رصدنا في الجزء الأول من سلسلة المقالات هذه التطورات التي وصلت بنتنياهو إلى الاعتقاد أنه أمام فرصة تاريخية لتغيير خريطة المنطقة، كما تعرضنا لمنشأ ومضمون أفكار تغيير الشرق الأوسط حتى وصلت إلى الصيغة التي يتبناها اليوم، سواء ذكرها في تصريحاته العلنية، أو تضمنتها التسريبات التي ينشرها الإعلام الإسرائيلى.

استخلص المقال السابق أن نتنياهو وجد في عملية 7 أكتوبر، وما منحته من مشروعية للرد الإسرائيلي، فرصته لإطلاق حرب إقليمية كبرى تنهي القدرات العسكرية للقوى التي أقدمت على تحدي إسرائيل عسكرياً بصورة أو بأخرى، وهي إيران وحركة حماس وحزب الله وسوريا والحوثيين في اليمن، واستكمال احتلال فلسطين التاريخية، ثم الانطلاق نحو بناء نطاق حيوي أوسع، يشمل السيطرة -بشكل أو بآخر- جنوب لبنان وسوريا، وبناء شبكة علاقات اقتصادية إقليمية تكون هي مركزها، وتكون دول المنطقة في موقف تبعية لها وتصبح القوة الإقليمية الأعظم، وجني ثمار هذا الوضع من مكانة دولية، ومكاسب مالية واقتصادية من الثروات المتوفرة لدى دول الخليج البترولية. وأخيراً، فإن الأطماع والطموحات الصاعدة في إسرائيل تمتد لتشمل العودة إلى احتلال شبه جزيرة سيناء، وتحويل الأردن إلى وطن قومي بديل للفلسطينيين المطرودين من الضفة الغربية، بل وربما تصل إلى تبني حلم دولة “من النيل إلى الفرات” إلى هدف رسمي معلن للدولة.

ومنذ كتابة الجزء الأول لهذه السلسلة أكدت تصرفات نتنياهو هذا التوجه، الأمر الذي بلغ صورته الأكثر وضوحاً في تصريحاته في 12 أغسطس، التي كانت الأولى من نوعها لرئيس حكومة إسرائيلى، حيث تحدث عن شعوره بأنه يضطلع برسالة ذات طابع روحي وليس فقط استراتيجي، وأنه يحمل في قلبه إيماناً بحلم إسرائيل الكبرى، وهو تعبير ليس فيه مواربة عن أطماع في كل أرض فلسطين التاريخية، ومعها أجزاء من الأردن وسوريا ولبنان والسعودية ومصر.

بجانب ما سبق، يشي اندفاع نتنياهو بما يحمله من تعجل في تحقيق هذه الرؤية. فوجود ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بمواقفه المؤيدة بدون تحفظ لأكثر تطلعات إسرائيل جموحاً، فرصة لا تتكرر، ومن ثم ينبغي استغلالها للذهاب إلى أبعد مدى ممكن في إنجاز ما قد يصبح مستحيلاً مستقبلاً. كما أن الثمن الباهظ الذي دفعته إٍسرائيل حتى تصل إلى هذه الحالة من التعبئة للحرب، والمدى الذي ذهبت إليه في عملياتها العسكرية، وما تحملته من خسائر، يجعله راغباً في تحقيق أكبر قدر من المكاسب الآن لتبرير ما وضعه على عاتق المجتمع من تكاليف مادية وبشرية، وخسائر في سمعتها عالمياً.

أخيراً، فإن رغبة نتنياهو في مواصلة الحملة وتوسيعها له أبعاد شخصية. فهو يعرف أن انتهاء الحرب يعني مجىء لحظة الحساب والمساءلة عما جرى في 7 أكتوبر، والتي سيكون هو شخصياً هدفها الأول بطبيعة الحال، كما أنه قد يضطر لخوض انتخابات مبكرة في ظروف غير مواتية له، فضلاً عن مواجهة تبعات المحاكمات عن التهم الجنائية الموجهة إليه، والتي يحميه منصبه من وصولها إلى نهايتها. بعبارة أخرى، فقد أدرك نتنياهو أن فرصته الوحيدة في النجاة من مصير مظلم تكمن في أن يأتي لإسرائيل بانتصار وإنجاز تاريخي، يمحو كل ما وقع فيه من أخطاء، ويحوله إلى الزعيم الذي أتم مسيرة إسرائيل نحو الاكتمال جغرافياً والتفوق المطلق استراتيجياً واقتصادياً.

