قبل أيام أكد الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، أن جميع المصانع في مصر تعمل بكل طاقتها، لكن البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الصناعة تشير إلى أن قرابة 13% فقط من المصانع المغلقة استأنفت العمل، بينما لا تزال النسبة الباقية التي تعادل 87% لا تزال متعثرة.

مدبولي قال، خلال مؤتمر صحفي عقده بمقر مجلس الوزراء، إن الدولة خلال العام ونصف الماضيين نجحت في توفير العملة الصعبة اللازمة؛ لتدبير المواد الخام، ولم تتأخر في تلبية احتياجات المصانع، وتمكنت من تحقيق نجاح كبير في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، مشددًا على أنه لا يوجد مصنع واحد متوقف عن العمل، وجميع المصانع تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية.

لكن البيانات الصادرة عن وزارة التجارة والصناعة تقول، إن جهودها نجحت في إعادة 987 مصنعًا للعمل من أصل 7422 حالة متعثرة، أو مغلقة لأسباب إجرائية أو فنية، ما يشير إلى استمرار وجود أكثر من 6400 مصنع، ما زالت في حالة توقف أو تعثر بسبب الأسباب الإجرائية أو الفنية.

لا تمثل الأرقام سالفة الذكر كل المصانع المتوقفة في مصر، وتمثل فقط المتوقفة لأسباب فنية أو إجرائية، لكن بوجه عام يصل العدد الإجمالي للمصانع المغلقة نحو 12 ألف مصنع، ما يعني أن المصانع المتوقفة لأسباب ليست إجرائية أو فنية يصل إلى 5578 مصنعًا، موزعة بين مصانع تحت الإنشاء ومصانع كانت قائمة بالفعل.

في أكتوبر الماضي، أعلن الفريق كامل الوزير، وزير الصناعة، أمام مجلس النواب الاستراتيجية الوطنية للصناعة الممتدة حتى عام2030، والتي تهدف إلى 3 محاور أساسية تتضمن علاج المشاكل الحالية التي تتعلق بالمصانع المتعثرة، لكن ظهرت أخيرا العديد من المشكلات التي تزيد من مشكلات المصانع وتعمق أزماتها.

إجراءت حكومية تزيد الضغوط

تلقت مصانع مدن العاشر من رمضان والعبور وبدر خطابات من أجهزة تلك المدن، تطالبهم بسداد مبالغ مالية، تعود إلى ما قبل خمس سنوات، دون سابق إنذار بجانب تحديد مقنن مائي “حصة استهلاك” لكل مصنع، دون توضيح لآلية احتساب الحصة المحددة.

بحسب جمعية مستثمري العبور، فإن المصانع فوجئت بمطالبات تتخطى ملايين الجنيهات لسدادها بأثر رجعي منذ عام ٢٠٢٠، مقابل زيادة في استهلاكات المياه، بأسعار أعلى من المحاسب عليها بالسعر الرسمي، وذلك رغم التزامها بسداد الفواتير الشهرية المستحقة، بناءً على عدادات رسمية من شركة المياه، وتساءلت الجمعية إذا كانت هذه الغرامات مرتبطة بالمقننات الجديدة، فلماذا تطبق بأثر رجعي؟.

تسمح المقننات الجديدة للأنشطة الصناعية غير كثيفة الاستهلاك باستخدام ما بين ١٠ و٢٠ مترًا مكعبًا من المياه شهريًا، وهي حصص لا تغطي سوى ١٥ ٪ من استهلاك بعض المصنع، فالمياه تعتبر عنصرًا أساسيًا ومدخلًا إنتاجيًا في بعض الصناعات، مثل الغزل والنسيج والصباغة وصناعات الأغذية.

ووجه اتحاد مستثمري المشروعات الصغيرة والمتوسط مذكرة رسمية إلى وزير الإسكان، شريف الشربيني، طالب فيها بتوضيح أسباب فرض الغرامات وآلية تحديد الحصص لكل مصنع، منتقدًا الغموض الذي يحيط بالقرار، مشددا على أن تلك الإجراءات من شأنها الإضرار بمناخ الأعمال وبيئة الاستثمار الصناعي، ويرفع التكلفة على المستثمرين في وقت تعاني الصناعة من ركود الأسواق.

أمام ضغط المصانع ورفضها، وافقت الجهات الرسمية على تقسيط الغرامات على الفواتير الشهرية بتخفيف العبء عليها، لكنها طالبت الصناعات تبني نظم تكنولوجية حديثة لإعادة تدوير واستخدام المياه داخل العمليات الصناعية.

