انتهت انتخابات مجلس الشيوخ، بحسم 97,5% من المقاعد من الجولة الأولى، كان منها 100 مقعد، حسمت بالتزكية أو التعيين المقنع. الشاهد من تلك المسألة برمتها، يصل إلى نتيجة، وهو أنه لو وجد عدو خارجي يحارب المصريين في حياتهم العامة، ربما لن ينجح أن يصل إلى ما وصل إليه الحال على أيدي أبناء هذا البلد أنفسهم، الذين أفلحوا بأن يُكفروا الناس من جدوى المشاركة في العمل العام عامة والسياسي خاصة. ابتكروا دساتير لخلق واصطناع ما يسمونه مجالس منتخبة عبر كوتات لا حصر لها، ولن تجد لها مثيلا من حيث الكم في نظام سياسي واحد، وفصلوا قوانين على قدر المهانة التي حاكوها ضد الناس بشكل حاذق، بما يغل يد كل هادف للرشد والغيرة على سمعة البلاد، وفي النهاية خرقوا كل ما هو سيئ آنف الذكر، بأفعال يندى لها الجبين، بأن خلقوا من الأحزاب كيانات أضعف بكثير من كونها جمعيات أهلية، كيانات خانعة وطيعة، بعلاقات زبائنية تمنح شكل كاريكاتوري عبثي لديمقراطية مختلقة، مقابل أن يُلقي لقيادات حزبية، مردت على التملق للسلطة بفتات المنافع ممثلة بالحصانات والوجاهات الاجتماعية.

في تلك البيئة، يبدو أننا مقبلون على جولة جديدة من التردي، عنوانها انتخابات مجلس النواب. إذ يبدو أن صناع مشهد “الشيوخ” لم يكتفوا بأن ينهوا الأمر على شاكلته الراهنة، إذ أنهم على الأرجح باتوا على موعد؛ كي ينطلقوا إلى جولة جديدة من الخروقات.

هل نتندر اليوم على إيجابيات القائمة المطلقة

في انتخابات الحزب الوطني الديمقراطي إبان عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، كان الناس يتعجبون، ماذا يضير السلطة لو تركت ما فوق ثلث أعضاء مجلس النواب للمعارضة، لماذا يصرون على ترك ما هو أدني من الثلث أو الربع؟ اليوم يبدو إننا على موعد لنتندر بتلك السياسات، وكأننا قد كُتب علينا أن نعض الأنامل دوما ونندم، وأن نلتقي مع بطر العيش، فنرى حصاد هشيم، أصبحنا نشتاق لمجرد رماده. والغريب أن تلك الصورة القاتمة بقيت تطاردنا بشكل أكبر، إذا أصبحنا نترحم على الماضي القريب الذي أعقب 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 أيضا.

في انتخابات مجلس النواب 2015/ 2016، وبعدها انتخابات 2020/ 2021، كانت هناك قوائم مطلقة تُزور إرادة الناخبين، إلى جوار مقاعد فردية تُركت؛ كي ينال المستقلون بعض الفتات الذي لم ولن يسد رمقهم ورمق من انتخبوهم. اليوم نتندر على القائمة المطلقة ذاتها. فانتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة لم تترك شيئا في المقاعد الفردية أتت عليه إلا جعلته كالرميم. بعبارة أخرى، أصبح المجال الذي جرى التعارف عليه أنه متروك للمستقلين في الأسلوب الفردي مُوصد، بعد أن هيمنت عليه الأحزاب المدللة الأربعة (مستقبل وطن، وحماة وطن، والجبهة الوطنية، والشعب الجمهوري). ومن ثم أصبحنا نرى القائمة المطلقة (الملعونة) قائمة ديمقراطية، لكونها منحت في مجلس الشيوخ 8 أحزاب سياسية، شاركت في القائمة- في النظام الحزبي الهش- 20% من المقاعد المخصصة للقوائم، أي 20 مقعدا، وذلك بعد أن استحوذ المدللون الأربعة على نصيب الأسد (80 مقعدا).

