سعيا لتعزيز شرعيتها في الداخل والخارج واستعادة الثقة المفقودة بعد سنوات من الفوضى، سعت السلطات الحاكمة في غرب ليبيا، لإجراء المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية في ليبيا، في مشهد مضطرب أمنيا، لكنها استغلته للرد على الضغوط الدولية والأممية المتصاعدة، بهدف إظهار التزامها الشكلي بقواعد اللعبة الديمقراطية.
كان من المقرر أن تنظّم الانتخابات في 63 بلدية على مستوى البلاد، 41 في الغرب و13 في الشرق، وتسع في الجنوب، لكن تم إلغاء التصويت في 11 بلدية في شرق البلاد وجنوبها، لا تخضع لسيطرة حكومة الوحدة المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة؛ بسبب ما ذكر عن مخالفات جسيمة واعتداءات.
اعتداءات وانتهاكات
في مؤشر على خطورة التحديات الأمنية، في ظل الفوضى التي تعيشها البلاد، تعرضت مكاتب الانتخابات في زليتن لهجومٍ مسلّح، أسفر عن إصابات، كما طال العنف مخازن الانتخاب الخاصة بالمواد والتجهيزات في الزاوية والساحل الغربي، عبر حرق عمدي، أدي لتلفها.
وهكذا، فمن أصل 63 بلدية، كان مقررًا استهدافها في الجولة الحالية، جرت الانتخابات فقط في 26 بلدية، وتم تعليق الانتخابات في 11 بلدية شرقي وجنوبي البلاد، بسبب “شبهات وعرقلة”، بالإضافة إلى 7 بلديات أخرى في الغرب (من بينها الزاوية، وسرت، وصرمان، وصبراتة) تم تأجيل مواعيدها.
وخلصت وسائل إعلام محلية وعربية إلى الإشارة إلى ما وصفته بالبداية المتعثرة لهذه الانتخابات، بسبب عراقيل أمنية وإدارية وهجمات مسلحة على مكاتب الاقتراع.
واستند تعليق الانتخابات في بعض البلديات إلى “أوامر من الأجهزة الأمنية” المرتبطة بحكومة الشرق، ما دفع بعثة الأمم المتحدة إلى انتقادها صراحة، حيث أعربت عن أسفها إزاء حرمان عشرات من البلديات الأخرى، بالإضافة إلى البلديات التي علّق فيها الاقتراع في فترة سابقة، عقب التعليمات الصادرة عن المؤسسات الأمنية التابعة للحكومة المعيّنة من قبل مجلس النواب، في إشارة إلى الحكومة الموازية برئاسة أسامة حماد غير المعترف بها دوليا.
ولاحظت البعثة، أن الانتخابات البلدية لم تتم الآن في المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة حماد ، على الرغم من تسجيل الناخبين والمرشحين، الأمر الذي اعتبرته انتهاكاً صارخاً لأبسط الحقوق السياسية للمواطنين الليبيين.
التحديات الأمنية
وأظهرت هذه الأحداث حجم التحديات الأمنية، التي هددت سير الانتخابات، بعدما تأثرت ما لا يقل عن 18 بلدية سواء بالتعطيل أو بالتأجيل أو بالتعرض للهجوم.
إلى جانب الرسالة الواضحة، التي عكستها تلك الحوادث بشأن هشاشة الوضع الأمني، فإنها دلت أيضا على أن العملية الديمقراطية بحاجة لمزيد من الدعم المؤسساتي لضمان نجاح الاقتراع الوطني.
واعتبرت المُؤسسَّةِ الوطنيّة لحُقوق الإنسَّان بليبيـا، أن وتيرة الاعتداءات والهجمات المتكررة التي استهدفت تعطيل وعرقلة سير العملية الانتخابية، وتكرارها في مناطق متعددة خاضعة لسيطرة تلك السلطات خلال فترة زمنية قصيرة، يعكس نمطا ممنهجا يهدف إلى تقويض الحق في المشاركة السياسية، وعرقلة العملية الانتخابية، والمس باستقلالية مفوضية الانتخابات.
كما رأت منظمة رصد الجرائم في ليبيا، أن إصرار مفوضية الانتخابات على المضي في تنظيم الانتخابات في بيئة غير آمنة وغير مستقرة، دون اتخاذ تدابير وقائية كافية، قد عرّض الناخبين والمرشحين ومقارها للخطر.