*      *      *

لا يختلف المحللون على أنه، أيا كان المسار الذي ستتخذه الأحداث في المنطقة، فما جرى خلال العامين الماضيين سيؤدي حتماً إلى نشأة نظام إقليمي جديد، بل وسيكون له آثار كبيرة على العلاقات الدولية عموماً، لكن السؤال هنا هو، ما هو شكل هذا النظام الإقليمى الجديد، وهل سيكون هو ما يتحدث عنه نتنياهو وتتمناه إسرائيل؟ هذه هي المسألة التي لا شك تشغل المعنيين بالأمن القومى في كل دول المنطقة وفي كل المجتمع الدولي، بما فيها مصر بطبيعة الحال.

إلا  أنه من الضروري أن نأخذ في الاعتبار ابتداءً أن النظام الإقليمي المقبل- كأي نظام يضم أطرافاً متعددة- سيتشكل نتيجة تفاعل عنصرين رئيسيين: الأول هو الواقع الراهن، بمعنى توازن القوة بكل مكوناتها وحقائقها والظروف المحيطة بها في اللحظة الحالية؛ والثاني هو ما ستقوم به الأطراف الإقليمية إزاء ذلك الواقع لترسيخه أو تغييره، من حيث صياغة رؤيتها لهذا النظام، ثم ما سيمكن لكل منها تعبئته من إرادة وموارد وإقدام وجدية وصبر في مساعيها لتشكيل المستقبل. الخلاصة هي أن النظام المقبل سيتشكل من التفاعل والصراع بين هذه الإرادات والطموحات وما يقع ورائها من قدرات وعزم.

*      *      *

وتعد إسرائيل الطرف الأكثر حرصاً وسعياً إلى تغيير النظام الإقليمى، والأكثر قدرة -عسكرياً على الأقل- على إحداث التغيير، مدفوعة بتوجهاتها اليمينية المتطرفة، ومستندة إلى تفوقها العسكرى، ومطمئنة إلى ما تحظى به من حماية دولية تعفيها من المحاسبة السياسية أو القانونية مهما انتهكت من أعراف وقوانين. وليس هناك شك في أن إسرائيل حققت بالفعل خلال العامين الأخيرين مكاسب كبرى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وفى لبنان وسوريا وإيران. كما أن الحرب أظهرت حجم ما تملكه من دعم أمريكى عسكرى واقتصادى ودبلوماسى، ومن انحياز القوى الأوروبية، كما كشف محدودية فاعلية الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى على ردعها.

هذا فيما يتعلق بقدرات ونوايا إسرائيل، والتي

لو أُطلِق لها العنان لكان لها اليد العليا فى رسم مستقبل المنطقة. إلا أن الأمر تحكمه أيضاً ما يرد على هذه القدرات من حدود وقيود، وأهمها -بطبيعة الحال- تصرفات وردود فعل دول المنطقة والمجتمع الدولى، وهو ما سيتم التعرض له فى الجزء التالى من هذه السلسلة. لكن، هناك قيداً آخر لا يقل أهمية وتأثيراً، وهو المتعلق بإسرائيل نفسها، وما بها من عوامل تحد من قدرتها على تحقيق أهدافها.

فقد كانت إسرائيل بمجتمعها وطبقتها السياسية، ومن قبل هذه الحرب، تشهد تحولات عميقة بالغة الأهمية. أولها وأهمها هو التحولات الديموجرافية العميقة التي

شهدتها على مدى العقود الثلاثة الماضية، مع الزيادة الكبيرة والمتسارعة في نسبة اليهود الشرقيين والمتدينين، على حساب اليهود الأشكناز ذوي الأصول الأوروبية والكتل ذات التوجهات العلمانية العصرية، الذين شكلوا عماد النهضة الإسرائيلية في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم، والذين خرج منهم النسبة الأكبر من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين التاريخيين، وأصحاب الأعمال وبناة نهضتها الاقتصادية، والمفكرين والأدباء والفنانين.

هذا التحول كان له أثره العميق على المجتمع، متمثلاً فى زيادة التطرف اليمينى وغلبة الأفكار الدينية الرجعية، واتساع الكتل العازفة عن التعليم الحديث لصالح التعليم الدينى، والرافضة للتجنيد والمتشككة فى الدولة وسلطتها. هذا فضلاً عما سببته من توترات وشروخ خطيرة فى المجتمع، ودفعت أعداداً صغيرة لكن متزايدة من القطاعات الأكثر حداثة وتعليماً إلى الهجرة، أو التحوط بترتيب بدائل للحياة خارج إسرائيل.

