تستعد فرنسا لموجة احتجاجات جديدة دعت لها قوى وجماعات سياسية غير معروفة بجانب تيارات سياسية يمينية ويسارية تصنف “متطرفة”، وذلك في ١٠ سبتمبر المقبل بعد سنوات من الحراك الاحتجاجي الأول الذي قادته “السترات الصفراء” منذ أكثر من خمس سنوات، وعادت القوى الاحتجاجية لتجهز لاحتجاج جديد الشهر المقبل حمل شعارا احتجاجيا بامتياز وهو “أمنعوا الكل” ( Bloquons tout).

وتأتي هذه الاحتجاجات بعد إعلان أحزاب أقصى اليمين واليسار رفضها لخطة رئيس الحكومة “بايرو” التقشفية والتي تشمل تخفيض الإنفاق بنحو 44 مليار يورو وتتضمن أيضا إلغاء عطلتين رسميتين، وذلك بعد أن بلغ عجز فرنسا 5.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وهو ما يتجاوز بكثير هدف الاتحاد الأوروبي الرسمي البالغ 3%.

وسواء نال رئيس الحكومة الفرنسية ثقة البرلمان أم لا في جلسة ٨ سبتمبر المقبل، فإن هذا لن يلغي المظاهرات التي رتب لها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي أغلبهم من خارج الأحزاب.

والحقيقة أن حصيلة التعبئة لتظاهرات بهذا الحجم من خارج القوى والمؤسسات القانونية تقول إن هناك أزمة في بنية النظام السياسي الفرنسي وطبيعة الديمقراطية التمثيلية لأن هؤلاء المحتجين لم تستطع الأحزاب الكبرى ولا النقابات الراسخة ولا البرلمان المنتخب ديمقراطيا أن تستوعبهم داخل أطرها الشرعية والقانونية.

واللافت أن هذه الاحتجاجات من قوى أغلبها خارج المؤسسات الشرعية وجاءت رغم صدور قانون مكافحة الشغب منذ سنوات، والذي أعطى بنده الثاني الحق لمديري الأمن (Préfecture) ) في اتخاذ قرارات بحظر التظاهُر. ويتعلق الأمر بصلاحية مديري الأمن (وليس القضاة كما في القانون السابق) في منع بعض المتظاهرين من المشاركة في تظاهُرات (وهم من ثبت تورطهم في العنف)، كما صوّت مجلس النواب على إنشاء “جُنحة إخفاء الوجه” في التظاهرات.

واللافت أن القوى التي نشطت طوال الأسابيع الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي هم خارج تقريبا مؤسسات الجمهورية الفرنسية الراسخة من أحزاب ونقابات وبرلمان وقيادات محلية، وهي كلها مؤسسات تعمل وفق الدستور والقانون وانتخب قادتها بآلية ديمقراطية، ومع ذلك لم تستطع أن تستوعب قطاعا واسعا من الجماهير شعر بأنها لا تعبر عنه واحتج ضد قرارات اتخذها رئيس جمهورية منتخب في دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية.

والسؤال الذي يجب أن تفكر فيه بلاد لا يوجد فيها برلمان يعبر عن أغلب الناس ولا محليات ولا نقابات ولا أحزاب، بأن تأخذ هذه الاحتجاجات كإنذار حقيقي ليس بالضرورة لتكرار ما تشهده فزنسا في بلاد أخرى، إنما للمخاطر المضاعفة من التفاعلات والأزمات غير المتوقعة والتي لا يمكن التعامل معها بالقوة الأمنية فقط في ظل ضعف المؤسسات والوسائط السياسية والنقابية والاجتماعية في هذه البلاد ومحاصرة نشاطها وإصعاف قدرتها وفاعليتها.

رسالة فرنسا أو درسها يقول إن حتى البلاد الديمقراطية والتي ليس فيها قيود على عمل الأحزاب وبها نقابات قوية عرفت طوال تاريخها المعاصر احتجاجات متنوعة خارج المؤسسات الشرعية، وفرنسا بالذات عرفت احتجاجات ثورية في 1968 ضد الجنرال ديجول، سميت بثورة الطلاب، صحيح أنها مختلفة عن الاحتجاجات الحالية من زاوية أن التنظيمات الأيديولوجية اليسارية الثورية التي كانت وراءها امتلكت مشاريع أيديولوجية بديلة للنظم القائمة حتى لو كانت أقرب للأحلام والأمنيات، على خلاف الاحتجاجات الحالية التي هي بالأساس نتاج شبكات تأسست على مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل أفكارا مثالية وعامة ذات طابع رافض واحتجاجي، ولا تمتلك بديلا متماسكا للنظام القائم.

كما شهدت فرنسا أيضا احتجاجات مطلبية ضد قرار الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في 1986 بتوحيد نظام التعليم ووضع قيود على التعليم الخاص وسرعان ماتراجع عنه عقب هذه الاحتجاجات، كما عرفت فرنسا أيضا احتجاجات ضد الرئيس الراحل جاك شيراك في منتصف التسعينيات، وأخيرا ضد ساركوزي في العقد الماضي، ونجحت في استيعابها ولم تسقط لا الدولة ولا النظام السياسي.

إن تعامل النظام السياسي وسلطته التنفيذية متمثلة في رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مع هذه الاحتجاجات، يتمثل في محاولة استيعاب جانب من هؤلاء المحتجين في المؤسسات الحزبية والنقابية الشرعية، وثني جانب آخر عن المشاركة في التظاهرات ليس بأدوات أمنية (رغم حضورها) إنما أساسا عبر تقديم بعض التنازلات ذات الطابع الاجتماعي للمواطنين، كما ميز الرئيس وحكومته بين القلة المخربة التي تدعو للعنف وبين المحتجين والمتظاهرين السلميين.

لم تلغ الحكومة الفرنسية والتيار المؤيد للرئيس فكرة الحوار مع هذه القوى الاحتجاجية بالقول إنها خارج إطار الشرعية وإنها تتحاور فقط مع الأحزاب الشرعية إنما حاولت بكل الطرق التواصل معها لشرح أسباب إقدامها على الإجراءات التقشقية، كما أنها استخدمت استراتيجية تفتيت كتلة المعارضة الاحتجاجية بوسائل سياسية وليست أمنية، فلا زالت تحاول تحييد اليمين التقليدي وضمان ألا يشارك في هذه الاحتجاجات وأن لايصوت على سحب الثقة من الحكومة.

سيفتح تكرار هذه الاحتجاجات في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية نقاشا حول “الأسئلة الكبرى” المتعلقة بمستقبل الديمقراطية التمثيلية وأزمة النظم الغربية المعاصرة، ومدى قدرتها على دمج القوى الجديدة والشبابية داخل منظومتها السياسية والاجتماعية، وهو تحدٍ بات يتعلق بالأوربيين من ذوي البشرة البيضاء والأوربيين من أصول مهاجرة من أصحاب البشرة “غير البيضاء”.