في أي حديثٍ عن «اليوم التالي» لغزة يتقدّم سؤالٌ واحد: من يمسك الأرض ويطبّق القانون؟
الإجابة العربية الأكثر تَشكّلًا حتى الآن، خرجت من القاهرة وعمّان بإعلان رسمي عن بدء تدريب ٥٠٠٠ عنصر من الشرطة الفلسطينية في مصر مع تنسيق أردني على دفعات؛ تمهيدًا لنشرهم لسدّ الفراغ الأمني والعودة إلى انتظام الحياة المدنية.
الإعلان صدر على لسان وزير الخارجية د. بدر عبد العاطي عبر وسائل الإعلام، مع التأكيد أن “المئات “دخلوا بالفعل ضمن برنامج التدريب.
لكن الأمن ليس «خدمة» محايدة هنا؛ إنه أداةٌ سياسية ترسم مَن يحكم غزة وكيف.
ولا يمكن فصل هذا التحرك عن اجتماع الفصائل الفلسطينية في القاهرة قبل أيام، وعن قناة تفاوضٍ موازية في الدوحة، تحاول إنعاش مسار التهدئة وتبادل الرهائن، وصولًا لوقف نارٍ طويل.
الصورة تتشكّل على خطّين: حوار داخلي برعاية مصرية، ومساومات معقّدة في قطر.
فجوة الأرقام.. حقائق من واقع ما بعد الحرب
الحقائق على الأرض فيما يخص تحقيق الأمن على الأرض يجب مواجهتها أولا قبل بدء التحليل للخبر ومدى تأثيره.
غزة غرفة عملياتٍ مفتوحة: 2.1 إلى 2.3 مليون نسمة في مساحة محاصرة، خدماتٌ منهارة، وسلاحٌ منفلت وميليشيات ناشئة.
معيار الشرطة المدنية عالميًا يدور حول ٣ أفراد لكل ألف ساكن؛ أي ٦– ٧ آلاف للحد الأدنى الحضري في غزة.
في بيئة ما بعد حرب، ترتفع الكثافة المؤقتة عادةً إلى ٥ لكل ألف (شرطة+ انضباط+ وحدات متخصصة)، ما يرفع الحاجة الواقعية في أول عام إلى نحو ١٢– ١٥ ألف عنصر (تحقيق، تدخّل سريع، حماية منشآت، حدود).
عند هذا الخطّ تبدو دفعة الـ٥٠٠٠ نواة تأسيسية صالحة لتأمين محاور محدّدة (المعابر، نقاط الإغاثة، البلديات المركزية)، لكنها غير كافية وحدها لفرض سيادة القانون على كامل القطاع..
الخبرات المقارنة في هذه التجربة (من كوسوفو إلى العراق) تُحذّر: العدد وحده لا يكفي، إذا انهارت منظومات النيابة والقضاء والسجون وإجراءات العدالة، الشرطة تنهار حين تعمل في فراغٍ مؤسسي. لكن السؤال الأهم والأعقد هو من يدير الشرطة، وتحت أي مظلة ستعمل؟
هناك ثلاثة نماذج مطروحة في غرف التفاوض:
إدارة مباشرة تابعة للسلطة الفلسطينية: تعني ربط القوة بوزارة الداخلية/ الشرطة المدنية في رام الله، ويصطدم هذا الخيار برفض حماس، وبتحفظٍ إسرائيلي على عودة السلطة بصورتها الحالية، فضلًا عن شرعيةٍ شعبية ضعيفة للسلطة داخل غزة.
إطار «هجين» عربي– دولي: شرطة فلسطينية بقيادة مهنية محلّية مع بعثة دعم غير قتالية (تدريب/ رقابة/ لوجستيات)، تشارك فيها مصر والأردن وشركاء أوروبيون، على غرار تجربة EUPOL COPPS في الضفة (بعثة أوروبية لبناء قدرات الشرطة والعدالة). هذا النموذج يقلّل حساسية «عودة السلطة»، ويمنح شرعية إجراءات ونزاهة.
كيان انتقالي: لجنة إدارة مؤقتة تُشرف على الأمن والخدمات، ريثما تتبلور تسويةٌ سياسية نهائية، مع إعادة تفعيل دورٍ أوروبي على المعابر.
ومن دون إطارٍ مقبول اجتماعيًا ومحاسبةٍ علنية على الأداء، ستبقى أي قوة «جسمًا غريبًا»، مهما كان تدريبها.
السؤال الأهم في هذا الطرح أين حركة حماس من كل هذا؟ هل تختفي من المشهد؟ أم تتجمد في إطار مرحلة انتقالية ترسم الواقع الخاص باليوم التالي؟
عمليًا احتمالات «الإقصاء الكامل» ضعيفة، الحركة تضرّرت عسكريًا، لكنها حافظت على رافعة اجتماعية وتنظيمية، وتُظهر استطلاعات (مايو ٢٠٢٥) مفارقةً لافتة: “تراجعًا في التأييد مقارنةً بذروة الحرب، لكن رفضًا شعبيًا واسعًا لنزع سلاحها قسرًا، مقابل ثقة متدنية جدًا بالسلطة”.
