منذ منتصف العقد الماضي، بدأت معادلة الطاقة في مصر تتبدل بسرعة.
البداية كانت الإعلان عن الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وعن اكتشافات عملاقة كحقل “ظُهر” كجواز مرور نحو التحول إلى مركز إقليمي للطاقة.
الصورة اللامعة لم تدم طويلًا، فالاستهلاك ارتفع بوتيرة أسرع من الإنتاج، والاستثمارات في التنقيب تباطأت، حتى وجدت البلاد نفسها من جديد في خانة المستورد، بفجوة يومية تقترب من 2 مليار قدم مكعب.
وسط هذا العجز، لم يكن الحل الآمن هو تنويع المصادر، بل الاتجاه مباشرة إلى خيار بالغ الحساسية، الاستيراد من إسرائيل.
السبب؛ القرب الجغرافي، خطوط قائمة تربط سيناء بسواحل تل أبيب، وشبكة تعاون إقليمي تحت مظلة “منتدى غاز شرق المتوسط”.
وهنا تكمن النقطة الغائبة إعلاميًا، المنتدى لم يكن مجرد منصة فنية لتبادل الخبرات، بل كان الإطار المؤسسي الأول الذي جمع مصر وإسرائيل في تعاون طاقي معلن، ومنح صفقات الغاز غطاءً سياسيًا واقتصاديًا، باعتبارها جزءًا من “مشروع إقليمي” لا علاقة له بالعداء القديم..
منذ أول صفقة في 2018، بدأ الغاز الإسرائيلي يتدفق إلى محطات التسييل في إدكو ودمياط، تحت لافتة “التصدير لأوروبا” الأمر الذي يمنح مصر أرباحًا، ويعزز موقعها الجيوسياسي.
سريعا، تحول ما كان يُسوَّق كتعاون تجاري إلى اعتماد استراتيجي؛ فالكميات الإسرائيلية أصبحت اليوم شريانًا حيويًا، يمد مصر بنحو 20% من احتياجاتها، ويغذي 15% من كهربائها، ويرتبط أمنه بأمن منصات ليفايثان وتمار في قلب صراع الشرق الأوسط..
ثم جاء الاتفاق الأخير في أغسطس 2025– الأكبر حجمًا والأطول زمنًا– في توقيت ملتهب، حرب على غزة، تهديدات بحرية، وتأجيل مشروعات تطوير الغاز في إسرائيل نفسها.
هنا لم يعد السؤال: هل الاستيراد من إسرائيل مربحا؟ بل أصبح إلى أي مدى يمكن لدولة، أن تربط أمنها الطاقي بدولة عدو… ثم تراهن، على أن هذا الأنبوب لن يتحول يومًا إلى سلاح؟
لماذا لا ننوع مصادر الغاز
في السياسة المصرية– والعربية عمومًا– أصبح مبدأ تنويع مصادر السلاح ثابتًا راسخًا؛ فالتعامل مع أكثر من مُورِد يقلل من فرص الابتزاز، ويضمن قدرًا أكبر من الاستقلالية في القرار. لكن حين ننتقل إلى ملف الغاز، نجد المنهج مختلفا تمامًا.
وعادة ما تكون التبريرات التي تُطرح البنية التحتية والتحالفات الإقليمية، خطوط أنابيب الغاز، مواني التسييل، واتفاقات الربط تجعل التحول بين الموردين أصعب من استبدال صفقات السلاح.
البعد التجاري: الغاز الإسرائيلي لا يُستورد فقط بل يُعاد تصديره
شح البدائل الإقليمية: بعض دول شرق المتوسط لا تملك فائضًا للتصدير، بينما استيراد الغاز من الجزائر أو قطر يتطلب منشآت لوجستية ضخمة.
ورغم وجاهة هذه التفسيرات من الناحية الفنية والاقتصادية، فهي لا ترتقي إلى مستوى استراتيجية تحمي القرار السياسي. فغياب التنويع في ملف حساس كالطاقة خيار سياسي–اقتصادي، يترك الدولة عرضة للاعتماد على مصدر واحد في قلب صراع إقليمي مفتوح.
عند البحث في البدائل، نجد السؤال مطروحا، لماذا لا نستورد الغاز من قبرص أو اليونان، فرغم شراكتهما لمصر في منتدى غاز شرق المتوسط، فإن قبرص واليونان لا تزودان القاهرة بأي كميات حاليًا.
السبب؛ أن قبرص لم تكمل بعد خط الأنابيب البحري من حقل أفروديت إلى محطات التسييل المصرية، والمشروع لن يبدأ قبل 2027–2028، كما أن إنتاجها محدود.
