“أوصيكم بفلسطين”.

“لا تنسوا غزة”.

كانت تلك وصية، مصدقة برائحة الدم، للصحفي الفلسطيني “أنس الشريف” قبل استشهاده مع خمسة من رفاقه بمسيرة إسرائيلية، أطلقت صواريخها على خيمة، نصبت في محيط مستشفى “الشفاء”.

كان يدرك، أن حياته مستهدفة، وأنه يمكن أن يستشهد في أية لحظة.

في لحظة الاغتيال بدا الانكشاف الإسرائيلي سياسيا وأخلاقيا مروعا، بلا تبرير مقنع، أو أية قدرة على التسويغ.

لم يكن حادث الاغتيال من أعمال المصادفات، أو طوارئ الحوادث، بقدر ما كان من أعمال الانتقام المقصودة أكثر من أي شيء آخر.

حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، أن يقنع نفسه، قبل الآخرين، بأن مشكلته في الإعلام والصحافة لا في جرائم الحرب، التي يوغل فيها بلا حساب، أو ردع.

بقوة الصور والحقائق، تقوضت صورة إسرائيل في العالم، بدت دولة مارقة، ترتكب أبشع الجرائم الإنسانية، كأنها نازية جديدة تطل على العالم.

قيل في وصف مذبحة الصحفيين، إنها محاولة لإسكات الحقيقة، وإسكات الإنسانية، بقتل الشهود.

في البداية أعلنت إسرائيل مسئوليتها الكاملة، غير أنها اضطرت تحت ضغط الإدانات الدولية الواسعة إلى تخفيف لهجة الاعتراف بادعاء لا دليل عليه، بأن “الشريف” المستهدف رقم واحد في عملية الإعدام الجماعي ينتحل صفته المهنية لإخفاء حقيقة أدواره كعضو نشط في حركة “حماس“.

حسب تصريح مسئول أمني لصحيفة “معاريف” العبرية، فإن: “استهداف أنس الشريف يعتبر عملا مشروعا لمشاركته الفعالة في القتال”!

كان ذلك تسويغا متهافتا، لم يصدقه أحد في العالم، ولا أخذه على محمل الجد.

الحقيقة، إنه مع زميله “محمد قريقع” كانا رأس حربة تفنيد الرواية الإسرائيلية، وتوثيق جرائمها بالصور الدامغة.

هذا يدخل في صميم واجباته المهنية.

أخطر أدواره، توثيق عمليات الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين بأدق التفاصيل.

بصياغة أخرى، الإشراف على عمليات إذلال إسرائيل أمام الكاميرات.

كان ذلك داعيا للانتقام.

بدأت مطاردته بعد أقل من شهرين على أحداث السابع من أكتوبر (2023)، تهديدا ووعيدا، إن لم يغادر قطاع غزة بأكمله؛ بهدف اغتيال الرواية الفلسطينية وتجريد المأساة الإنسانية من شهودها.

ملأ “الشريف” الفراغ الكبير، الذي تركه “وائل الدحدوح” كبير مراسلي “الجزيرة” إثر اضطراره لمغادرة القطاع؛ طلبا للعلاج بعد إصابة جسيمة في عملية اغتيال، أفلت منها بمعجزة.

بتعبير “الدحدوح”، الذي اجتثت أغلب عائلته بالاغتيالات: “يالصعوبة قدرنا كصحفيين وفلسطينيين في غزة، شهيد يعيش معه شهيد، ويودعه شهيد، ويدفنه شهيد”.

لم يحدث في التاريخ الإنساني كله، أن سقط أكثر من مائتي صحفي بأقل من سنتين في تغطية حرب غزة، كلهم فلسطينيون.

إنها مذابح حقيقية، مقصودة وممنهجة.

بملاحظة لافتة، دعا الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إسرائيل للسماح بدخول المراسلين الأجانب لتغطية الحرب على غزة.

لم تبد الحكومة الإسرائيلية استعدادا بأي وقت للسماح بمثل هذه التغطيات الدولية، حتى تسود روايتها عن الحرب، لكنها فشلت بقوة الحقائق والصور، وبفضل “أنس الشريف” ورفاقه.

تقوضت صورة إسرائيل، ونسفت إلى الأبد أية ادعاءات، عن أن جيشها هو الأكثر أخلاقية في العالم.

لم يكن هناك جديد في حجم ردات الفعل الصحفية والحقوقية والسياسية، التي لحقت اغتيال ستة من الصحفيين الفلسطينيين.

