من وادي السيليكون في أمريكا إلى شنتشن في الصين، يتقدّم الذكاء الاصطناعي كقوة صاعدة تُعيد تشكيل موازين النفوذ في القرن الحادي والعشرين.
لم تعد السيطرة تُقاس فقط بعدد الدبابات أو حجم حقول النفط، بل أصبحت الخوارزميات الذكية هي الأداة الحقيقية للسباق: من يسبق ومن يتأخر، من يقرر ومن يُقاد..

(OpenAI – Google ــ Anthropic) ..الولايات المتحدة ما زالت تتصدر بهذه الشركات العملاقة، بينما تضخ الصين مليارات الدولارات في بناء بدائلها الوطنية.

في المقابل، تحاول أوروبا جاهدة، أن توازن بين الطموح التقني السريع وبين القيم الأخلاقية والضوابط المجتمعية.

ووفقًا للتقارير الدولية، أصبح الذكاء الاصطناعي معيارا رئيسيا في 2024.

لقياس قوة الدول، فهو يؤثر في الاقتصاد، والأمن، والتعليم، ومعيارا للصحة، وحتى طريقة الحكم، أما الدول النامية، فهى مهددة بالبقاء على الهامش، مستهلكة للتقنية، ومُراقَبة بها في آن.

مصر.. استراتيجية بلا أثر

في عام 2021، أعلنت الحكومة المصرية “الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي”، متعهدة بتوظيف الذكاء الاصطناعي لدعم الاقتصاد وتحسين جودة الحياة والتعليم..
لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات، لم يظهر أثر ملموس على أرض الواقع.

السبب، أن الاستراتيجية، رغم نُبل أهدافها، افتقرت إلى ثلاثة عناصر أساسية:

  • خطة زمنية مرحلية بأهداف قابلة للقياس.
  • تمويل كافٍ مُدرج في الموازنة العامة.
  • جهة تنفيذية موحدة تمتلك صلاحيات حقيقية.

وفوق ذلك، بقيت البيانات الوطنية، إما محجوبة وإما مفككة، ما أجهض أي فرصة لبناء نماذج ذكاء اصطناعي محلية فعالة.
وهكذا، تحولت الاستراتيجية إلى “لافتة بلا قاعدة، وواجهة بلا بنية”، لتبقى مصر خارج قائمة أفضل 50 دولة في الذكاء الاصطناعي وفق مؤشر Tortoise 2024.

ولا تكتمل قراءة وضع مصر، دون النظر إلى محيطها الإقليمي. فبينما تبقى استراتيجيتنا حبيسة الوثائق الرسمية، تتحرك بعض الدول العربية بخطوات أكثر سرعة ووضوحًا:

الإمارات أطلقت “استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031″، وأسست وزارة خاصة بالذكاء الاصطناعي، مع تطبيقات عملية في الصحة والنقل والخدمات الحكومية.

السعودية جعلت الذكاء الاصطناعي محورًا في رؤية 2030، وعقدت القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، وتبني مراكز بيانات عملاقة، وتعد خططًا لتحويل الرياض إلى عاصمة إقليمية للتقنية.

المغرب اتجهت نحو تأهيل الكفاءات الجامعية، مع تجارب عملية في الزراعة الذكية وإدارة الموارد المائية.

هكذا يظهر أن الفجوة لا تقتصر على القوى الكبرى كأمريكا والصين، بل تمتد حتى إلى جيراننا الأقربين. ورغم أن مصر تملك أكبر قاعدة بشرية مؤهلة في المنطقة، فإنها الأقل قدرة على تحويل هذا الحجم إلى قوة تكنولوجية حقيقية..

البنية التحتية الرقمية… أزمة في العمق

الذكاء الاصطناعي لا يعمل في فراغ، بل يحتاج إلى بيئة رقمية متكاملة: مراكز بيانات ضخمة، إنترنت فائق السرعة، قواعد بيانات مترابطة، وأمن سيبراني على أعلى مستوى.

لكن في مصر، تظهر الفجوة بوضوح:

غياب مراكز بيانات وطنية ضخمة قادرة على تدريب نماذج بحجم عالمي.

قواعد بيانات متشرذمة في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والزراعة.

مركزية بلا كفاءة (مثل، سنترال رمسيس) دون امتداد فعّال للمحافظات.

ضعف في منظومة الأمن السيبراني، يقلل من جاهزية استخدام البيانات بشكل آمن.

بعبارة أوضح: لدينا أنظمة رقمية متفرقة، لكنها لا تشكل بنية تحتية ذكية موحدة قادرة على دعم أي نهضة حقيقية في الذكاء الاصطناعي.

لا يمكن الحديث عن الذكاء الاصطناعي من دون الحديث عن التعليم.
ورغم إنشاء جامعات تكنولوجية حديثة، وتعديل بعض المناهج، فإن الفجوة ما زالت كبيرة:

المناهج في معظم الجامعات تقليدية، لا تُدرّس أدوات الذكاء الاصطناعي الفعلية.