أما اليونان، فليست منتجًا كبيرًا، وتستورد معظم احتياجاتها. في المقابل، تملك إسرائيل خطوطًا قائمة وجاهزة، ما يجعل التوريد منها أسرع وأرخص، وهو ما دفع البنية التحتية للمنتدى للعمل لصالحها أولًا..
من صفقة اقتصادية لربط استراتيجي
في يناير 2018، وقّعت شركة دولفينوس القابضة المصرية اتفاقًا مع تحالف ديليك الإسرائيلية ونوبل إنرجي الأمريكية لتوريد الغاز من حقلي ليفايثان وتمار إلى مصر، بقيمة تقارب 15 مليار دولار على مدى 10 سنوات، بكمية أولية حوالي 64 مليار متر مكعب..
الصفقة جاءت في توقيت كانت فيه مصر تحتفل بإعلان الاكتفاء الذاتي من الغاز، ما جعل الإعلان عن استيراد الغاز من إسرائيل مثيرًا للتساؤلات. لتخفيف الحساسية، تم تسويق الاتفاق، باعتباره مشروعًا لإعادة تصدير الغاز الإسرائيلي، يتم ضخه عبر خط العريش– عسقلان إلى مصر، ليتم تسييله في محطات إدكو ودمياط، ثم يُعاد تصديره للأسواق الأوروبية، خاصة مع رغبة أوروبا في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
بهذه الصيغة، بدا الاتفاق، وكأنه خطوة ذكية لتعظيم أرباح مصر من البنية التحتية للتسييل، مع الإبقاء على السوق المحلية مستقلة عن الغاز الإسرائيلي.
لكن خلف هذا الخطاب، كانت هناك ملابسات سياسية واقتصادية أعمق.
سياسيًا: جاء الاتفاق بعد سنوات من التوتر بين القاهرة وتل أبيب، ليؤسس أول تعاون تجاري ضخم بعد ثورة 2011، ويُترجم عمليًا انخراط الطرفين في “منتدى غاز شرق المتوسط” كمنصة تعاون معلنة.
اقتصاديًا: الشركات الإسرائيلية كانت تبحث عن مخرج لفائض الإنتاج في ليفايثان وتمار، ومصر كانت تملك الحل الأمثل: محطات تسييل غير مستغلة بكامل طاقتها ومع مرور الوقت، بدأت ملامح التحول تظهر.
التقديرات الدولية (البنك الدولي، وكالة الطاقة الدولية) حذرت من أن الاكتفاء الذاتي المصري لن يدوم أكثر من 4– 5 سنوات، وهو ما حدث بالفعل.
ابتداءً من 2020، بدأت الكميات الموجهة للتسييل، تتسرب تدريجيًا إلى السوق المحلية لتغطية العجز المتنامي.
في 2019، تم تعديل الصفقة لزيادة الكميات المصدَّرة إلى مصر، ما مثّل خطوة أولى في تحويل الغاز الإسرائيلي من سلعة عبور، إلى ركيزة في مزيج الطاقة المصري.
هذا التحول جعل الصفقة، التي كانت تُقدَّم كـ “مشروع تجاري رابح”، تتحول إلى ربط استراتيجي طويل المدى، يربط أمن الطاقة المصري بأمن منصات الإنتاج الإسرائيلية، ويمنح تل أبيب ورقة ضغط غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
الاعتماد الذي يكبّل القرار
حاليًا، تعاني مصر من فجوة يومية بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، تُقدر بنحو 2 مليار قدم مكعب.
وتغطي إسرائيل حوالي مليار قدم مكعب يوميًا من هذه الفجوة، أي نحو 20% من إجمالي الاحتياجات، وهو ما يعادل تقريبًا 15% من الكهرباء المولدة في البلاد.
هذه النسبة ليست مجرد رقم في تقرير اقتصادي، بل ورقة ضغط حقيقية، جُرّبت على الأرض.
فأثناء حرب إيران– إسرائيل الأخيرة، توقفت الإمدادات الإسرائيلية إلى مصر بالكامل لمدة 12 يومًا، بذريعة حماية منصات الإنتاج من خطر الاستهداف بالصواريخ.
خلال تلك الفترة، اضطرت القاهرة لتطبيق جداول قطع كهرباء واسعة، وصلت في بعض المناطق إلى 3– 4 ساعات يوميًا، وتوقفت مصانع الحديد والأسمدة والبتروكيماويات عن العمل تمامًا، ما تسبب في خسائر مباشرة بملايين الدولارات يوميًا، واضطرت الدولة لحل الفجوة لشراء غاز عبر سفن تغويز لتفادى تفاقم الأزمة حينها.