وقالت إن اعلان المفوضية، إجراء عملية الاقتراع في 26 بلدية فقط بجميع أنحاء ليبيا، من أصل 63 كان من المفترض أن يشملها الاقتراع، يعكس فشل العملية الانتخابية في أكثر من نصف الدوائر الانتخابية.
ومنذ الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، بعد توليه السلطة لمدة 42 عاما، أجرت ليبيا أول انتخابات حرة في 2012 لاختيار 200 عضو في البرلمان.
ثم جرت انتخابات بلدية على مستوى البلاد في 2013، وأخرى تشريعية في حزيران/ يونيو 2014، اتسمت بتجدد أعمال العنف، ونسب مشاركة منخفضة.
ولاحظت وكالة رويترز، أن هذه المرة الأولى التي يُصوّت فيها السكان في انتخابات محلية منذ العام 2014، في بعض البلديات في غرب ليبيا.
وبحسب بيانات رسمية، فقد جرت المرحلة الأولى من هذه الانتخابات يوم 16 نوفمبر 2024 في 58 بلدية، وشهدت إقبالا كبيرا، حيث بلغت نسبة المشاركة فيها 74 % من إجمالي عدد من يحق لهم التصويت.
وحذر التقرير الاستشاري للأمم المتحدة من تهديد الجمود السياسي في ليبيا الوحدة الوطنية والسلام والمصير الانتخابي لكافة مؤسسات الدولة.
وفي أكثر من إحاطة قدمتها أمام مجلس الأمن الدولي، لفتت المبعوثة الأممية هانا تيتيه، إلى ما وصفته بالهشاشة الأمنية والعسكرية في البلاد، مع تحذيرات مباشرة من احتمال تجدد العنف، خصوصًا حول طرابلس وعلى الجبهات الجنوبية.
احتمالات الخارطة الأممية
ومع ذلك، تطرح تيتيه خارطة طريق جديدة، تأمل في أن تقود البلاد نحو مؤسسات موحدة وانتخابات وطنية، تستند إلى نتائج استطلاع رأي، أجرته البعثة الأممية على مدار شهرين بمشاركة نحو 23 ألف مواطن ليبي، اختار 42% منهم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، وفي أقرب وقت ممكن، كأفضل خيار لكسر الجمود السياسي المستمر في البلاد منذ أكثر من عقد.
وأيد 23% من المشاركين، حلّ المؤسسات الحالية، وتشكيل هيئة تنفيذية جديدة عبر منتدى حوار، واختيار جمعية تأسيسية مكوّنة من 60 عضوًا، تقوم بإعداد دستور مؤقت وقوانين انتخابية.
وفقا لما سبق، من المرجح أن تكون الخطة الأممية خارطة طريق مختصرة ومرتكزة على مطلب الانتخابات السريعة، مع مرونة في حال فشل التوافق، عبر إدخال مرحلة انتقالية محدودة زمنيًا، وهيكلة جديدة، تقود إلى إعادة تأسيس الشرعية بطريقة سلمية ومدنية.
الميليشيات بدل الدولة
لكن أعضاء بمجلس الدولة وصفوا الدعوة لإجراء انتخابات عامة أو محلية في ظل الانقسام الحاد بالمؤسسات الليبية، بضرب من الخيال، باعتبار أن استمرار نفوذ الجماعات المسلحة يشكل عائقًا رئيسيًا أمام تنظيم انتخابات نزيهة وآمنة، ولفتوا إلى أن غياب الدولة في مناطق عدة بسبب الانقسام، جعل أصحاب المال والسلاح أصحاب التأثير المباشر على سير الانتخابات.
وبالرغم من ذلك، أكدت مفوضية الانتخابات، أنها ستعلن عن النتائج الأولية لانتخابات المجالس البلدية في غضون 3 أسابيع، خلافا لما يروج، مشيرة إلى أن السرعة تتوقّف على عدد حالات إعادة العد التي قد تنجم عن أخطاء أو عدم وضوح في حساب الأصوات في بعض محطات الاقتراع، بالإضافة إلى عملية التدقيق التي تستوجب التأكد من سلامة إجراءات التسوية.
