الانتخابات هي أحد مظاهر العملية الديمقراطية، وليست كلها. هي مؤشر واحد، ضمن عدة مؤشرات متعلقة باستقلال القضاء، ووجود سلطة تشريعية غير تمريرية، ونظام حزبي رشيد، وإعلام حر، ومجتمع مدني واعد وراق، وحرية رأي وتعبير. كل ما سبق يسمى المجال العام، وهو مغلق لفزاعة الإخوان أو لسبب آخر.
المظاهر السلبية التي شهدها الناس، وشهدتها السلطة، في انتخابات مجلس الشيوخ الحالي، وتقريبا تشاهد كل انتخابات، هي مظاهر يندى لها الجبين، مظاهر تهين كرامة المواطن، وتحط من سمعة المصري وتستهين به، كما تشوه صورة مصر في الخارج.
خروقات لا حصر لها في الدستور والقانون
فبالدستور وبالقانون في مصر، يمكن فعل كل شيء، تُنتهك قواعد العدالة والنزاهة والحيادية والشفافية في الترشيح والانتخاب:-
– بالدستور وبالقانون أتى النظام الانتخابي الشائه والمهجور عالميا والمُزوِر لإرادة الناخبين، بجعل أصواتهم التي توضع لحساب قائمة تحول لقائمة أخرى. رغم أن الدستور عندما أجاز في م 102، “الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي أو القائمة أو الجمع بينهما” كان يعني بالفردي النظام الأغلبي، وبالقائمة النظام النسبي. كما أن القائمة المطلقة لو قُصِدت لذكرت هكذا نصا، أما القائمة ككلمة مجردة، فتطلق في أدبيات النظم الانتخابية بمعنى “النسبية”.
– بالقانون تجرى انتخابات فردية في دوائر، يصل متوسط مساحة الواحدة منها إلى 37000 كم2، وقد تصل إلى 440 ألف كم2 كالوادي الجديد، وهي بذلك لا تقوى الأحزاب الهشة والضعيفة في النظام الحزبي المصري على التعامل معها انتخابيا، فما بالنا بالمستقلين، وهم أغلبية المرشحين والناخبين.
– بالقانون تصبح مؤسسات المجتمع المدني المصرية والأجنبية تتابع، ولا تراقب المشهد الانتخابي، بكل ما تعنيه كلمة “متابعة” من انحسار وتضييق، وما تعنية كلمة “رقابة” من حرية حركة ورصد.
– بالقانون يتم التغرير بالناس، بأن الانتخابات تراقب من القضاة لدعم المشاركة ترشيحا وانتخابا، وهي في الحقيقة تراقب من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية، وهم من موظفي الحكومة، ولا علاقة لهم بالقضاء المستقل، قضاء مجلس الدولة والقضاء العادي الجالس.
خروقات سلوكية لا يقوى أحد على إيقافها غير الدولة
مقابل ما سبق هناك خروقات، تنتهك الدستور والقانون، ولكن لا تقوى أي جهة على وقفها، بما فيها الهيئة الوطنية التي تدير الانتخابات رسميا، وذلك لكونها تتم تحت بصر وسمع السلطة، إن لم يكن بِحَث مباشر منها:-
– تتعامل الهيئة الوطنية بخفة مع العملية الانتخابية، فهي تقف على مسافات متفرقة من المرشحين، لذلك نجدها قد هددت أكثر من مرة، من ينتقد عملها. خذ على سبيل المثال تفضيلها- في الانتخابات الحالية- لمرشحي مستقبل وطن والشعب الجمهوري والجبهة الوطنية بوضعهم في أولوية قوائم المرشحين، ومنحهم رموز بعينها، ما يذكرنا بانتخابات نظام مبارك، ومن كان يديرها ككمال الشاذلي وصفوت الشريف وأحمد عز. خذ أيضا منعها لوكلاء المرشحين من حضور الفرز، ودفاعها عن ذلك المسلك، رغم أن الفقرة الأولى من م 48 من قانون مباشرة الحقوق السياسية تمنح المرشح حق حضور وكيله لأعمال الفرز. خذ كذلك ما حدث في انتخابات الرئاسة 2024، التي أعلنت أنه شارك فيها 44 مليون مقترع، عدم نشرها نتائج الانتخابات على مستوى اللجان العامة، وهو ما كانت قد عودت الناس على نشره بشفافية، هي ولجنة انتخابات الرئاسة في انتخابات الرئاسة 2014 و2018!!