الأساتذة غير مدرّبين بما يكفي على التقنيات الحديثة.

الجامعات التكنولوجية محدودة الاستيعاب، ولا تُغطّي تعقيدات الذكاء الاصطناعي المتقدم..

الشراكات مع السوق شبه غائبة، ما يترك الخريجين دون خبرة ميدانية حقيقية.

ووفق تقرير البنك الدولي 2023، لا يعمل في وظائف متخصصة بالذكاء الاصطناعي سوى 15% فقط من خريجي هذا المجال في مصر..

سوق العمل

ورغم ضعف البنية التحتية، بدأ سوق العمل المصري يُظهر طلبًا متزايدًا على المهارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
الطلب يشمل قطاعات واسعة: البنوك، والاتصالات، والتسويق الرقمي، بل وحتى الصناعة.

وهناك (Data Analyst) محلل البيانات: هو التخصص الأكثر طلبًا حاليًا، بفضل الاعتماد على Power BI، Excel المتقدم، وPython.

  • ومهندس تعلم الآلة (Machine Learning Engineer) بدأ يبرز بقوة في شركات التسويق والبنوك.
  • ومطور نماذج ذكاء اصطناعي ومطور روبوتات محادثة يظهران ببطء، لكن الطلب عليهما ينمو بثبات steadily.
  • ومهندس الموجهات (Prompt Engineer) وهي وظيفة جديدة نسبيًا، لكنها بدأت تدخل السوق المصري، وتعد فرصة نادرة، لمن يتقنها مبكرًا.

لكن العائق الأساسي هو قلة الكفاءات المؤهلة. الجامعات لا تواكب، والتدريب العملي شبه معدوم، وإعادة تأهيل القوى العاملة التقليدية، ما زالت خارج الحسابات الوطنية.

الطبقات الاجتماعية… من يتقدم ومن يتآكل؟

الذكاء الاصطناعي لا يعيد رسم سوق العمل فقط، بل يهدد بإعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية نفسها:

الطبقة العاملة الدنيا قد تبقى في مأمن مؤقت، لكنها لن تستفيد من النمو الجديد، ما يعزز معدلات الفقر.

الطبقة المتوسطة الدنيا (الموظفون الإداريون والمحاسبون التقليديون) تواجه خطرًا حقيقيًا: وظائفهم مهددة بالتآكل التدريجي بفعل الأتمتة “الإدارة بواسطة التقنية”.

الطبقة الوسطى العليا من المبرمجين والمحللين والإعلاميين، تملك فرصة للتكيف، لكنها مطالبة بإعادة تعريف دورها وتطوير قدراتها.

الطبقة الريعية هي الرابح الأكبر: ستستخدم الأدوات الذكية لتعظيم الأرباح، بينما يتحمل الآخرون كلفة البطالة وإعادة التدريب.

إن لم تُدار هذه التحولات بوعي، فإن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية ستتسع بشدة، بما يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

ورغم قتامة المشهد، فإن الفرص ما زالت حاضرة.

المحتوى العربي، خصوصًا المصري، فرصة هائلة لتطوير أدوات ذكية للغة والتعليم والإعلام.

قطاعا الصحة والتعليم جاهزان للاستفادة بشرط توفير قواعد بيانات قوية.

الشباب المصري يمتلك الطموح والمرونة، لكنه يحتاج إلى منظومة حقيقية، تعترف به وتدعمه.

الإعلام والتعليم الفني يمكن أن يلعبا دور رأس الحربة في نشر ثقافةالذكاء الاصطناعي وتوطينه..

البعد الثقافي واللغوي:

إلى جانب الاقتصاد والبنية التحتية، هناك جبهة أخرى لا تقل خطورة: اللغة والهوية الثقافية في عصر الذكاء الاصطناعي، فالنماذج الكبرى مازالت تركز بالأساس على اللغة الإنجليزية، فيما يظل دعم اللغة العربية محدودا، وإذا لم تبادر مصر إلى الاستثمار في هذا المجال ستظل اللغة العربية في موقع التابع المحدود، ومن ثم يعاد تشكيل الوعي والمحتوى من خارج الحدود.

مصر تمتلك أكبر مخزون إعلامي وثقافي عربي، من الدراما إلى الصحافة إلى المحتوى الشعبي.

  • لو استُخدم هذا الرصيد لتدريب نماذج لغوية محلية، يمكن أن تصبح مصر مركزًا إقليميًا في الذكاء الاصطناعي اللغوي والإعلامي.
  • هذه الخطوة لا تحافظ فقط على الهوية، بل تفتح أسواقًا جديدة في التعليم، والإعلام، والخدمات الحكومية الذكية.

إن تجاهل هذا المحور يعني التحول من “مُصدّر للثقافة” إلى “مستهلِك خاضع” لخوارزميات، تُكتب بلغات وأولويات أخرى..

الذكاء الاصطناعي ليس رفاهية ولا مشروعًا تجميليًا، بل أداة سيادية ناعمة، من لا يمتلكها سيُقاد بها.