ومع تجاهل المفوضية والبعثة الأممية وسلطات غرب ليبيا، هشاشة الوضع الأمني، تجلت السخرية في ظهور الميلشياوي معمر الضاوي، آمر الكتيبة 55 المسئولة عن تأمين منطقة ورشفانة، وهو يبارك إجراء الانتخابات في مناطق سيطرته، خلال اجتماعه مع مرشح محلي.
واكتمل العبث بإعلان الضاوي دعمه كافة البلديات المنتخبة في ورشفانة، وفرض الأمن فيها دون هوادة، لضمان تحقيق أقصى درجات الراحة للمواطنين!!
ورصدت تقارير محاولة بيع أصوات، لصالح قائمة مدعومة من الميليشياوي عبد الله الفراولة، شقيق وزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة عماد الطرابلسي.
وتضاعفت المخاطر المترتبة على الاستحقاق الانتخابي، في ضوء معلومات عن تحركات مشبوهة من قبل قيادات إخوانية لتغيير نتائج انتخابات بعض البلديات، بعد الفشل الذي تعرض له مرشحو التنظيم في الانتخابات البلدية، وحذرت تقارير من تخطيط الإخوان لإعادة ليبيا للمربع صفر مجددا.
بروفة فاشلة للرئاسية والتشريعية
ويعتقد الكثير من المراقبين، أن ما حدث في هذه الانتخابات لم يكن مجرد إخفاق إداري أو خلل أمني عابر، بل كان “بروفة جنرال” فاشلة، كشفت هشاشة الدولة الليبية في عمقها، وعجز مؤسساتها عن إدارة أبسط استحقاق ديمقراطي.
وفي بلد تُغلفه الشعارات الانتقالية منذ أكثر من عقد، تتحول كل محاولة انتخابية إلى اختبار مكشوف للسلطة والسلاح والشرعية.
فإذا كانت البلديات، بوصفها أقل مستويات الحكم احتكاكًا بالمركز، قد عجزت عن تأمين صناديقها، فكيف يُرتجى من خارطة أممية جديدة، أن تعبّد الطريق لانتخابات وطنية شاملة؟
وهكذا تحوّلت الانتخابات من “رهان على الاستقرار” إلى مرآة تعكس واقع الانقسام والتفكك الأمني والسياسي، وأكدت أن الطريق نحو الديمقراطية لا يُمهد بالإعلانات والتصريحات، بل بتفكيك منظومة العرقلة المزمنة، التي جعلت من السلاح سلطة، واتخذت من الفوضى قاعدة.
والحاصل أن الحديث عن انتخابات نزيهة، يتحول إلى مجرد ترف سياسي، عندما تفوق قوة الجماعات المسلحة قوة الدولة.
ومن البديهي، أنه ما لم يتم تفكيك هذه المنظومة المسلحة، أو على الأقل تحييدها مؤقتًا من خلال ترتيبات أمنية دولية أو توافقات وطنية، فإن أي استحقاق انتخابي سيكون عرضة للابتزاز، أو للفشل، أو ربما لما هو أسوأ، عبر صراع مسلح بعد إعلان النتائج.
وارتفع عدد مقاتلي الميليشيات، الذين تم تجنيدهم أساسًا لتعبئة الفراغ الأمني بعد 2011، من نحو 120 ألف مقاتل إلى أكثر من 200 ألف، ما يوازي نحو 11% من إجمالي القوي العاملة في البلاد.
وتدعم حكومة طرابلس 28 ميليشيا ومرتزقة، يتكلف الواحد منها حوالي 50 مليون دولار شهرياً، وهو مبلغ ضخم يكشف ضعف الدولة عن التحكم المالي والأمني.
ومع تكرار مشاهد العنف، يتردد الناخبون في الذهاب إلى مراكز الاقتراع، خوفًا من وقوع اشتباكات أو تفجيرات، ما يُضعف الإقبال الشعبي، ويقوض شرعية النتائج.
لذا، ربما يتعين على البعثة الأممية، أن تعي أن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حقيقية في ليبيا، أمر بالغ الصعوبة أمنيا؛ بسبب سيطرة الميليشيات المسلحة، في بلد ممزق، يعاني صراعا على السلطة بين حكومتي الشرق والغرب.
لهذا، تبدو الانتخابات عرضا مسرحيا هزيلا، فصناديق الاقتراع في ليبيا، أغلقت في غياب الدولة، بينما قالت الميليشيات المسلحة كلمتها.