الأخطر أن هذه الحالة لم تكن نتيجة قرار سياسي معلن من إسرائيل، بل مجرد توقف “فني– أمني” بحكم الأمر الواقع،
ما يعني أن أي أزمة إقليمية أو حتى تهديد أمني كفيل بأن يعيد المشهد، ويضع مصر أمام معادلة صعبة، إما التحمل الاقتصادي والاجتماعي لانقطاع الإمدادات، وإما القبول بشروط الواقع الذي تفرضه تل أبيب.
وحتى لو قررت مصر تعويض الكميات عبر الغاز المسال، فإن ذلك يحتاج وقتًا طويلًا لتأمين الشحنات في سوق عالمية شديدة التنافس، فضلًا عن أن أسعار الغاز المسال أعلى من سعر الغاز الإسرائيلي، ما يضيف عبئًا ماليًا ثقيلًا على الدولة.
هكذا يصبح الاعتماد على الغاز الإسرائيلي عامل تقييد للقرار المصري في لحظات الأزمات، ليس فقط في ملفات الطاقة، بل في أي ملف سياسي أو أمني، يمكن أن تستخدم فيه هذه الورقة كورقة ضغط غير مباشر.
وعلى الرغم من العلاقات المتنامية بين القاهرة وتل أبيب خلال العقد الأخير، فإنها لا تزال علاقات هشة، قابلة للانهيار مع أي توتر إقليمي. وهذا ما يجعل من صفقة غاز طويلة الأجل مع طرف في بيئة جيوسياسية متقلبة مغامرة غير محسوبة.
والحقيقة، أن الغاز هنا لم يعد ملفًا اقتصاديًا فقط، بل أداة ضغط سياسية صريحة، يمكن توظيفها في كل الملفات من غزة، إلى التطبيع، إلى مواقف مصر في المحافل الدولية.
الاتفاق الأخير: أعمق في فخ الاعتماد
في أغسطس الجاري، أُعلن عن اتفاق جديد بين مصر وإسرائيل لزيادة كميات الغاز المصدَّرة إلى مصر، بصفقة تمتد لسنوات طويلة، وتتجاوز في حجمها كل ما سبق.
هذا يعني ببساطة، أن مصر ليست بصدد “استمرار الوضع القائم” فقط، بل تتجه لتعميق ارتباطها بالغاز الإسرائيلي في وقت تتسع فيه الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك.
ولتنفيذ هذا الاتفاق، لن تكفي البنية التحتية الحالية، المتمثلة في خط العريش/ عسقلان، والخط العربي، واللذان لا تتجاوز قدرتهما استيعاب الكميات الحالية.
لذلك يُرجح أن يتم إنشاء خط جديد عبر مسار نيتسانا في صحراء النقب، وصولًا إلى سيناء.
لكن حتى إسرائيل نفسها لن تكون قادرة على الوفاء بهذه الكميات الإضافية قبل استكمال توسعة حقل ليفايثان، وهو مشروع تأخر بالفعل أكثر من عامين؛ بسبب الحرب على غزة
وتتجلي خطورة الاتفاق الجديد في ثلاث نقاط أساسية:
الأولى، مدته الطويلة التي تُقيد أي إمكانية لإعادة التفاوض أو التحول لمصادر بديلة.
وكذا زيادة حجم الاعتماد في وقت يشهد فيه الإقليم أعلى درجات التوتر وعدم اليقين.
وأخيرا إبقاء أداة ضغط في يد إسرائيل لسنوات قادمة، بما يكفي للتأثير على قرارات مصر في ملفات استراتيجية.
الغاز.. أداة ابتزاز سياسي
تخيل عزيزي القارئ لحظة تفاوض حاسمة في الأمم المتحدة على قرار يدين إسرائيل؛ بسبب عدوانها على غزة. في الكواليس، يصل إلى القاهرة تحذير غير معلن: “الموقف المصري سيؤثر على استمرار إمدادات الغاز”.
هنا لا تحتاج إسرائيل إلى تهديد مباشر أو تصريح علني. يكفي أن تلمّح إلى “صعوبات فنية” أو “زيادة الطلب المحلي”، ليعرف صانع القرار، أن أي تصعيد سياسي قد يترجم فورًا إلى ساعات أطول من انقطاع الكهرباء ومصانع متوقفة، ومليارات تُهدر.
هذا النوع من الابتزاز الناعم، هو أخطر ما في ملف الغاز. فهو لا يترك أثرًا على الورق، لكنه يزرع في العمق حساسية مفرطة تجاه إغضاب المصدر، ويحوّل سلعة استراتيجية إلى أداة لتعديل السلوك السياسي دون إطلاق رصاصة واحدة.
