بدأت الدولة في إزالة مبني “هندسة السكة الحديد” بجوار كوبري ٦ أكتوبر الذي زين بلافتة مكتوب عليها بني في ١٩١٠، وهو تاريخ يفرق مع الناس الطبيعية، سواء كانوا مهتمين بالتراث والتاريخ أم لا، أو معماريين كبار أو ناس عاديين، إلا بلدوزر الدولة الذي لم يفرق معه لا مبنى قديم ولا مقبرة تاريخية، واستمر يشيع في الأرض تدميرا وتخريبا، فلم يرحم بشرا ولا حجرا، أصبح يشاهد إما يهدم، وإما يستعد للهدم، وإما يعمل على الهدم في مشهد حزين ومؤلم.
ورغم أن وعي كثير من الناس بقضايا التراث، والحفاظ على المباني التاريخية، ليس بالصورة المطلوبة، وهناك من يفضل الكوبري والمحور وناطحة السحاب مكان المبنى الأثري أو التاريخي، متصورا إنه بذلك سيجلب “كاش” أو مكسب سريع، إلا أن هناك تيارا واسعا، قاوم هذه السياسة الحكومية الممنهجة في كراهية كل ما هو قديم، وهذا الحب الجارف للكتل الخرسانية القبيحة التي باتت تغزو شوارع القاهرة، حتى لو كانت غير مطلوبة.
والحقيقة، إنه كان متوقعا أن تعمل الدولة على زيادة وعي الناس بتراثهم وقيمة مبانيهم التاريخية، ولكنها فعلت العكس، وسعت لهدم مئات المباني والمقابر التاريخية وغير التاريخية، وبدا دفاع الناس الفطري عن مبنى هندسة السكك الحديد، رغم ازدحام الكوبري المحيط به رسالة، لم تهتم بها الدولة من الأصل.
ورغم أن رفض هدم المبنى لم يصل إلى نفس درجة حملات الرفض التي استمرت لسنوات من أجل وقف هدم مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي، ومع ذلك أزال بلدوزر الدولة جانبا كبيرا منها، ورغم أنها ظلت منذ قرون تشكل الهوية البصرية لمدينة القاهرة، فرغم بناء كوبري يتيم في المنطقة وبعض المباني التي أحيطت بها، وشوهت جانبا من معالمها، إلا إنها بقيت كما هي، لم يقترب منها أي نظام سابق في مصر.
ورغم أن مجلس الوزراء شكل لجنة متخصصة لبحث موضوع هدم المقابر، وقدمت اللجنة تقريرها العام الماضي، وأثبتت عدم وجود أي جدوى للـطرق المرورية التي تخترق الجبانات، كما طرحت عدة بدائل تعتمد عــلي اســتغلال شــبكة الــطرق الــحالــية والمســتحدثــة دون المــساس بـالـجبانـات الـتاريـخية، مع وضع رؤية لاستغلال الموقع للسياحة الدينية والثقافية، وكـذلـك حـلا لمـشكلة المياه الجوفية بالمنطقة.
وكانت المفاجأة الكبرى، هي تجاهل الحكومة لتوصيات اللجنة التي شكلتها، وقررت البدء في عمليات الإزالة، مما دفع أغلب أعضاء اللجنة إلى الاستقالة؛ احتجاجا على تجاهل كل توصياتهم، واستمرت الدولة في عمليات الهدم، وبات المشهد مؤذيا أمام كل من يمر أمام السيدة نفيسة، وهو يرى عشرات الأسر، يجمعون رفات أهلهم وأحبائهم؛ لإعادة دفنهم في أماكن أخرى، أو يرى كيف تحولت مقابر تمثل تحفا معمارية حقيقية، إلى ركام أمام بلدوزر التدمير وكراهية الجمال.
إن هدم المباني والمقابر التاريخية هو محاولة لتأسيس هوية بصرية جديدة للمدينة غير الذي عرفناه منذ قرون، ولكن هذا التوجه ينسى أو يتناسى، أن كل من أسس في عصرنا الحالي شرعيته “العمرانية” على بناء هوية جديدة فعلوها في الصحراء، وفي الخلاء أو الأراضي البكر، وحافظوا على كل ذرة من تراب مبانيهم وتراثهم القديم.
إن معني الهوية البصرية للمدينة، كما يقول “أهل العمارة” يعني تلقائيا الحفاظ عليها، كما هي وتجديدها وتطويرها، لأنها عبارة عن صورة تجذب الكثيرين، وتترسخ في ذاكرتهم عبر الزمن، فمن الصعب أن تلغي وقع الهرم وأبو الهول كهوية بصرية لمصر كلها، ولا الأزهر والقلعة ومقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والقباب والمقابر المملوكية المحيطة بهما كهوية بصرية للقاهرة، ولا برج إيفل كهوية بصرية لفرنسا، وساعة بج بن في لندن، ولا الأكروبوليس في أثينا، ولا صخرة الروشة في بيروت، أو مسجد الفنا في مراكش، ولا مسجد السلطان أحمد في إسطنبول.
لم يقدم أحد في كل هذه المدن وغيرها على إزالة أثر أو مبنى تاريخي، يمثل جانبا من الهوية التاريخية لأي مدينة في العالم، فهل تخيل أحد، أن الحكومة اليونانية أثناء أزمتها الاقتصادية الطاحنة، فكرت أن تؤجر أو تشوه معلمها السياحي الأبرز “الأكروبوليس” من أجل بعض السيولة النقدية؟ أو تبني كوبري بجواره لحل مشكلة المرور؟ بالقطع لا. بل أن البولنديين أعادوا بناء وسط العاصمة الذي تهدم بالكامل أثناء الحرب العالمية الثانية، بتقنيات حديثة وبنفس تفاصيل الشكل القديم، ولم يفكروا للحظة في بناء أبراج ضخمة مكانها؛ لأنها ستحقق لهم مكاسب أكبر بكثير، مما أنفق على استعادة الهوية المعمارية لمدينتهم.
صحيح أن العالم في القرون الوسطي هيمن عليه قانون الهدم والإزالة، وغاب عنه الوعي بقضايا الحفاظ على التراث والهوية البصرية، تماما مثلما كان في ذلك الوقت الحكام يقتلون معارضيهم، وكانت نظريات الحكم الإلهي سائدة، ولكن في عالم أصبحت فيه دولة القانون هدفا، وأصبحت الشعوب ولو نظريا هي مصدر السلطات، أصبح متداخل مع قيم العصر في السياسة والاقتصاد، المعمار والحفاظ على التراث والهوية البصرية للمدن.
إن هدم مبنى “هندسة السكك الحديد” أكبر من قضية هدم مبني قديم، إنما هو يعكس فلسفة متكاملة للحكم والإدارة، تكره التراث وتتصور أن “بيزنس الكباري” والمقاهي القبيحة التي تقام تحته والعمارات الشاهقة التي تبنى على أنقاض أي مبنى تاريخي، ستحقق الرخاء وتؤسس لشرعية عمرانية جديدة، وتنسى أو تتناسى أن ما تملكه مصر من كنوز وسحر وأدوات قوة، يكمن في الحفاظ على القديم وتجديده، ولن تنافس بمبانيها الجديدة الدول التي تمتلك المال لتبني مباني أطول وأحدث على صحراء، وليس على حساب المباني القديمة.