وقد امتد أثر هذه التحولات ليعيد تشكيل المشهد السياسى برمته، حيث سيطرت قوى اليمين المتطرف، وتفاقم الاستقطاب بينها وبين الكتل العلمانية الحداثية، وزادت حدة التوترات السياسية، وهو ما تجسد في محاولات اليمين بقيادة نتنياهو إعادة صياغة الدولة على نحو يهدد بتقويض أسس النظام الديموقراطى ومبادئ استقلال القضاء وحكم القانون، كما استغلوا الحرب الجارية للدفع بهذه الجهود، رغم معارضة غالبية مواطنى إسرائيل. زاد من تعقيد الصورة السياسية رفض الأحزاب الصهيونية إشراك الأحزاب العربية في تشكيل الائتلافات الحاكمة، رغم تمثيلها لما يزيد عن 10% من أعضاء البرلمانات المتعاقبة، ونحو 20% من السكان، الأمر الذى جعل عملية تشكيل الائتلافات الحاكمة أكثر صعوبة، وأخضع الأحزاب الكبيرة لمساومات الأحزاب الصغيرة الأكثر تطرفاً.

تجلت آثار هذه التحولات في التراجع الملموس فى جودة القيادة السياسية وكفاءة الأداء الحكومى في إسرائيل مقارنة بما هو معهود عنها منذ تأسيسها، وكان سبب وصولها إلى ما وصلت إليه من نجاحات لا يمكن إنكارها، بما في ذلك اتباع مناهج فيها تدرج ودهاء وحذر حتى فى العدوان وانتهاك القوانين. ولعل الناظر إلى الساحة السياسية الإسرائيلية بأحزابها وقادتها وأجيالهم المختلفة، يتبين أن نتنياهو ربما يكون آخر ساسة إسرائيل المؤهلين لقيادتها بكفاءة داخلياً وخارجياً، وأن كل المرشحين لخلافته إما قيادات مهزوزة الشخصية، أو ذات فكر متطرف وتكوين نفسي منحرف.

شيء من هذا القبيل يبدو أنه وجد طريقه أيضاً إلى البنية الأمنية الإسرائيلية. فقد كشفت الحرب الأخيرة أن الجيش الإسرائيلى، رغم كل ما يحظى به من دعم وتجهيز، ليس على القدر الذي عرف عنه من استعداد وكفاءة وذكاء، وهو ما تجلى في الفشل العسكرى والمخابراتى الفادح في 7 أكتوبر، ثم في أدائه الميدانى المتوسط، خاصة فى غزة، واضطراره لاستخدم القتل الواسع والتدمير بلا حدود، بدلاً من المهارة والكفاءة والحرص التي اتسم بها أداؤه تاريخياً.

يضاف إلى ما سبق، أن الحرب أظهرت الصعوبات التي تواجه قدرة إسرائيل على خوض حرب طويلة الأمد دون اعتماد شبه كلي على الدعم العسكرى والاقتصادى الأمريكى. فقد تبين أن امتداد زمن الحرب يؤدي إلى الاستنزاف السريع للأسلحة والذخيرة، والتأثير بشدة على أداء الاقتصاد بسبب استدعاء أعداد كبيرة من الاحتياط من سوق العمل، فضلاً عن أن امتداد الحرب يؤدى إلى تصاعد ظاهرة رفض الخدمة العسكرية بين شرائح متزايدة من الشباب الإسرائيلى، والتي تتفاقم آثارها نتيجة زيادة نسبة الشباب المتدين (الحريدى) الذي لا يؤدى الخدمة العسكرية أصلاً.

كما أن تحولات المجتمع فى إسرائيل، والشعور بأنها لديها حماية من المحاسبة، بجانب تراجع الضغوط العربية والفلسطينية ارتكاناً إلى أن هناك عملية سلام يفترض أن تأخذنا إلى التسوية، ترتب عليه ما نراه من تبجح زعماء إسرائيل في الجهر بالعدوانية والاستهانة بالأعراف والقوانين الدولية وبنظرة العالم إليها، وهو ما يهدر أحد أهم أسرار نجاح الكبير لإسرائيل منذ تأسيسها، وهو ما حققته من احترام وتعاطف عالمى واسع، خاصةً في الغرب. فقد خسرت إسرائيل، خلال عامين من حرب غزة، جانباً كبيراً مما حققته من نجاح فى ضبط عدوانيتها وعنفها وأطماعها بطريقة تحفظ لها صورة الدولة الراقية الحديثة، المنتمية عضوياً وثقافياً إلى الغرب، والذى أتاح لها أن تزعم دائماً أنها لا تستخدم القوة إلا دفاعاً عن نفسها، فى منطقة يسودها التخلف والعنف والتطرف، ولحماية يهود العالم مما عانوه من قبل، وحتى تبقى إسرائيل وطناً وملجأً آمناً لكل من يبحث منهم عن الأمان.

