذا تبدلت التحالفات فجأة.
دول الجوار تواجه تحديات أكثر حدة، تشمل تسلل مقاتلين ومرتزقة وانتعاش الجماعات المسلحة، وتنامي الجريمة المنظمة وتعطل حركة التجارة وارتفاع كلفة تأمين الحدود، وتعرض مشاريع استراتيجية للخطر. كما أن موجات النزوح المتجددة تضيف ضغطًا على الخدمات والبنية التحتية مع احتمال تسلل عناصر مسلحة وسط النازحين، فضلًا عن استقطاب سياسي، قد يضعف الهياكل الإقليمية القائمة.
جزء من إدارة هذا الصراع يتمثل في توريط دول المنطقة في لعبة التوازن، سواء عبر تقديم دعم عسكري أو تقني أو فرض التزامات سياسية وأمنية، تربط هذه الدول بمسار الحرب أو عبر فتح جبهات ضغط غير مباشرة، واستهداف مصالحها الحيوية. الغاية هي تشتيت الانتباه وإضعاف الدور الإقليمي وخلق تبعيات استراتيجية تعيد رسم موازين القوى.
ولا يقتصر الأمر على المحيط القريب، إذ يمكن جرّ دول أخرى بعيدة للمشهد عبر تحالفات أو ارتباطات بملفات موازية، أو من خلال تضخيم قضايا مثل الهجرة أو الإرهاب كمبرر للتدخل.
إن تعزيز الرقابة على مسارات الإمداد غير الرسمية ضرورة ملحّة للحد من قدرة القوى المسلحة غير النظامية على استغلال فجوات الحدود والممرات العابرة للمنطقة، وهو ما يسهم في كبح تدفق الموارد التي تُبقي ديناميكية “هندسة التوازن” قائمة، وتطيل أمد الصراع، كما أن بناء قنوات اتصال خلفية مع مختلف الأطراف، بما في ذلك الفاعلون غير الرسميين. يوفر أداة عملية لتفكيك شبكات النفوذ التي تغذي الصراع من الخارج، وإعادة توجيه التفاعلات نحو ترتيبات تخدم استقرار الإقليم بأسره، وفي السياق نفسه، فإن الاستعداد لاحتمالات النزوح واسع النطاق وتسلل العناصر المسلحة عبر الحدود، لا يقتصر على حماية الداخل السوداني فحسب، بل يمتد إلى صون النسيج الأمني والاجتماعي لدول القرن الإفريقي والمناطق المتاخمة، أما تحييد السودان عن لعبة التوازنات الخارجية عبر مبادرة إقليمية مضادة، فيمثل ركيزة استراتيجية لمنع تحوله إلى نقطة ارتكاز لصراعات وكالة وضمان بقاء الممرات الحيوية والموارد الاستراتيجية في خدمة الأمن الإقليمي، بدلًا من أن تكون وقودًا لصراعات الآخرين.