هذا يعني، أن أي قوة تُرى «امتدادًا للسلطة» ستواجه قبولًا محدودًا، ما لم تُقدَّم كمؤسسة مهنية محايدة بغطاء عربي– دولي.
لذا فسيناريو «تجميد السلاح مقابل دورٍ سياسي– مدني» يبدو أكثر واقعية، مشاركة وفدٍ من حماس في حوارات القاهرة، واستمرار قناة الدوحة، مؤشّران على انخراط جناحها السياسي في مقايضة، هدنة طويلة/ إدارة مدنية مقابل ضبط السلاح داخل غزة.
لا إعلان رسميًا حتى الآن، لكن حضور الحركة على طاولة الوساطة المصرية- القطرية وهدوء نسبي في العمليات الثقيلة، يشي بأن «التجميد» خيارٌ قيد الاختبار.
إسرائيل: رفض عودة السلطة… وتغذية «بدائل محليّة» خطِرة
تطرح إسرائيل نفسها رافضًا لعودة السلطة بصورتها الحالية إلى غزة، لكنها عمليًا تُفضِّل قوة فلسطينية «مُقيّدة» على استمرار نفوذ حماس أو الفوضى.
هنا يظهر «البديل المحلي» في صورة ميليشيات/ عصابات عشائرية، أبرزها جماعة ياسر أبو شباب و«القوى الشعبية» في جنوب القطاع، التي نسجت تنسيقًا مع الجيش الإسرائيلي حول مسارات الإغاثة، وسيطرةٍ ميدانية على أحياء بعينها، وسط اتهاماتٍ موثَّقة بنهب المساعدات والجريمة المنظمة.
هذا النهج يعيد للأذهان «روابط القرى» في الضفة بالسبعينيات: تفكيك الخصم عبر وكلاء قبليين— لكنه مُفخَّخ؛ لأنّه يُنشئ على المدى المتوسط «قوة أمر واقع» خارج أي إطار مؤسسي.
تاريخيًا، لعبت العائلات/ الحمائل في غزة دور الوسيط الأهلي لفضّ النزاعات. الجديد بعد الحرب هو تسليح بعض الشبكات العشائرية وتحوّلها لقوة شبه نظامية تحت ذريعة حماية الإغاثة أو مواجهة حماس.
أي شرطة نظامية ستدخل اليوم، ستجد نفسها أمام معادلة دقيقة:
دمج الوجهاء بوصفهم رافعة للقبول الاجتماعي، وتفكيك الذراع المسلّح الذي خرج من رحم العشيرة نفسه.
تقارير دولية وإعلامية وحقوقية، ربطت حوادث النهب والقتل حول نقاط الإغاثة بانتشار عصابات تحت «حماية»، أو «غضّ طرف» إسرائيلي، ما يرفع كلفة استعادة النظام العام على أي قوة شرطة مهنية.
حتى لو اكتمل العدد إلى ١٢– ١٥ ألفًا شرطي فيما بعد، تظلّ طبيعة الملفات اليومية هي الامتحان الحقيقي، المعابر والحدود (رفح/ كرم أبو سالم): لوجستياتٌ دقيقة، تسجيل، تفتيش، سلاسل تبريد، ومسارات آمنة، دون عسكرة الشارع، تهريب السلاح والاقتصاد الموازي: بحرٌ وأنفاقٌ وسوق سوداء… هذا يحتاج شرطة تحقيق واستخبارات جنائية، لا مجرّد دوريات.
إدارة المساعدات: ضبط قوائم الاستحقاق ومنع «خصخصة الإغاثة» في ظل اقتصاد حرب، وهي أكثر نقاط الاحتكاك سخونةً اليوم، أي إننا أمام ملفات أمنية حافلة، تنتظر قوى حقيقية تديرها، أضف إلى كل ما سبق ضرورة سيادة القانون، وذلك من دون نياباتٍ عاملة ومحاكم وسجون إنسانية، ستفقد الشرطة شرعيتها سريعًا— درسٌ شهير تلقته بعثات الأمم المتحدة السابقة التي عانت على الأرض.
قانونيًا، ملحقات أوسلو قيّدت حجم وتسليح الشرطة الفلسطينية بـأسلحةٍ خفيفة، وأعداد محددة، مع آليات رقابة وموافقة على المركبات والمدرّعات الخفيفة. العودة إلى غزة ستعيد تلقائيًا هذه القيود، ما لم يُحدَّث الاتفاق. الخبرة العملية في الضفة تُظهر أن إسرائيل ضيّقت لسنوات على إدخال تجهيزات نوعية (مركبات مدرعة خفيفة/ أسلحة)، وهو ما قد يتكرر ما لم تُضمن تسهيلاتٍ مُلزِمة ضمن ترتيبات اليوم التالي.
مصر: تدريبٌ اليوم… وسيطرةٌ غدًا
حتى اللحظة، لا يوجد إعلانٌ مصري عن «قيادة تشغيلية» على الأرض في غزة. الدور المعلن تدريبي/ تحضيري بالتنسيق مع الأردن والسلطة، لتحضير نواة شرطية فلسطينية «تسد الفراغ» بعد الحرب.
