المشروع الصهيوني من فكرته حتى دولته، ليس أكثر من نزوة عابرة من نزوات التاريخ، سوف ترتد على أعقابها، وتزول كأن لم تكُن، وهم إسرائيل الكُبرى، مثل وهم إسرائيل الصغرى، كلاهما مصابيح في يد الريح، ما تضيء نارها، حتى تخبو ثم تنطفئ. المشروع الصهيوني من فكرته الجنينية الأولى 1830 – 1860، ثم من أول مستوطنة 1891 حتى إعلان الدولة 1948، ثم من إعلان الدولة 1948 حتى حرب الإبادة ضد غزة 2023 – 2025، في كل ذلك التاريخ الذي يقارب قرنين من الزمان، لم تزد إسرائيل عن كونها مجرد مستوطنة مدججة بالسلاح مغروسة بالقوة في قلب شرق أوسط، هي غريبة فيه طارئة عليه، لم يستوعبها ولم تندمج فيه، ولم تحظ بحالة انسجام وجودي معه، قرنان متوتران مشحونان بالدسيسة والمؤامرة والخديعة والعنف، والحصيلة النهائية مجرد مستوطنة مسلحة، تحمل اسم الدولة، وتحارب في كل الاتجاهات، ومن فرط الجنون تتصرف كإمبراطورية عظمى، تعيد تشكيل الشرق الأوسط على هواها ومقاسها ومصالحها. مستوطنة مسلحة تحوز من السلاح، ما يفوق كل التسليح لدى كافة جيرانها من عرب ومسلمين، كما هي تملك تكنولوجيا السلاح ولديها صناعات فائقة وصادراتها من السلاح تزيد على 10 في المائة من صادرات السلاح في العالم، كما هي أكبر من يتلقى مدداً لا ينقطع- كمعونات- من السلاح الأمريكي والأوروبي. لقد عاش اليهود ألفي عام من التشرد والشتات، وفي أوروبا- بالذات- ساءت عشرتُهم مع الأوروبيين، كما ساءت معاملة الأوروبيين لهم، ثم جاءت الفكرة الصهيونية كحل لهذا المركب المزدوج، مركب الكراهية- الاضطهاد- الذي حكم علاقة اليهود بمجتمعات أوروبا، لكن إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين التاريخية، فلسطين بحدود الانتداب البريطاني 1922، لم تحل المشكلة، بل أعادت إنتاجها في ثوب جديد، تصدير مشكلة اليهود مع المجتمعات الأوروبية؛ لتكون هي مشكلة الصهيونية مع مجتمعات الشرق الأوسط، وإذا كان بالتقريب يمكن حساب عمر المشروع الصهيوني بقرنين من الزمان، فإن ما يزيد على قرن منهما، كان وما زال يمثل أعلى وأدوم وأبقى درجات العنف المسلح في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، حتى بات الإقليم ينفق على السلاح أعلى مستويات الإنفاق في العالم، كما بات جبهة حرب مفتوحة في عمق الزمن، لا تكاد تهدأ حتى تندلع نيرانها من جديد.
وإذا كان يهود العالم استطاعوا تحمل الشتات والتكيف والتحايل على ألفي عام من الازدراء والاضطهاد في أوروبا، فإن الصهيونية المعاصرة الممثلة في دولة إسرائيل لا تستطيع أن تتحمل ولا تتكيف ولا تتحايل على ما يحمله لها المستقبل من ردود فعل أهل الشرق الأوسط، على ما ترتكبه من مجازر، سواء قبل أن تكون دولة، أو بعد أن صارت دولة، المجازر التي ترتكبها إسرائيل على مدار الساعة طوال عامين كاملين ضد واحد من أعرق وأبقى شعوب الشرق الأوسط، إنما هي تؤسس لتاريخ جديد من العلاقة بين الدولة الصهيونية ومحيطها العربي الإسلامي، فمن يقتل أكثر من 60 ألف فلسطيني، ويدمر أكثر من 90 بالمائة من بيوتهم، ومن يمارس دون أن يرقأ له جفن حرب تصفية معنوية وإبادة مادية، واقتلاع كامل لشعب عريق من أرضه ودياره، من يفعل ذلك، لا يطمئن له جيرانه المعتدلون منهم والمتشددون، ما ترتكبه الدولة الصهيونية من مجازر- دون استنكار دولي رسمي جادــ يعيد رسم خريطة شعورية ومعرفية ونفسية وذهنية جديدة في الشرق الأوسط، إسرائيل من غبائها وبلادة عقلها وفساد ضميرها، تعلن أنها تعيد تشكيل الشرق الأوسط، ولا تتوانى في الهلوسة بأحلام إسرائيل الكبرى، بينما هي في الحقيقة وبالفعل وعلى أرض الواقع، تخلق جغرافيا جديدة لوعي الشعوب، جغرافيا جديدة لضمير الشعوب، جغرافيا جديدة لإحساس شعوب الشرق الأوسط بهوياتهم الوطنية والحضارية الجامعة لهم، جغرافيا لا مكان فيها لإسرائيل اليوم وغداً.
