هل يُنتزع السلاح أم تُنتزع الضمانات؟

هكذا بدا السؤال في بيروت خلال الأسابيع الأخيرة، ليس كسجالٍ فوقي بين نخب سياسية فحسب، بل كاختبارٍ اجتماعي لمعادلة الأمن والكرامة في بلد يداوي جروحه على خطوط تماس مفتوحة.

 النقاش عن “نزع سلاح حزب الله” تبدّل من شعارٍ دولي إلى مطلبٍ داخلي ملتبس، فريقٌ يرى فيه مدخلًا لاستعادة الدولة وهيبتها، وآخر يعتبره وصفة فراغٍ أمني مفتوح، إذا جاء بلا ضمانات فعلية لردع الاعتداءات وحماية الناس.

المشهد تحرّك على ثلاثة مستويات متداخلة، فعلى المستوى السياسي، انفجرت الخلافات داخل مؤسسات الحكم، الفعل الأوضح كان انسحاب خمسة وزراء شيعة من اجتماع حكومي، في إشارةٍ صريحة إلى أن أي مسارٍ يلامس سلاح الحزب من دون “سُلّم أمان” وطني وإقليمي، لن يمرّ بلا كلفة.

 الجلسة التي تلت حملت شهادة لافتة لوزير العمل اللبناني، خاطب فيها القاعة بلغة الناس: “أنا ابن هالناس… كيف بدي واجه أم شهيد بعدها بخيمة، أو شاب عايش كل يوم بقلق وجودي، وقول له تنازل عن الضمانة الوحيدة، قبل ما العدو ينسحب ويرجعوا أسرانا وتوقف الاعتداءات ونبلّش إعمار؟ غير هيك… ما فيني أتحمّل مسئولية قرار بظلم أهلي”.

 لم تكن الجملة مجرد موقف عاطفي، بل تلخيصًا لمعادلة “الأمن قبل السياسة”.

 أي حديث عن السلاح خارج سياق وقف العدوان، وضمان الحدود، وتحرير الأسرى، وإطلاق ورشة إعمار جدّية، يعني سياسيًا انتحارًا أمام جمهورٍ، يشعر أن الدولة لا تزال عاجزة عن حمايته.

على المستوى الاجتماعي/ الثقافي، جاءت أصوات مثقفين وفنانين لبنانيين لتُفرمل الاندفاع نحو شعارٍ سهل وصدامٍ صعب.

 الفكرة المركزية المتكررة في شهاداتهم، أن لبنان يعيش اليوم “مرحلة هشاشة قصوى”، وانهيار اقتصادي ممتد، وتآكل ثقة بالمؤسسات، وتّسيس مفرط للقضاء والإدارة، وحدودٌ جنوبية تُقصف دوريًا.

 في هذا السياق، يرى هؤلاء، أن أي خطوة تفكيكية كبرى- ومنها نزع السلاح-إن لم تُصمَّم ضمن صفقة أمنية سياسية محكمة، فستفتح فراغًا، تُسرّع معه الفوضى، من عودة شبكات الحرب الأهلية على شكل جديد، إلى تمدد ميليشيات هامشية، أو إعادة تدوير زعامات محلية مسلّحة تحت مسميات “الحماية الذاتية”.

بعض الأصوات شددت على أن الناس تريد دولة، لا “فراغًا مُحكَمًا”، وأن الطريق إلى الدولة لا يمرّ عبر تحطيم عناصر الردع قبل بناء بديلٍ وطني قادر.

 المستوى الإقليمي، حكمته معادلة واضحة” لبنان ليس جزيرة”. الضغط لنزع السلاح كان جزءا من إعادة ترتيب أوسع في المنطقة، حيث تُختبر معادلات الردع شمال فلسطين وسوريا، وتُعاد هندسة خرائط النفوذ في ظل صراعٍ مفتوح بين إسرائيل ومحورٍ إقليمي متعدّد الأذرع.

