لم يحز رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية حجم السطوة والنفوذ، الذي يبدو عليه الآن “دونالد ترامب” في الشرق الأوسط.
انهيار التوازن في النظام الدولي سبب أول.
وتصدع النظام العربي بصورة شبه كاملة سبب ثان.
في فراغ التوازن وعجز النظم العربية، كلها لا بعضها، انتُهِكت المحرمات، واستُبيحت القضايا العربية، أولها وأهمها القضية الفلسطينية.
بدت الولايات المتحدة خصما وحكما بالوقت نفسه، يملي رئيسها الشروط وينتظر الاستجابات.
بشخصيته النرجسية بدأ “ترامب” ينظر إلى نفسه كـ”نصف إله شرقي”، كل ما يصدر عنه رائع، وكل ما يتبناه واجب النفاذ.
ربما تمانع دولة ما في قرار أو آخر، لكنها لا تخرج عن الصف المرسوم.
قبل أن يدخل البيت الأبيض مجددا، تعهد بإنهاء حربي أوكرانيا وغزة، لكنه أخفق في وضع حد لهما.
ارتطم برؤيته المبسطة بالأولى وتعقيداتها.. ووجد نفسه بالثانية منخرطا بأهوائه في الحرب والتحريض عليها.
هو رجل يقول الشيء وعكسه من ساعة لأخرى.
يفسح المجال واسعا لاستمرار حربي الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي في غزة.
يساير رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، كأنه توأم سياسي، في إجهاض كل الصفقات، التي يتم التوصل إليها عبر مبعوثه الشخصي “ستيف ويتكوف”.
ينسب فعل الإجهاض إلى حركة “حماس”، ويعفي إسرائيل من كل مسئولية.
يمدد للجيش الإسرائيلي، ما يطلب من وقت لإنجاز مهمته في غزة باحتلالها واجتثاث “حماس”، واستعادة الأسرى والرهائن دون صفقات، أو حلول جزئية جديدة، لكنه يُخفق بكل مرة.
حسب اعتراف “نتنياهو”، الذي سجله أمام مجلس الوزراء المصغر، فإن “ترامب” دعاه إلى عدم قبول أي صفقة جزئية، والمضي قدما في احتلال غزة وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
أراد “نتنياهو” أن يقول لمؤيديه ومعارضيه معا، إن صاحب قرار المضي في الحرب هو “ترامب”، لا أنا.
لم يصدر عن البيت الأبيض أي نفي لذلك التصريح الخطير، كأنه هو فعلا زعيم اليمين الصهيوني المتطرف، لا “إيتمار بن جفير” ولا “بتسلئيل سيموتريش”.
إنه رجل تغيب عنه بفداحة التصورات والأفكار، ليس لديه فكرة متماسكة واحدة لليوم التالي، باستثناء الاستثمار العقاري في شواطئ غزة الساحرة، الذي يعود إليه مرة بعد أخرى، دون كلل، ودون جدوى أيضا.
في خطته لما بعد الحرب، يذهب إلى تحويل غزة إلى منطقة تكنولوجية وسياحية تحت إدارة أمريكية.
تقتضي الخطة المسربة عبر صحيفة الـ”واشنطن بوست” إخلاء القطاع من أغلب سكانه، مقابل حوافز مالية.. ثم إعادة إعماره كوعاء اقتصادي ترفيهي، دون أن تأتي على ذكر أي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية.
تشبه خطة “ترامب”، التي كلف بها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” ومستشاره السابق صهره “جاريد كوشنير”، باستكمال تفاصيلها وملامحها، ما كان يطلق عليها “صفقة القرن”، التي رفضها الفلسطينيون بإجماع نادر في ولايته الأولى.
إنها عودة برعاية أمريكية لسيناريوهات التهجير القسري أو الطوعي من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
المعنى بكل وضوح إنهاء القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، وتفريغ الأراضي المحتلة من سكانها الفلسطينيين.