يغفل قادة الدولة الصهيونية عمق التغيرات الجذرية التي يتسببون فيها، وهم يجرحون كرامة وكبرياء شعوب قديمة وريثة حضارات عظيمة، منذ قيامها 1948 حتى حرب الإبادة على فلسطين 2023 – 2025 كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الإقليم التي يحمي جيشُها شعبها، بينما يحارب أو مستعد لأن يحارب كل شعوب الإقليم، وفي الفترة ذاتها كانت المخططات الأمريكية تعمل لأن تكون جيوش المنطقة وظيفتها الأولى حماية إسرائيل من غضب الشعوب العربية الإسلامية، أراد الأمريكان السيطرة- ولو بصورة غير مباشرة- على جيوش المنطقة؛ لتكون رسالتها غير المعلنة إلجام الشعوب، ثم قهرها، ثم إسكاتها، ثم إماتة غضبها، ثم القضاء على حيويتها، ثم تأمين إسرائيل وحمايتها من أي غليان يصدر عن الشعوب في المنطقة من إندونيسيا شرقاً حتى المغرب على سواحل الأطلنطي غرباً. ليس معنى هذا، أن الحكومات الرسمية سوف تتغير سياساتها العملية بصورة جذرية بين عشية وضحاها، لكن بكل يقين هناك تغيير يحدث، ولو غير مرئي على نطاق علني، فإسرائيل الإبادة الوحشية أعادت إنتاج قرن كامل من الوحشية الصهيونية في مشهد مكثف معتصر مشحون مركز بكل ما في الوحشية من بربرية ودموية وهمجية جماعية، لا فرق فيها بين صهيوني معتدل وصهيوني متطرف ولا صهيوني يريد السلام وصهيوني يريد الحرب، ولا صهيوني علماني ولا صهيوني متدين ولا صهيوني من الحكام وصهيوني من الشعب، لقد تحولت إسرائيل دولةً وشعباً إلى آلة عمياء، فقدت كل ضمير ورشد وإنسانية، إسرائيل الانتحارية شديدة التطرف.
أي نظام حكم شرق أوسطي سواء عربي أو إسلامي، يستحيل ثم يستحيل ثم يستحيل، أن يعاين هذه الحالة، ثم يبقى على حاله دون تغيير في وعيه وشعوره وذوقه السياسي وفكره القيادي ودرجة إحساسه بالخطر، يستحيل على حكام تركيا، أن يروا قصف الصهيونية للعاصمة الإيرانية طهران، ثم يظلوا ثابتين على توهم، أنهم في منجاة تعفيهم من مثل هذا المصير، فينتبهون ذات صباح أو ذات مساء على ماكينة السلاح الصهيونية، تقصف أهدافاً في أنقرة أو إسطنبول أو أي من المواقع فوق تراب تركيا وبحرها وتحت سمائها وللأتراك عبرة في قصف إسرائيل لبعض المواقع في سوريا، إذ المقصود به هو إهانة تركيا بالدرجة الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة للسعوديين وأهل الخليج، إذ يستحيل ثم يستحيل ثم يستحيل، أن يناموا ويطمئنوا على توهم، أن إسرائيل التي قصفت إيران عن شمالهم وشرقهم، وتقصف اليمن عن جنوبهم، لن تقصف عواصمهم، إذ لزم الأمر في أجل قريب أو بعيد، فمهما يُبدي القوم في الخليج العربي من مطاوعة ومرونة وملاينة، فلا توجد حصانة، تفيد أن إسرائيل لن تقصف الرياض أو الكويت أو أبوظبي أو غيرها في أجل قريب أو بعيد. وتظل مصر حالة فريدة، تنفرد بثلاثين عاماً من الحرب مع إسرائيل 1948 – 1979، والجيش كان وما زال وسوف يبقى، مثله