لماذا تتعثر المصانع في مصر؟

أهم المشكلات التي تدفع المصانع للتعثر في مصر، تتضمن نقص السيولة وصعوبات التمويل ومشكلات الاستيراد وسلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الطاقة والإنتاج، والعبء الضريبي والرسوم الإدارية من تعقيد الإجراءات وزيادة الأعباء، بما يثني المستثمرين عن الاستمرار، وكذلك ضعف القدرة التنافسية في بعض القطاعات، ومواجهة المنتجات المصرية صعوبة في منافسة الواردات الأرخص أو الأعلى جودة.

يقول محمد البهي، عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية إن تعثر المصانع في مصر يعود في الغالب إلى مشاكل مع البنوك، والمتغيرات الاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد عام 2011، وارتفاع قيمة الدولار الذي أثر على المصانع التي تستورد الآلات والخامات، إذ زادت تكلفة الاستيراد بأكثر من خمس مرات.

بحسب دراسة لمركز “حلول” للسياسات البديلة التابع للجامعة الأمريكية، فإنه خلال الفترة بين 2015- 2019 اتجه معظم الشركات لتقليص الإنفاق الرأسمالي كنسبة من المبيعات، كما تراجع نصيب استثمارات الصناعات غير البترولية من إجمالي الاستثمارات الخاصة المنفذة للنصف تقريبًا، وأعلنت العديد من الشركات حينها وقف التوسعات خلال الفترة التالية؛ بسبب التعويم.

ويقول النائب تيسير مطر، وكيل لجنة الصناعة بمجلس الشيوخ سابقًا، إنه يجب إطلاق مبادرة شاملة تتضمن حلولًا سريعة؛ لإنهاء أزمة المصانع المتعثرة، والتي تصل إلى 13 ألف مصنع مغلقة لأسباب فنية وإداية ومالية، ومنها الضرائب والتمويل، وهما السبب الأكثر تأثيرًا في المشكلات الخاصة بالمصانع المتعثرة.

وتابع: “أصحاب المصانع المتعثرة لم يتسببوا في أزمة أوكرانيا أو جائحة كورونا أو زيادة سعر صرف الدولار أمام الجنيه، وهو ما يدعو الحكومة إلى الوقوف بجوار أصحاب المصانع المتعثرة من أجل عودة الإنتاج وتحسين معيشة المواطن.

تجارب الآخرين

بحسب المحللة الاقتصادية دينا عبد الفتاح، فإن التجارب الدولية تثبت أن النجاح في تجاوز أزمة المصانع المتعثرة يتطلب إرادة سياسية قوية، وبرامج متكاملة، وأدوات تنفيذية مرنة، وليس مجرد وعود أو تصريحات، فتركيا مرت بأزمة اقتصادية حادة، تأثرت بمشكلات العملة والتضخم، إلا أن الحكومة نجحت في تجاوزها عبر إطلاق برنامج شامل لإنقاذ القطاع الصناعي، تضمن حزمة من الإجراءات المحورية، شملت إعادة هيكلة الديون الصناعية بالتعاون بين البنوك الحكومية والخاصة، لتخفيف أعباء الفوائد وتمديد آجال السداد، بما يمنح المصانع فرصة لاستعادة توازنها المالي.

كما تم تقديم دعم مباشر للطاقة للمصانع كثيفة الاستهلاك، بهدف الحفاظ على قدرتها الإنتاجية وتجنب تسريح العمالة. وربطت الحكومة إعادة التشغيل بخطط تصديرية، تمنح حوافز أكبر للمصانع التي تسهم في زيادة الصادرات، وجلب العملة الصعبة، بما يعزز مناعة الاقتصاد في مواجهة التقلبات.

وواجهت فيتنام أيضا في التسعينيات وبدايات القرن الحالي تحديات مشابهة، خاصة في المصانع المملوكة للدولة، لكنها نجحت في التعامل معها، من خلال تبني نموذج «إعادة توجيه الإنتاج» الذي ارتكز على خطوات عدة أساسية. فقد تم تحويل خطوط الإنتاج المتعثرة نحو تصنيع سلع مطلوبة في الأسواق العالمية، بدلًا من الإصرار على منتجات محلية منخفضة الطلب، ما فتح أمامها فرصًا تصديرية أوسع.

كما عملت على تشجيع الشراكات مع مستثمرين أجانب؛ بهدف جلب التكنولوجيا الحديثة والخبرة الإدارية التي ترفع كفاءة التشغيل، فضلاً عن وضع حوافز ضريبية وجمركية واضحة لجذب الاستثمارات نحو القطاعات الصناعية المستهدفة، بما عزز قدرتها التنافسية في السوق الدولية.

