ربما يكمن أحد الدروس المستفادة من أزمة السفارة البريطانية في ضاحية جاردن سيتي بالقاهرة، بعد إزالة الحواجز الأمنية حولها، ردا على ما تعرضت له السفارة المصرية في لندن، هو معالجة تلك “الدونية” التي نتعامل بها مع أنفسنا، كشعب وكدولة.

يبدو التعبير صادما للوهلة الأولى، لكنه معبر عن الحال ودلالاته، ذلك أن إجبار الآخر على احترامك ومنحك قدرك، الذي تظن أو تعتقد، ليس مجانا، ولن يأتي بدون ثمن.

أقول هذا، وفي الفم ماء كثير، كشفته أزمة تلك السفارة على المستويين الرسمي والشعبي.

تخيل أنك تسير في شوارع وطنك، فتجد حواجز حديدية تمنعك، ونقاط تفتيش تُذلك، بينما سفارة أجنبية تتمتع بحرية، لم نمنحها لأنفسنا.

أزمة السفارة البريطانية في جاردن سيتي، تكشف عن جرح عميق مع الأسف.

قبل توتر العلاقات مع بريطانيا، وهذا ما تعكسه في طياتها تلك الأزمة، التي دفعت السفارة إلى الاحتجاج العملي بتعليق العمل في مقرها، بحجة تقييم الوضع الجديد، كانت الحواجز الحديدية التي وضعها الأمن، تمنع العبور.

بعيدا عن السخرية الجامحة التي عرفتها وسائل التواصل الاجتماعي، عقب هذا القرار المفاجئ، والتي عكست تماهي الموقف الرسمي والشعبي في مصر، خلافا للمعتاد، حيال تلك الأزمة، فإنها سجلت في المقابل غيابا عن مناقشة أصل المشكلة.

اعتادت السفارات الأجنبية في القاهرة على هذه المعاملة المميزة والاستثنائية للغاية، فشوارع بأكملها تغلق بالكامل بدعوى تأمينها، وكأن انسياب حركة المرور والمشاة أمامها أو حولها، أو حتى في محيطها سيؤدي إلى الإخلال بالأمن.

المشهد الذي اعتدناه حول السفارات الموزعة، بين الدقي وجاردن سيتي والزمالك والمهندسين، بدا اعتيادا جدا، ولم يثر أي انتقادات محلية، على الرغم من شكاوى أهالي تلك المناطق والمتضررين من إغلاق شوارعهم، وجعلها حكرا على السفارات تحت لافتة الأمن المبالغ فيه.

تجاهلت الحكومة أحكاما قضائية ضد وزارة الداخلية والحكومة، لمصلحة السكان والمواطنين، لا لسبب سوى أن العلاقات لم تكن متوترة مع دول هذه السفارات.

اعتبرت المحكمة، المتاريس غير قانونية وغير دستورية، ورأت في إغلاق الشوارع مثالا على تخلي الدولة عن سيادتها.

أوضحت المحكمة، أن وزارة الداخلية اتخذت العديد من الإجراءات الأمنية لتأمين السفارتين الأمريكية والبريطانية، ووضعت حواجز خرسانية على 12 منفذا حول السفارتين، بالإضافة إلى تفتيش المواطنين والكشف عليهم جنائيا وسياسيا، مما مثل عائقا أمامهم للوصول إلى المحال والمتاجر المجاورة، وأثر بالسلب عليهم.

 وقالت إنه لا ينال من ذلك ما تردده الداخلية، بأن الحالة الأمنية تستدعي ذلك، مشيرة إلى أن هذا مردود عليه، بأن الحالة الأمنية يمكن مواجهتها بأساليب الحماية الأمنية الاعتيادية، دون وضع العراقيل التي تحول دون استخدام هذه الأماكن والشوارع، وهي من المرافق العامة.

بعد سقوط نظام الرئيس الراحل حسني مبارك عام 2011، قضت المحكمة الإدارية العليا بإعادة فتح جميع الشوارع المحيطة بالسفارتين الأمريكية والبريطانية، وأمرت وزارة الداخلية ومحافظة القاهرة بالتنفيذ، بعدما أُغلقت بما في ذلك الشارع الرئيسي “أمريكا اللاتينية”، منذ الغزو الأمريكي– البريطاني للعراق عام 2003.