من يحكم قطاع غزة باليوم التالي؟
لا توجد إجابة باستثناء إحالة المهمة إلى قوات أمن فلسطينية، يجري تدريبهم في القاهرة استعدادا لسيناريو آخر، يمهد لبناء دولة فلسطينية!
المعضلة الأولى، أن تلك القوات ينتمي أغلبها إلى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، فيما ترفض إسرائيل بصورة قاطعة أي دور للسلطة في غزة.
بصياغة “نتنياهو”: “لا فتح ولا حماس”!
المعضلة الثانية، أنه يصعب على الجيش الإسرائيلي حكم غزة، كما يقول قادته بصورة صريحة، فهو غير مهيأ وغير قادر على إدارتها.
حسب وثيقة داخلية مسربة من الجيش الإسرائيلي، فإن عملية “عربات جدعون” فشلت في تحقيق هدفيها، إخضاع “حماس” وإعادة الرهائن.
الفشل نفسه مرشح للتكرار في “عربات جدعون 2” رغم ادعاء “نتنياهو” أن وقت الحسم قد جاء.
فكرة إعادة احتلال غزة لا تحظى بأي قبول في العالم، باستثناء الولايات المتحدة.
المعضلة الثالثة، أخطرها وأفدحها توريط مصر في مستنقع أوهام “ترامب”.
تحوم تصورات وأفكار لإنشاء قوات عربية ودولية صلبها مصرية لفرض الأمن في غزة بالنيابة عن الجيش الإسرائيلي.
إنه مأزق استراتيجي يفوق في خطورته الخسائر التي تكبدتها مصر بأثر اتفاقية “كامب ديفيد”.
يُفضي ذلك المأزق بتداعياته إلى تقويض صورة مصر في إقليمها وتصورها لنفسها وأية أدوار مستقبلية تتطلع إليها.
غياب أي أفق سياسي لليوم التالي، يضع خطة “ترامب” المزمعة في مهب الأوهام العاصفة.
تقويض المقاومة الفلسطينية وهم كامل، وتهجير ملايين الفلسطينيين من غزة والضفة إلى سيناء والأردن زلزال إقليمي، ليس بوسع “ترامب” ولا غيره أن يتحكم في تداعياته وانقلاباته.
كان قرار الخارجية الأمريكية منع منح تأشيرات الدخول لوفد السلطة الفلسطينية، حتى لا يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، دالا بذاته على التماهي الأمريكي مع السياسات والمواقف الإسرائيلية.
بدا ذلك القرار خروجا عن مقتضى القانون الدولي واتفاقية المقر، لكنه لن يفلح في إضفاء أي شرعية على الاحتلال الإسرائيلي.
موجة الاعترافات المنتظرة بالدولة الفلسطينية في سبتمبر الحالي، إشارة إلى المستقبل، لكنها ليست نهاية المطاف، فالإجراء رمزي، والرموز أقوى من جرافات الاحتلال وحسابات مصالح “نصف الإله الشرقي” في البيت الأبيض.
حسب اعتراف “ترامب” نفسه لموقع “ديلي كولر” الأمريكي، فإن إسرائيل ربما تكسب الحرب، لكنها تخسر العلاقات العامة، مشيرا إلى تراجع وزن وتأثير اللوبي الإسرائيلي في مجلسي الكونجرس.
ما الحل؟
مستعد أن يقول إنهاء الحرب بأقرب وقت، لكنه يضفي حماية كاملة على الاحتلال وجرائمه.
مرات أخرى، يقول: “إن الحرب سوف تنتهي بعد أسبوعين، أو ثلاثة، أو قبل نهاية العام”، قبل أن يتراجع قائلا: “لا توجد نهاية وشيكة”، قبل أن يطل علينا بمشروع “ريفييرا غزة”، أو التطهير العرقي والتهجير القسري بمعنى أوضح.
إنه “نصف إله شرقي” تسوقه أوهامه.
مسايرته بالضعف المفرط ينذر بكوابيس تاريخية أشد خطورة وبشاعة.