 لكل ذلك، فإن ربط الملف اللبناني بإيقاع مواجهات الجنوب، وبروز خطوط اشتباك من الجليل إلى البقاع، جعل أي حديث عن “نزع” بلا “اتفاق” أقرب إلى خفضٍ أحادي للذراع اللبنانية، في معركة لم تُقفل بعد.

 هنا تلتقي مقاربة جزءٍ من الداخل مع حسابات الخارج.

 القوى الدولية تدفع نحو “ضبط” سلاح الحزب كمدخل لاستقرارٍ اقتصادي وتمويلٍ مشروط، فيما يتوجس الحزب، من أن أي ترتيب ناقص قد يُعيد إنتاج “الأمن بالوكالة” لمصلحة إسرائيل، ويترك لبنان مكشوفًا سياسيًا وأمنيًا في لحظة إعادة الترسيم.

من زاوية عملية أين يقف الملف اليوم؟ يمكن تلخيص مسارات النقاش بثلاث صيغٍ متنافسة

الصيغة الأولى، “القرار الداخلي المحض”، أي مسار لبناني صرف، يذهب إلى جدولٍ زمنيٍّ لنزع السلاح ضمن خطة دمجٍ تدريجي للعناصر في مؤسسات الدولة، مقابل حزمة إصلاحات اقتصادية ودعمٍ دولي.

 ومشكلتها أنها تفترض وجود دولة قادرة، قبل أن تستعيد هذه الدولة عناصر قدرتها، وتفترض أيضًا بيئة إقليمية منخفضة التوتر، ليست متوافرة.

الصيغة الثانية، “المقايضة الأمنية”: وقف إطلاق نار ثابت على الجبهة، تفاهمات حدودية برعاية دولية- عربية، ضمانات صلبة ضد الاعتداءات، إطلاق مسار إعادة الإعمار في الجنوب، ثم معالجة ملف السلاح على مراحل: ضبط، تموضع، تسوية قانونية لبعض المنظومات ودمج أخرى.

قوتها -أي قوة هذه الصيغة- أنها تربط الخطوة بتبدّل واقعي على الأرض، ونقطة ضعفها، أنها تُعلّق الملف اللبناني على مشيئة اتفاقات أكبر منه.

الصيغة الثالثة، “التقسيط السياسي” إنتاج قواعد سلوك داخلية أولًا (منع التصرف خارج قرار الدولة، ضبط الظهور المسلح، تنسيق عملياتي مُعلن في قضايا الحرب والسلم)، على أن يُترك شكل السلاح، ومصيره النهائي إلى ما بعد استقرار إقليمي.

 ميزتها- أي هذه الصيغة الثالثة- أنها قابلة للتطبيق السريع جزئيًا، ومشكلتها أنها قد تتحول إلى هدنة طويلة تُجمّد السؤال، ولا تُجيب عنه، ونستطيع أن نصفها بتجميد السلاح بشكل ما

بين هذه الصيغ، يظل الامتحان الحقيقي رأي الناس، وفي هذا الامتحان تحديدًا برزت “شهادات الميدان”.

ناشطون محليون من الجنوب تحدّثوا عن قلق العائلات من عودة يومية إلى النزوح، إذا صار البلد بلا ردع، وفي المقابل عن رغبة صادقة في دولةٍ واحدة وسلاحٍ واحد، شرط أن تكون هذه الدولة قابلة للحياة لا عنوانًا شكليًا.

 فنانون وإعلاميون أعادوا طرح سؤال الثمن، من سيدفع كلفة الفجوة بين قرارٍ سياسي وواقعٍ أمني؟ وهل تستطيع مؤسساتٌ منهكة، أن تسدّ هذه الفجوة في أسابيع؟

 مثقفون وقانونيون حذّروا من مسارات “تجريم سياسي”، قد تُفخّخ العدالة، وتحوّل القضاء إلى ساحة كسر عظم، بدل أن يكون أداة بناء الإجماع.