الإخوان هم الرابح الأول من المشهد

هذه المشاهد برمتها تُغضب الكثيرين، لكونها تُقلل من قيمة البلاد وسُمعتها، وهذا الهدف هو ذاته، ما تسعى إليه جماعة الإخوان المسلمين. فعندما يرى هؤلاء ما حدث، ولربما يتكرر في انتخابات مجلس النواب، نكون قد وضعنا السلاح، ولربما الزناد محاطا بأصابعهم، فيصولوا ويجولوا تشويها لسمعة البلد ومكانتها. هؤلاء لن يُضيرهم النيل من مكانة مصر، في ظل حقد دفين ومزمن مردوا على اللعب عليه، رغم أنهم شهدوا بأم أعينهم، ما قاله وزير خارجية الولايات المتحدة، في منشور وزع على السفارات الأمريكية حول العالم منذ أسابيع قليلة، نصه عدم إعطاء أي دبلوماسي أمريكي أي انطباع سلبي على أي انتخابات، تجرى في أي بلد حول العالم.

الفرص لا زالت متاحة لعمل جيد

رغم ما حدث، فلا زالت الفرصة قائمة، حتى لا تنفلت الأمور، لأن الكبت يأتي دوما بنتائج عكسية. هنا من المهم أن يتعلم المرء من تجارب الماضي:

أبرز ما يمكن أن يحدث تقدم ملحوظ فيه، هو انفتاح المجال العام على مصراعيه، من السماح بالتداول السلمي للسلطة، وتجديد الدماء في الوزارة والمؤسسات العامة، وتمكين الشباب عوضا عن كبار السن المتشبثين بمواقعهم بدعوى الخبرة، أو بدعوى منحهم امتياز بعد وصولهم لسن التقاعد العسكري، وانفتاح الإعلام وعدم احتكار أي هيئة أو جماعة له، والسماح بحرية الرأي والتعبير، والخلاص من الحبس الاحتياطي في قضايا الرأي، وإنهاء السلطة القضائية الجالسة لحوائج الناس بشكل نزيه ناجز، وتحرير الأحزاب والمجتمع المدني من القيود، وعدم خلق السلطة لمعارضيها داخل البرلمان أو في الأحزاب السياسية.

في الانتخابات التي هي مجرد مؤشر ضمن مؤشرات عديدة للمجال العام آنفة الذكر، يأتي التنافس كأهم الوسائل لحث الناس على المشاركة، وهو أمر لا يأتي إلا بتعدد المرشحين والقوائم الانتخابية؛ لأن التعيين والتزكية لا تعني أبدا، أن هناك انتخابا. كما أن دور الإدارة المعنية بالعملية الانتخابية أمر مهم، وذلك بالوقوف على مسافة واحدة من جميع المرشحين، فلا تُحتكر الرموز للأحزاب المدللة الأربعة، ولا تقدم الهيئة الوطنية للانتخابات مرشحي تلك الأحزاب على باقي المرشحين. ويتم الإشراف الجيد على الحملات الانتخابية، بحيث لا تحتكر جماعة أو حزب مقدرات الدولة القومية دون غيرها، ولا يخرق طرف السقف المالي للدعاية، ويُترك المجال للرقابة على العملية الانتخابية من المنظمات المحلية والأجنبية، عوضا عن حال الاختناق والاشتراطات القائمة، ويفتح المجال أمام استطلاعات الرأي دون قيود، تخرجه من شكله العلمي وشفافيته ونزاهته. وأخيرا وليس آخرا، يتم الفرز بحضور وكلاء المرشحين، لأن منعهم من ذلك كما حدث في انتخابات الشيوخ، لا يعني فقط خرق قانون مباشرة الحقوق السياسية، بل وأيضا المزيد من تشكيك الناس في العملية الانتخابية، ومن ثم كثرة العزوف كحصاد طبيعي لأي مشهد عبثي. وأخيرا وليس آخرا، الإفصاح عن المزيد من أرقام المشاركة المتعلقة بالسن والنوع وإعلان نتائج الفرز في مستوى اللجان الفرعية، وكلها كانت أمور متاحة في الانتخابات الماضية.