حدثت نفس ردات الفعل إثر اغتيال المراسلة الصحفية “شيرين أبو عاقلة” في (11) مايو (2022) أثناء تغطيتها لاقتحام مخيم جنين.

في مشهد اغتيالها أمام الكاميرات، كانت البطلة والضحية، الشاهدة والشهيدة.

عندما اغتيلت حدث ما لم يخطر على بالها يوما، توحدت المشاعر الفلسطينية في لحظة إجماع نادرة، كأنها ابنة كل بيت.

هذا ما يحدث الآن بالضبط.

الجديد هذه المرة انخراط مؤسسة حقوقية، تتخذ من العاصمة البلجيكية بروكسل مقرا لها، ومن اسم الشهيدة الفلسطينية الطفلة “هند رجب” عنوانا لها في ملاحقة قتلة “الشريف” ورفاقه، حتى لا يفلتوا من العقاب.

حققت ووثقت قصة الاغتيال، وأثبتت ضلوع رئيس الأركان وقائد الطيران في الجريمة البشعة.

رغم كل هذه الجهود والإدانات، تراهن إسرائيل، على أنها سوف تحظى بالحماية المعتادة.

عند اغتيال “شيرين أبو عاقلة” بجنسيتها الأمريكية وعلاقاتها المهنية الممتدة إلى مراكز صنع القرار في واشنطن، أحرجت إدارة الرئيس السابق “جو بايدن”، دون أن يتزحزح سقف الحماية المعتادة.

كانت دقيقة الصمت وقوفا على روحها في مجلس النواب الأمريكي مشهدا فريدا في قصة القضية الفلسطينية.

المشهد نفسه تكرر في مواقع أخرى مشابهة، وفي الأمم المتحدة نفسها.

إنها قدسية حرية الصحافة التي مثلتها “شيرين”، بصورة لم يكن ممكنا التشويش عليها.

الإدانات المتواترة أحكمت المأزق الأخلاقي الإسرائيلي، وتبدت أمام العالم بشاعة الاحتلال، لكنه لم يعاقب.

بالقوة الوحشية المفرطة منعت إسرائيل، أن يمر نعشها محمولا على الأكتاف في البلدة القديمة، أو أن يرفع عشرات الآلاف العلم الفلسطيني في شوارع القدس.

ارتكبت أثناء الجنازة أمام العالم فظائع مخجلة دون اكتراث بالفضائح السياسية والأخلاقية التي لطخت صورتها.

نزع ذلك المشهد برسائله أية أوهام، عن أن القدس تخصها وحدها، وأنها عاصمتها الموحدة والأبدية.

مع ذلك، فقد نقلت الصحف الدولية، أن القدس في يوم الجنازة بدت مدينة عربية.

هذا هو الجوهر السياسي، لما جرى في جنازة “شيرين”.

لم تكن هناك جنازة مماثلة لـ”أنس الشريف” ورفاقه، غزة كلها في جنازات، تتلاحق وأسئلة المصير تطرح نفسها بإلحاح تحت ضغط حربي الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي.

أهم الأسئلة: ما قد يحدث في غزة غدا؟.. ومتى تتوقف الحرب؟

هناك أولا، محاولات للعودة إلى خطة المبعوث الأمريكي “ستيف ويتكوف”، وقف إطلاق نار لستين يوما وصفقة تبادل أسرى ورهائن وتحسين ملموس، لكنه محدود للأوضاع الإنسانية.

هناك ثانيا، تفكير في أسماء بعينها من تكنوقراط غزة لإدارة القطاع، بعيدا عن “حماس” و”فتح” تأهبا لليوم التالي لعقد صفقة شاملة أحد أخطر عناوينها “نزع سلاح المقاومة”.

هناك ثالثا، سيناريو احتلال غزة بذريعة اجتثاث “حماس” وإطلاق الرهائن دون أية صفقات، الذي تتبناه حكومة “نتنياهو” دون أن يكون الرأي العام الإسرائيلي مستعدا هذه المرة، أن يصدق إنها سوف تنجح، فيما فشلت فيه على مدى يقارب العامين.

وهناك رابعا، الضغط الشعبي المتزايد على مراكز صناعة القرار في الغرب، وداخل الولايات المتحدة بالذات، لوقف الحرب.

بأية حسابات لما قد يحدث غدا، فهذا عامل حاسم، الفضل الأول فيه لـ”أنس الشريف” ورفاقه.