وقد ترتب على هذا التغير أن شهدت صورة إسرائيل فى العالم تحولاً جذرياً. فما مارسته من عنف غير مسبوق قوض سمعتها، وكسر الحاجز النفسى الذى كان يحميها من النقد الدولى ارتباطاً بالمظلومية التاريخية لليهود، ولم تعد إسرائيل تعتبر “دولة ديمقراطية محاصرة”، بل باتت كثيراً ما توصف في وسائل الإعلام وفي أوساط المجتمع المدنى العالمى وفي أروقة المنظمات الدولية بـ”دولة الفصل العنصري”، وتُتَّهَم في دوائر متزايدة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقى وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. هذا التحول في الصورة أفرز واقعاً جديداً تمثل في تحول إسرائيل تدرجياً إلى دولة منبوذة بين دول الجنوب، وتطبيع انتقادها في الإعلام وبين السياسيين وفى المجتمعات الغربية وبوجه خاص بين الشباب والقوى التقدمية واليسار ويسار الوسط والمثقفين والأقليات، بعد أن كان هذا النقد يُوصم بمعاداة السامية. كما شهد الدعم اليهودى العالمى لها اهتزازاً ملموساً، وبدأت قطاعات من اليهود فى أوروبا وأمريكا في انتقادها وفض الارتباط بين هويتهم اليهودية والدعم التلقائي لسياساتها. 

ومع تواصل الممارسات الإسرائيلية الإجرامية فى غزة، تحولت هذه المشاعر إلى ردود أفعال عملية موجهة إلى إسرائيل، اتخذت أشكال متنوعة، من حظر تصدير السلاح جزئياً أو كلياً، وسحب الاستثمارات، وإلغاء مزايا تجارية، إلى حملات شعبية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والمقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية والنقابية، إلى الملاحقة القضائية والجنائية دولياً ومحلياً.

هذه التطورات تمس بصورة بالغة بإسرائيل ومصالحها وقوتها وتنتقص من قدرتها على مواصلة سياسة الهيمنة في المدى المتوسط والطويل. ولا تزال تجربة نظام الفصل العنصرى في جنوب إفريقيا فى السبعينات والثمانينات ماثلة، حينما كان نظام بريتوريا يحظى بمساندة غربية كبيرة شجعته على التمادى في سياساته العنصرية القمعية، فتصاعدت بدورها موجة المقاطعة والرفض العالمية، التي بدأت في صورة حركات شعبية، ثم اتسعت وازدادت قوتها حتى أصبح من الصعب على السياسيين تجاهلها، فتحولت إلى إجراءات حصار اقتصاديودبلوماسي حكومية حتى فقد النظام قدرته على الاستمرار وسقط.

خلاصة القول هو أن إسرائيل اليوم لم تعد هى نفسها إسرائيل التي عرفها العالم على مدى سنين وجودها، بفعل التغيرات الديموجرافية على مدى العقود الأخيرة، وبتأثير حربها الجنونية في غزة والتي جعلتها تندفع في التخلى عن الكثير من الثوابت التي طالما حرصت عليها واستفادت منها. والنتيجة هى أنها فقدت الكثير مما اتسمت به من كفاءة وحداثة وتماسك، وتراجع أداؤها السياسى والعسكرى والاقتصادى، وبدأت تنزف بشدة مما حظيت به من احترام وتأييد دولى، حتى لو استمرت المساندة الأمريكية فى ظل القيادة الحالية على قوتها.

*      *      *

        هذا ما كان من أمر إسرائيل، من حيث قدراتها ونواياها، وما عليها من قيود. لكن هل ستبقى البيئة الإقليمية والدولية على حالها التي أتاحت لإسرائيل الذهاب إلى هذا المدى في الأفعال والأطماع؟ وبشكل أكثر تحديداً، ماذا سيكون دور القوى الإقليمية في صياغة مستقبل النظام الإقليمى؟ هذا ما سنحاول التعرض له في المقال الأخير من هذه السلسلة.

* سفير مصر السابق في إسبانيا