– الرشاوى الانتخابية، بهدف حث الناس على المشاركة في الاقتراع. والحقيقة، أن السلطة تعلم جيدا، أنه لا يعنيها من يفوز، ومن يخسر في انتخابات الشيوخ الحالية، فكلهم أبناؤها، وممالئوها، ومناصروها، بعد أن غربلت قائمة المرشحين، خاصة في القائمة الموعودة، وبعد أن أدركت أن الجادين خرجوا من الساحة بعد مشاهد عدم النزاهة. السلطة يعنيها ذهاب الناس وتصويرهم وعد أصواتهم، حتى ولو كان بامتهان كرامة بعضهم واستغلال عوزهم وفقرهم وحاجتهم للمال، بعد أن أفقرهم التضخم، وجعل أكثر من ثلثهم تحت خط الفقر.
– الرقص والطبل والأغاني والزغاريد على أبواب اللجان، وجلب واستئجار السوابق للوقوف على أبواب المقرات الانتخابية لعمل كل ما هو مهين لقنص الناس من الشوارع، وجلبهم لانتخابات هم غير راضين عنها. (لاحظ أن نفس الناس وجدوا أمام مكاتب الشهر العقاري لمنع توكيل مرشحين بعينهم في انتخابات الرئاسة الأخيرة).
– انتهاك الدعاية الانتخابية بإدراك الجميع بتدخل المؤسسات الدينية في الانتخابات، ولو عبر حث الناس على الاقتراع، واستغلال مؤسسات ومقدرات الدولة القومية والمحلية لصالح مستقبل وطن والقائمة الفريدة (خذ مثالا، عقد مؤتمر انتخابي باستاد القاهرة)، وعدم حياد إعلام الدولة والفضائي المشرف عليه من قبل المتحدة للإعلام لصالح جماعة وقوى سياسية دون أخرى.
كيف نُجرى انتخابات مجلس النواب بشكل أفضل؟
هنا يبقى السؤال.. هل في مشهد انتخابات النواب القادمة سيفيق من يدير الانتخابات، ويترفع عن تلك الصغائر، التي دنست الصورة برمتها، وجعلت الناس تكفُر بالانتخابات كآلية للتغيير، وذلك بعزوفها عن المشاركة في الترشيح والاقتراع؟ في الأفق عدة وسائل مهمة لتحقيق ذلك. هذه الوسائل تتطلب سلامة النوايا، بأن يكون الهدف هو تأسيس برلمان قوى حر ونزيه، يحقق التوازن السليم مع السلطة التنفيذية، تلك الوسائل أهمها:-
إلغاء القوائم المطلقة: الإسراع اليوم وليس غدا، بعقد جلسة غير عادية لمجلس النواب، لتعديل النظام الانتخابي، وإقرار النظام النسبي كأولوية، أو الأغلبي عبر الأسلوب الفردي، وبما يفضي للخلاص من القوائم المطلقة المزورة لإرادة الناخبين، وبشكل يحقق الكوتات الست التي أراد بها الشارع الدستوري خلق مؤسسة اجتماعية لا سياسية!!.
نظام حزبي مستقل: رفع الدولة وصايتها على الأحزاب، وعدم رعايتها لحزب دون آخر. وأيضا ترفُع كل الأحزاب عن منافسة بعضها في ممالأة السلطة والتزلف لها.
دعم التنافسية: بأن تشجع الدولة وذراعها وهي الهيئة الوطنية للانتخابات الناس على المنافسة في الترشيح بعدم فرزهم وتصفيتهم وغربلتهم قوائم وأفرادا، حتى يدخل الجميع السباق الانتخابي، لأن الانتخابات دون منافسة تعني التزكية أو التعيين. هنا من الواجب عدم التدخل الإداري برعاية حزب ما، أو عدم الإيعاذ باختيار من يأتلف معهم الحزب، أو من يستبعدهم من الائتلاف الانتخابي معه، ونسب وجود هؤلاء في الائتلاف.
الحياد بين الجميع: يرتبط بما سبق، الحياد بين الجميع. فالحياد هو أفضل الصور التي تدعم النزاهة. انتخابات بحضور 10% محايدة، أفضل من أخرى يشارك فيها 50%، وتكون منحازة وغير شفافة.