في البرازيل، خصص بنك التنمية البرازيلي مليارات الدولارات خلال فترات الركود في شكل قروض منخفضة الفائدة للمصانع، كما تم ربط التمويل بخطط واضحة لزيادة الإنتاج المحلي وتقليل الواردات، وشُجِّعَت الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير قطاعات استراتيجية مثل التعدين والبتروكيماويات.

تابعت عبد الفتاح: “كل الدول الناجحة ربطت الدعم المالى بإصلاحات هيكلية وخطط إنتاج واضحة، وكان التدريب ورفع المهارات عنصرين أساسيين في كل التجارب الناجحة، كما كان التصدير وفتح أسواق جديدة محورًا مشتركًا لمعظم خطط الإنقاذ، والتزمت هذه الدول بالشفافية في البيانات، وكانت ضرورية لجذب الاستثمارات وبناء الثقة محليًا ودوليًا”.

حلول ممكنة

المحاسب الضريبي أشرف عبد الغني، مؤسس جمعية خبراء الضرائب المصرية، يقول إن الصناعة هي عصب الاقتصاد القومي وأحد أهم عوامل النمو الاقتصادي، حيث ساهمت العام الماضي بنسبة 17.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفرت 3.2 مليون فرصة عمل، وبذلك يكون القطاع الصناعي هو الأكثر مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي وتوفير فرص العمل للشباب.

ذكر عبد الغني أن الحكومة تعطي أولوية لحل أزمة المصانع المتعثرة، ووفقًا للأرقام الرسمية يوجد 5500 مصنع متعثر في مرحلة البناء و5800 مصنع قائم ويعمل، وسبب تعثرها هو تحرير سعر الصرف، ما أدى لتآكل رأس المال العامل، وبصفة خاصة للمصانع الصغيرة والمتوسطة، فضلًا عن ارتفاع تكلفة الأجور والخدمات والطاقة وزيادة الفائدة على القروض.

أشار إلى أن من أسباب التعثر أيضًا الارتفاع الكبير في أسعار الخامات، وعدم إجراء دراسات جدوى مناسبة وغياب مهارات التسويق، وتراكم المنازعات الضريبية وتصاعد غرامات التأخير، فضلًا عن الضريبة العقارية التي تمثل الملف الأكبر لدى المصانع المتعثرة.

وقال عبد الغني إن حل مشكلات القطاع الصناعي يتطلب توفير تمويل للمصانع المتعثرة بفائدة ميسرة، تتراوح بين 10 و15 % لتتمكن من تحديث الماكينات والمعدات وشراء المواد الخام، وجدولة مديونيات البنوك مع منح المصانع المتعثرة فترات سماح إضافية، ودراسة إلغاء الضريبة العقارية بصفة نهائية، وزيادة الاعتماد على المكون المحلي وتوطين صناعة الخامات ومستلزمات الإنتاج، وحماية الصناعة من المنافسات غير العادلة مع المنتجات المستوردة، وتوفير الدعم الفني واللوجيستي، وبصفة خاصة للمصانع الصغيرة والشركات الناشئة.

اتحاد مستثمري المشروعات الصغيرة والمتوسطة قدم هو الآخر مقترحات إلى الحكومة لدعم المصانع المتعثرة فنيًا فقط، عبر إعداد دراسات تفصيلية لأسباب تعثر المصانع، فالأمر لا يقتصر على التعثر المالي فقط، بل هناك جوانب فنية مرتبطة بعملية التصنيع، ومن أهمها ضعف دراسات السوق ومعدلات العرض والطلب وأماكن التسويق ونقص المواد الخام وتقادم التكنولوجيا المستخدمة.

وشدد الاتحاد على ضرورة عدم المساواة في طرق الدعم المقدمة للمصانع المتعثرة، حتى لا تتفاقم أزمة تعثر المصانع المالية، وتتراكم مديونيات جديدة، حال لم يتم معالجة الأسباب الرئيسية، مؤكدًا أن المصانع تحتاج إلى تقديم دعم إداري من الدولة لإنهاء إجراءات استيراد المواد الخام، أو الماكينات وسرعة جلبها من الخارج لاستمرار العملية الإنتاجية.

كما طالب بتقديم دعم فني عن كيفية دخول المناقصات المخصصة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة المطروحة من الحكومة في مجالات التنمية الشاملة بالمحافظات لضمان عمليات التوريد، وتوجيه المصانع التي تقوم بتصنيع منتجات غير مطلوبة في السوق؛ إلى تصنيع المنتجات التي تم تحديدها في قائمة إحلال الواردات المستوردة.