نتائج يمكن استخلاصها مما سبق:

النتيجة التحليلية الأولى، أن “نزع السلاح” ليس سياسة عامة، يمكن تمريرها بقرارٍ فوقي، بل هو نهاية مسار، يبدأ بتغيير شروط البيئة، وقف الاعتداءات، تثبيت قواعد اشتباك جديدة، ضمانات بإعادة الإعمار والعودة، ثم بناء قدرة الدولة على الإنفاذ.

 أي أن عكس هذا الترتيب سيقود إلى فراغٍ أمني وسياسي، يدفع ثمنه المجتمع قبل الطبقة السياسية.

النتيجة الثانية، أن النقاش نفسه كشف أزمة تمثيل داخل الدولة، حين يخرج خمسة وزراء شيعة من اجتماعٍ مفصلي، وحين يتكلم وزير العمل بلسان الناس المتروكين في الخيام، فهذا يعني أن “التوافق الوطني”- لا الأكثرية العددية- هو شرط القرار في ملفات وجودية. وإلّا تحوّل إلى فتيل انقسامٍ جديد.

النتيجة الثالثة، أن الثقافة ليست ترفًا في هكذا لحظات، شهادات الفنانين والمثقفين لعبت دور “ميزان الحسّ العام”.

 هذه الشهادات ذكّرت السلطة، بأن المجتمع منهك، وأن السياسة التي لا تُترجم أمنًا ودواءً وكهرباءً وعملاً، لن تُقنع أحدًا، بأن التخلي عن “ضمانة” سيجلب دولةً حاضرة.

تصريح نعيم قاسم– تثبيت موقف الحزب                

في ذروة الجدل الداخلي حول نزع السلاح، جاء تصريح الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، ليحسم اتجاه الحزب بقوله:  

 “لن نسلم سلاح المقاومة، وسنخوض معركة كربلائية في مواجهة المشروع الإسرائيلي الأمريكي وأن أي قرار حكومي يسهل نزع السلاح، هو بمثابة تنفيذ لإملاءات أمريكية إسرائيلية مشتركة، ويمثل خطرا على أمن لبنان، وتماسكه، بل ويعرض البلاد للدخول في أزمة كبرى، ويناقض ميثاق العيش المشترك”. 

الخطاب لم يقتصر على التحذير من التداعيات السياسية والأمنية، بل حمّل الحكومة «المسئولية الكاملة عن أي انفجار داخلي أو حرب»، وأكد أن الحزب أجل احتجاجاته ضد تسليم السلاح فقط لإعطاء فرصة للحوار، محذرًا من أن الشارع قد يصل بالاحتجاجات إلى عتبة السفارة الأمريكية في بيروت، إذا مضت الحكومة في هذا المسار.

هذا التصريح وضع النقاش الداخلي في إطار أكثر حدة، فبينما تدفع قوى سياسية نحو ضبط أو نزع السلاح، يتمسك الحزب بموقفه كجزء من مواجهة إقليمية أكبر، ويستعد لتعبئة الشارع، في حال شعر أن القرار الرسمي يمس جوهر مشروعه المقاوم.

. خلاصة القول: طريق الدولة يمرّ عبر الدولة نفسها- بناء قدرتها، توحيد قرارها، وتثبيت حقها وحدها في الحرب والسلم— لكن هذا الطريق لا يُشقّ بالشعارات، ولا بالقفز في الفراغ.

 أي مقاربة جدّية لملف سلاح حزب الله تبدأ من صفقة أمنية/ سياسية متكاملة، وقف اعتداءات وضمانات دولية وحدودية، إطلاق إعمارٍ كريم وعودة آمنة، ثم مسار داخلي توافقي، يعالج السلاح، باعتباره “وظيفة” يجري استبدالها بوظيفة الدولة، لا مجرد “غنيمة” تُنتزع. ما دون ذلك، ليس نزعًا للسلاح، بقدر ما هو نزعٌ لآخر خيوط الثقة بين المجتمع والدولة.