ذهبت التطورات القانونية الدولية المؤسسة والضامنة للحق في السكن جيلاً بعد جيل، إلى ضمان أن يكون السكن: هو ما يضمن للإنسان أكبر قدر ممكن من الحياة الصالحة له ولذويه، فقد ذهب إعلان إسطنبول لسنة 1996 إلى: “أن المأوى الملائم يعني أكثر من سقف فوق رأس الإنسان، بل يعني أيضاً الخصوصية الملائمة، وإمكانية الوصول إليه والخبز الملائم، والأمن الملائم، والحماية القانونية للسكان، والصلابة والمتانة البنيوية والإضاءة الملائمة والتدفئة والتهوية، والبنية التحتية الملائمة”. وأيضاً اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 181/ 34 “الالتزام الأساسي للحكومات والمتمثل في حماية وتحسين المساكن والأحياء، بدلاً من تدميرها أو إلحاق الضرر بها”.

ومن هذا المنطلق، هل ما زالت الدولة المصرية معنية بالحفاظ على الحق في السكن الملائم لمواطنيها، على أن تعتمد في ذلك الأساس على المعايير والأسس الدولية المتفق عليها، إعمالاً للمبدأ الدستوري “سيادة القانون، وخضوع الدولة للقانون”. وكذلك أيضاً من خلال تصديقها على الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والتي من بينها الحق في السكن الملائم، إذ انضمت مصر لمعظم هذه الاتفاقيات والمواثيق والعهود.

وهل استرعى ضمان الحق في السكن انتباه المشرع حال إقراره لقانون الإيجارات الجديد، والذي ينهي علاقات إيجارية قائمة منذ سنوات طويلة، بما يكون معه مصير عدد لا حصر له من الأسر في مهب الريح، خلال سنوات قليلة، اعتمدها مجلس النواب في القانون الجديد وحددها بسبع سنوات، وكأنهن سنوات عجاف على المستأجرين، ربما يأتي بعدها تغيير حقيقي في النهج الرأسمالي للقوانين، والتي باتت السمة الغالبة للتشريعات المصرية، قد يكون ذلك في محاولة تعديل مسار ذلك التشريع الجديد، بما لا يضر بحق المواطنين في السكن الملائم، أم أن الدولة ستفعل التزامها بضمان ذلك الحق، بحسبه من أهم المفردات الحقوقية اللازمة للإنسان للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف إنسانية، بما يحقق التزام الدولة الدستوري الوارد بنص المادة الثامنة من الدستور المصري الأخير لسنة 2019 بضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، بما يضمن الحياة الكريمة للمواطنين.

أعلم جيداً، أن الرد سيكون جاهزاً من البعض في ظل وجود نص المادة الثامنة من القانون رقم 164 لسنة 2025، والتي تؤكد على أن هناك أحقية في تخصيص وحدة سكنية أو غير سكنية إيجارًا أو تمليكاً من الوحدات المتاحة لدى الدولة، وذلك بطلب يقدمه المستأجر أو من امتد إليه عقد الإيجار، بعد أن يقوم المستأجر بإخلاء العين المؤجرة. وهنا بيت القصيد، إذ أن ذلك لا يعدو مجرد عرض تجاري لا أكثر ولا أقل من الدولة، وكأنها تروج لبضاعة لديها، ولا يحقق أي مضمون لمعنى الحق في السكن أو الهدف من ذلك المعنى، حيث لم يورد هذا القانون أي إشارة تفيد على تحمل الدولة لأي جزء أو نصيب أو حصة من الأموال المفترض دفعها للحصول على الوحدة البديلة، إذ أن النص يسير في مسار لا يحقق أي نوع من الضمان الاجتماعي للسكان المشمولين بهذا النص، والذين قد يصبحون بلا مأوى، إلا القادرون منهم على تحمل كلفة الإيجار التمليكي أو التملك للوحدات السكنية التي سوف تعرضها الدولة، تحت مسمى “السكن البديل”، إذن وفي ظل تلك النصوص لا وجود لأي التزام دستوري أو حقوقي، يضمن أن يجد الفقراء من المستأجرين الذين يشملهم هذا القانون سكن بديل، يتوافق أولاً مع احتياجاتهم المجتمعية، وثانياً مع ظروفهم الاقتصادية، والتي قد تحولهم إلى مجموعات بلا مأوى ضامن لبقائهم في ظل ظروف حياتية غاية في الصعوبة والغلاء.

ومن ناحية القانون ذاته، والذي كان من الأوجب على الهيئة التشريعية، أن تتوجه حال استحداثها لقواعد قانونية إلى حماية الشرائح المجتمعية المختلفة، وحين تنظيم الهيئة التشريعية لقواعد قانونية ذات بعد اجتماعي، أو تتماهى مع الاحتياجات الاقتصادية للجماعة، فإنه يجب أن تتجه هذه التشريعات لحماية الطبقة الأقل حماية، أو تسعى بما تنظمه من قواعد قانونية مستحدثة إلى حماية المكتسبات المجتمعية على أقل تقدير، إن لم تكن تزيد عليها. إذ لا شك في كون النظم القانونية المحترمة يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام، هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا، لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.

وإذ أنني لا أوجه من هذا المقال إلى الخوض في العلاقة ما بين الملاك والمستأجرين بشكل رئيسي في ظل ظروف، قد كانت موجبة لاستصدار تشريع قانون، يعدل من نسق العلاقة القائمة منذ سنوات طوال ما بين طرفي العلاقة، إلا أنني بشكل رئيس أوجه حديثي إلى القائمين على النظام، والذين تبنوا هذا القانون بصيغته الحالية، والتي أقرها البرلمان، وأصدرها رئيس الجمهورية، أن يكون هناك نسق تنظيمي أقل حدة في شروطه المالية للمستأجرين الذين يتم إخلائهم من تلك المساكن، بما يؤكد أن هناك دورا مجتمعيا حقيقيا للدولة في فض لغط تلك العلاقة، والتي استمرت لسنوات طوال ما بين مؤيد ومعارض، وهو الأمر الذي يوجب على الدولة، أن يكون لها دور اجتماعي في ضمان تحقيق الحد الأدنى من السلامة الإنسانية للأسر التي يتم إخلاؤها خلال السنوات السبع، فيكفي أنهم سيتركون منازلهم، تلك التي غالباً تقع في أماكن بعيدة عن المدن الجديدة، التي سيتم إجلاؤهم أو توجيههم إليها، وهو الأمر الذي يحملهم الكثير من العنت، فلا بد أن يسترعي انتباه الدولة، سواء من ناحية مسئوليتها الحقوقية، أو مسئولياتها الدستورية الضامنة لتحقيق السلامة المجتمعية والأمان الاجتماعي، خصوصا في ظل الظروف التي يعاني منها السكان المخاطبون بأحكام هذا القانون من تردٍ في أحوال غالبيتهم المالية، وهو الأمر الذي قد يحول بينهم وبين الحصول على تلك المساكن البديلة، دونما دعم حقيقي من الدولة، وأن تكون الاشتراطات المالية لهذه المساكن مغايرة للاشتراطات العادية، بما يحقق دورها الاجتماعي في تحقيق الأمن والسلم المجتمعي.