بسبب الاحتجاجات في ميدان التحرير القريب، أغلق وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي 12 مدخلًا، يحيط بالسفارتين، وأُقيمت متاريس ونقاط تفتيش في الشوارع الجانبية.

وعلى نحو مفاجئ، قررت السفارة الأمريكية وضع متاريس إضافية، ونصح متحدث باسمها آنذاك وسائل إعلام مصرية، بتوجيه أي استفسارات للحكومة المصرية!!.

وللدهشة والسخرية المريرة أيضا، كانت الكتابة عن الشارع غير ممكنة، دون تصريح.

وأثرت الإجراءات الأمنية الخانقة على الحياة اليومية لسكان الشوارع المجاورة، وذهبت شكواهم من وجود مدخل واحد لدخول وخروج المنطقة سُدى، ناهيك عن الحاجة لدى محاولة الدخول بالسيارة؛ لإبراز الهوية وتفتيش السيارة وتصوير الركاب.

وروى أحدهم بمرارة: “لكي أسير في شارع ببلدي، ويُطلب مني إبراز هويتي، أشعر وكأني في بلد أجنبي”.

واضطر السكان غالبا لمرافقة زوارهم، حتى نقاط التفتيش لإدخالهم، كما طالب بعض أصحاب المتاجر القريبة بتعويض عن الخسائر التي تكبدوها.

الحاصل هنا، أن المصريين أُهينوا أولا على يد الدولة، بدعوى التأمين والحراسة، قبل أن تكون السفارات الأجنبية الطرف الثاني في اكتمال الإهانة.

لا يمكن للأجنبي أن يأخذنا على محمل الجد، وهو يعلم أننا نضرب بعرض الحائط أحكام القضاء ولا ننفذها، حتى لو كانت لمصلحة المواطنين المتضررين.

عندما صعدت مصر من إجراءاتها ضد سفارة بريطانيا، لم يكن الأمر من قبيل المصادفة، بل بدا أنه بمثابة رد عملي، على ما اعتبرته القاهرة تقاعسا وإهمالا من السلطات البريطانية في تأمين مقر السفارة المصرية في لندن، من اعتداء بعض الحمقى في محاولة للإساءة إلى الدور المصري في قضية معبر رفح، والحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة الفلسطيني المحتل.

يمكننا تصور غضب وزير الخارجية بدر عبد العاطي والسفير المصري لدى بريطانيا، من هذا التقاعس البريطاني المريب والمثير للجدل، لكن الحقيقة الأكيدة، أن سلطات الأمن هناك تعللت بالدستور وحرية التعبير، وعدم قدرتها على منع أي فرد من الاحتجاج السلمي.

احترمت السلطات البريطانية نفسها، ونفذت تقاليد القانون والقضاء، ولم تجامل مصر على حساب مواطنيها، ولم تغلق الشارع المؤدي الى السفارة المصرية، كما نفعل نحن هنا في القاهرة مجانا.

هنا تكمن المفارقة فيما احترموه هم وتجاهلناه نحن.

أذكر أن في دروس الجغرافيا في المرحلتين الإعدادية والثانوية، كنا ندرس كيف أن مصر تصدر إنتاجها الرفيع المستوى من الأرز والسكر إلى الخارج، وتستورد في المقابل أنواعا أقل جودة، للاستفادة بفارق العملة الأجنبية.

شيء من هذا النموذج الاقتصادي العجيب والمدهش والمؤسف مارسناه، دون أن نشعر في قضية السفارة التي لم تعد ــ كما الإسرائيلية قديماــ في العمارة!!.

لن ننال احترام الآخر ما لم نحترم أنفسنا.

فلتُزال الحواجز، ليس فقط من الشوارع، بل من النفوس وعقلية الحكومة، ولنحترم أحكام قضائنا، كما يحترم الآخرون قوانينهم.

تلك دعوة لاستعادة السيادة المنقوصة بالفعل، وليس بالكلام.

ولعله يكون مناسبا هنا، أن نفكر في تجارب الآخرين، عبر الاستعانة بتكنولوجيا أمنية، تحمي السفارات، دون أن تُذل المواطن وتهينه في بلده وعلى أرضه!!

من حق سكان المناطق المنكوبة بوجود سفارات في شوارعها أن يسيروا دون حواجز أو تفتيش.

لكن الأساس يبقى في تنفيذ أحكام القضاء، قبل الحديث عن السيادة الحقيقية..