مثل الشعب الذي يتجند من أبنائه، سوف يبقى على عقيدة قتالية موجزة: العدو هو إسرائيل، فلا عداوة للجيش والشعب مع سواها، اتفاق السلام يلتزم به المصريون جميعاً، لكن لا يغيب عن بالهم، أن حروب الثلاثين عاماً مع إسرائيل من الوارد تكرارها، إذا استدعت دواعيها وتيقنوا الخطر على أمنهم القومي، والمصريون يفهمون عبارة الرئيس السادات عن حرب أكتوبر 1973، أنها آخر الحروب، يفهمونها على أنها نوع من المجاز وليس الحقيقة، نوع من التمني النبيل ليس أكثر، الجيش المصري دوره حماية مصر والمصريين ومصالح مصر وأمنها القومي من الخطر الإسرائيلي، وهو خطر حقيقي، وهو خطر وارد في كل لحظة، لم يكن، ولن يكون من مهمات الجيش المصري، أن يحمي أمن إسرائيل، هذه أوهام أمريكية وصهيونية محضة، ولا يقول بها غير أمريكي أو صهيوني، ولا يصدقها غير مختل العقل وفاسد التفكير ومريض النفس ومُغرض يقوده هواه المعتل.
خرافة إسرائيل الكبرى، مثلها مثل خرافة أرض المعاد، مثلها مثل الشرق الأوسط الصهيوني، خرافات هائمة على وجهها، تغفل حقائق التاريخ، فالفكرة الصهيونية لم تتسلل إلى أرض فلسطين، إلا في لحظة تحلل ثم انهيار ثم سقوط ثم تفكك ثم تقسيم الدولة العثمانية التي كانت تمثل الطبعة الأخيرة من الوحدة السياسية والحضارية بين شعوب الشرق الأوسط، كما كانت لحظة سقوط الدولة القاجارية في إيران، كما كانت لحظة سقوط العالم العربي كله تحت هيمنة الاستعمار الأوروبي. ورغم ذلك، فإن الشعب الفلسطيني لم يتوقف عن الثورات المجيدة من 1921 حتى 2025 قصة كفاح بطولي حي متجدد مجيد، يُهال عليه التراب ويُسكَت عنه ويتعرض للتشويه، ويُمحى من الذاكرة ويُنفى من التاريخ ويُمسًح من الوعي العام عن قصد وعمد، هذا التاريخ الطويل من النضال الفلسطيني- وحده ومنفرداً- دليل كاف لدحض ما فيه وهم إسرائيل الكبرى من خطل وخرافة. كانت الصهيونية تعتقد- عن خطأ- أن فلسطين أرض بلا شعب، وهذه كانت جوهر فكرة أرض المعاد. ثم هي اليوم- عن خطأ كذلك- تتوهم الشرق الأوسط فضاءً خلواً من الشعوب أو مشاعاً لا صاحب له أو قطعان من فاقدي الإرادة ومعدومي الحمية، وهذا هو جوهر فكرة إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الصهيوني.
تستطيع أمريكا أن تسيطر- كلياً أو جزئياً- على قرارات الحكومات العربية والإسلامية من أهل الشرق الأوسط، لكنها لا تملك السيطرة على عقائد الشعوب، كما لا تملك أدنى سيطرة على حركة التاريخ، ومن ثم تظل كفالتها لإسرائيل جداراً هشاً، ينقض على الأرض حطاماً في أية لحظة، ومن ثم يظل مستقبل إسرائيل ليس مرهوناً بكفالة الغرب وأمريكا لها، لكنه مرهون بإرادة الشعوب، وقد نجحت المستوطنة المسلحة المسماة بإسرائيل في إعادة خلق وتشكيل الخريطة النفسية والشعورية والمعرفية والوجدانية لشعوب المنطقة، وهي خريطة لأصحابها ولا مكان فيها لإسرائيل صغرى ولا كبرى.