أي إشرافٍ مباشر يتجاوز التدريب يحتاج اتفاقًا سياسيًا جديدًا ومظلّةً دولية، وهو غير مُقَرّ حتى الآن. وفي المقابل، تدفع الدبلوماسية المصرية- كما يظهر من حراك الفصائل في القاهرة- إلى صيغة شرعية محلية بإسناد عربي– دولي، بدل أي وجودٍ أجنبي صلب..
ليست هذه المرة الأولى التي تُسهِم فيها القاهرة في بناء أمن غزة.
بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، تم تفعيل بعثات أوروبية لمراقبة معبر رفح، بالتوازي مع دعم أوروبي لتدريب الشرطة المدنية، وبمشاركة عربية التجربة، سرعان ما انهارت حين انقلبت موازين القوى داخليا في 2007، وانهارت الترتيبات السياسية، والمعنى واضح، التدريب لا يصمد وحده دون إطار سياسي مقبول ومؤسسات فاعلة.
تتحرّك القاهرة على مسارين متوازيين: ترتيب أمني «على الأرض»، يتمثل في تدريب الشرطة، وترتيب سياسي «فوق الطاولة» من خلال رعاية حوار الفصائل.
في الوقت نفسه، تتحرك الدوحة على خطٍّ تفاوضي مع إسرائيل (عبر اتصالات موسادية معلنة) وحماس، لإعادة تشغيل مسار التهدئة وتبادل الرهائن.
التقاء الخطين- إذا حدث- سيُنتج «صفقة اليوم التالي»: قوة شرطة فلسطينية مُعدّة عربيًا، بإسنادٍ رقابي دولي، ضمن إدارة انتقالية تُقلّص كلفة الصدام وتعيد الخدمات..
الصدام مع «أبو شباب»
أي شرطة مهنية ستقف مباشرةً أمام مصالح مسلّحة، تشكّلت خلال الفوضى: «غنائم» الإغاثة، نفوذٌ عشائري مسلّح، ودويلات جيوبٍ تحت حماية الجيش الإسرائيلي.
تقارير موثوقة رصدت صعود ياسر أبو شباب وميليشيا «القوى الشعبية»، وتنسيقها مع الجيش في رفح، مع اتهاماتٍ بالنهب والجريمة المنظَّمة.
الاستجابة الذكية ليست المواجهة الشاملة فورًا، بل تفكيكٌ تدريجي، عفوٌ مشروط فرديًا، دمج محدود بعد فحص أمني صارم، وتجفيف موارد الغنيمة عبر حوكمة شفافة للإغاثة مع رقابة عربية/ دولية حول ممرات المساعدات، وهي نقاط الاشتعال الأولى في غزة اليوم.
توصيفٌ واقعي لما هو «كافٍ» الآن
المتاح: نحو ٥٠٠٠ عنصر قيد الإعداد— «نواة تأسيسية”
الأدنى الحضري: ٦– ٧ آلاف (٣ /١٠٠٠).
الاحتياج الانتقالي: ١٢– ١٥ ألفًا مع وحدات تخصصية، ثم هبوط تدريجي بعد الاستقرار. (استدلالا من الأدبيات والمعايير المقارنة).
هذا يعني، أن على القاهرة وعمّان دفع المسار إلى مضاعفة العدد خلال ٦– ١٢ شهرًا، مع بناء قدرات تحقيق/ استخبارات جنائية وشرطة حدود، وتدخّل سريع وإلا ستتحرك الشرطة داخل «بحرٍ هائج» بلا زوارق نجاة مؤسسية.
إذا نجح النموذج «الهجين “شرطة فلسطينية مهنية بغطاء عربي– دولي ورقابةٍ على النزاهة، وتجميدٌ ذكيّ لسطوة السلاح الفصائلي والقبلي، وسلسلة عدالة فعّالة، فقد نكون أمام غزة جديدة، تُدار مدنيًا، وتستعيد الحد الأدنى من العيش والأمن.
أما إذا فشل- بصدامٍ مع حماس، أو تغوّل ميليشياتٍ عشائرية بدعمٍ إسرائيلي، أو عجزٍ مؤسسي وقضائي- فسنقف أمام منحدرٍ منطقي نحو قوة أممية/ إقليمية مباشرة، تفرض النظام من خارج النسيج المحلي، بكلّ ما يحمله ذلك من كلفة سياسية واجتماعية.
السؤال الذي يليق بالخاتمة ليس «كم شرطيًا لدينا؟» بل: أيّ شرطةٍ نريد، وتحت أيّ شرعية، وأيّ قضاءٍ يحميها من نفسها قبل غيرها؟
القاهرة والدوحة تحرّكان المشهد، والفصائل تقترب من طاولةٍ، لن تكون «أمنيّة» فقط، بل سياسية بالكامل. من هنا، فإن تدريب ٥٠٠٠ شرطي فلسطيني ليس قرارًا لوجستيًا؛ بل ورقةٌ تأسيسية في رسم ملامح غزة المقبلة، إن أُحسنّت صياغتها، ولم تُترك للرياح.