مسارات فك الارتباط
ربما يبدو الحديث عن مسارات لفك الارتباط مع الغاز الإسرائيلي غير متسق وغير منسجم مع اتفاق أغسطس 2025، ولكن بالفعل كانت مصر خلال الشهور الأخيرة، قد بدأت مصر اتخاذ خطوات لتقليل الاعتماد على الغاز الإسرائيلي، لكنها ما زالت في إطار التحوط وليس الاستغناء.
وفي حال كان الهدف هو تقليص الشراكة إلى حدها الأدنى، فهناك مسارات واقعية، يمكن البناء عليها:
تفعيل وحدات التغويز بسعة 2.7 مليار قدم مكعب يوميًا عبر اتفاقات توريد طويلة الأجل مع دول مثل قطر والجزائر ونيجيريا.
تسريع التنقيب المحلي في البحر المتوسط والدلتا الغربية بحوافز أكبر للشركات العالمية.
تنويع الربط الإقليمي بالاستفادة من الغاز القبرصي قبل دخوله في دائرة النفوذ الإسرائيلي.
خفض الطلب المحلي على الغاز بزيادة نصيب الطاقة المتجددة، وتقليل استهلاك الصناعات كثيفة الطاقة.
وهذه الخطوات لا تلغي التعامل مع إسرائيل فورًا، لكنها تمنح مصر قدرة على إدارة العلاقة من موقع قوة.
صفقة الغاز مع إسرائيل كانت– وما زالت– رهانًا محفوفًا بالمخاطر، قد يحقق أرباحًا مالية كبيرة في الحقيقة على المدى القصير، لكنه يضعف مناعة الدولة في واحدة من أكثر السلع استراتيجية وحيوية.
لقد رأينا كيف يمكن لصاروخ يسقط قرب منصة في البحر، أن يُعتِم مدنًا ويوقف مصانع، وكيف يمكن لمكالمة في الكواليس، أن تُترجم إلى ساعات من انقطاع الكهرباء.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بجرأة:
هل نحن مستعدون لدفع ثمن استقلال قرارنا الطاقي… أم سنظل نعيش تحت رحمة أنبوب، قد يُغلق في أي لحظة؟
المصادر الرسمية والاتفاقيات
- اتفاق دولفينوس– ديليك– نوبل إنرجي (2018)
- بيانات الشركات المعلنة: Delek Drilling, Noble Energy.قيمة الصفقة: 15 مليار دولار/ 10 سنوات/ 64 مليار م³.
- مصدر: البيانات الصحفية للشركات، وتغطية رويترز 19 فبراير 2018.
- تعديل الصفقة وزيادة الكميات (2019)
- رفع الكميات المصدَّرة لمصر.
- مصدر: The Times of Israel – 2 أكتوبر 2019.
- منتدى غاز شرق المتوسط (2019)
- بيان التأسيس– القاهرة.أعضاء مؤسسون: مصر، إسرائيل، اليونان، قبرص، إيطاليا، الأردن.
- مصدر: الموقع الرسمي للمنتدى، ووكالة الأنباء الفرنسية AFP.
المصادر الإحصائية والرقمية
- الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك
- تقديرات: 2 مليار قدم³/يوم.
- مصدر: النشرة الإحصائية لوزارة البترول المصرية 2024، وتقارير Wood Mackenzie.
- حصة الغاز الإسرائيلي من السوق المصرية
- نحو 1 مليار قدم³/ يوم = 20% من الاحتياجات، و15% من الكهرباء.
- مصدر: S&P Global Platts– تقرير أغسطس 2024.
- سعة وحدات التغويز المصرية
- 2.7 مليار قدم³/ يوم (السخنة، دمياط، العقبة).
- مصدر: وزارة البترول المصرية – تصريحات الوزير طارق الملا (مارس 2025).
- سعة خطوط الأنابيب الحالية
- خط العريش– عسقلان والخط العربي.
- مصدر: تقارير الشركة القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس).
المصادر المتعلقة بالأحداث
- توقف الإمدادات أثناء حرب إيران– إسرائيل
- انقطاع كامل لمدة 12 يومًا.سبب معلن: مخاوف من استهداف منصات الغاز.
- مصدر: تغطية Bloomberg وReuters – مايو 2025.
- تأخر توسعة حقل ليفايثان
- توقف المشروع أكثر من عامين بسبب الحرب على غزة.
- مصدر: Haaretz– يوليو 2025.
المصادر التحليلية والدولية
- تحذيرات من تراجع الاكتفاء الذاتي المصري
- وكالة الطاقة الدولية (IEA)، البنك الدولي، 2018– 2019.
- الاتجاه الأوروبي لتنويع مصادر الغاز
- تقارير الاتحاد الأوروبي حول أمن الطاقة، 2022– 2024.