مع دخول قانون العمل رقم 14 لسنة 2025 حيّز التنفيذ، دخلت مصر مرحلة جديدة في تطوير منظومة السلامة والصحة المهنية. القانون لم يقتصر على تحديث مواد قديمة، بل قدّم رؤية أكثر شمولًا، تضع سلامة العامل كحق أساسي من حقوق الإنسان وركيزة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أولًا: القانون الجديد… معايير أوسع وأكثر صرامة
القانون عزز بشكل غير مسبوق مسئوليات أصحاب الأعمال في حماية العمال من المخاطر كافة، سواء كانت فيزيائية أو كيميائية أو بيولوجية أو نفسية واجتماعية. ومن أبرز ما تم إضافته في الكتاب الرابع، بدأ بالمادة 242 وانتهاء بالمادة 274 في خمسة أبواب كاملة:
1.لأول مرة يتم النص صراحة على ضرورة مواءمة بيئة العمل مع القدرات الجسدية للعاملين، لتقليل إصابات الإجهاد العضلي والهيكلي.
2.الإدارة المتكاملة للمواد الكيميائية: إلزام المنشآت بالاحتفاظ بسجلات ورقية وإلكترونية؛ لمتابعة تداول المواد الخطرة، وربط ذلك بقانون إدارة المخلفات رقم 202 لسنة 2020.
3.المخاطر النفسية والاجتماعية: اعتبار التحرش والتنمر والعنف في العمل جزءًا من نطاق السلامة المهنية، بما يحمي العامل من أضرار غير مادية، لطالما أغفلتها التشريعات السابقة.
• حق الانسحاب من موقع الخطر: منح العمال حقًا صريحًا في التوقف عن العمل عند وجود خطر داهم، دون التعرض لعقوبة، وهو توجه يعزز ثقافة “السلامة أولًا”.
كما ألغى عقوبة الحبس التي كانت مثار جدل في القانون القديم، واستبدلها بـغرامات مالية مشددة تصل إلى 100 ألف جنيه، تتناسب أكثر مع الواقع الحالي، مع مضاعفتها في حال التكرار.
ثانيًا: التفتيش والرقابة… تحديث للآليات
احتفظ القانون بهيكل التفتيش الحكومي عبر مفتشي السلامة ذوي صفة الضبطية القضائية، لكنه أضاف:
•مكاتب الامتثال للسلامة: كيانات مرخصة تساعد المنشآت في التحقق من الالتزام القانوني، لتكون ذراعًا استشارية ورقابية موازية.
•المنصات الإلكترونية: إلزام المنشآت بتقديم بيانات وتقارير الحوادث والإصابات عبر أنظمة رقمية، بدلًا من النماذج الورقية التقليدية.
•توسيع التخصصات العلمية للمفتشين: ليشمل خبراء البيئة، والطب البيطري، والصيدلة، وإدارة المخلفات، وهو ما يعكس دمج السلامة المهنية بالاستدامة البيئية.
ثالثًا: دور العامل… من متلقٍ إلى شريك
رغم أن القانون كرر التزامات العامل التقليدية (استخدام معدات الوقاية وصيانتها)، إلا أنه استحدث بعدًا جديدًا، يتمثل في الخضوع للفحوص الطبية للكشف عن المخدرات والأمراض المعدية، متى طلب صاحب العمل ذلك وعلى نفقته. هذه الإضافة تهدف إلى منع المخاطر الصحية غير المباشرة التي قد تهدد بيئة العمل.
كما فصل القانون في الكشف الطبي الابتدائي، وأوضح أنه على نفقة صاحب العمل، ويتم في الأماكن المعتمدة، ومع الالتزام بعدم الإفصاح عن الوضع الصحي للعامل، إلا لمن رخص له قانونًا بذلك.
رابعًا: السياق الوطني والدولي لتعزيز الصورة
رغم أن جوهر التغيير يتمثل في القانون، إلا أن صدوره تزامن مع تحركات أوسع:
•اعتماد الملف الوطني للسلامة والصحة المهنية (2025) كاستراتيجية شاملة، تربط التشريع الجديد برؤية مصر 2030.
•توافق القانون مع اتفاقيتي منظمة العمل الدولية 155 و187، ما يضع مصر على خط متوازٍ مع المعايير العالمية.
•تحديث قرارات عمل الأطفال ليصبح الإطار الوطني أكثر انسجامًا مع اتفاقيتي الحد الأدنى للسن (138) وأسوأ أشكال عمل الأطفال (182).
هذه العناصر تُظهر، أن القانون لم يأتِ بمعزل، بل كجزء من رؤية متكاملة لتعزيز حماية العمال وتطوير بيئة العمل.
وختاماً، يُعد قانون العمل 14 لسنة 2025 حجر الزاوية في تحديث المنظومة التشريعية المصرية بمجال السلامة والصحة المهنية. ومع ربطه بالملف الوطني والسياسات الدولية، يتضح أن مصر تسير بخطى ممتازة نحو بناء بيئة عمل آمنة وعصرية، تجعل من حماية العامل حقًا أصيلًا، وتضع البلاد على خريطة التشريعات الحديثة في العالم.