رغم النجاح النسبي المؤقت في احتواء التصعيد العسكري مؤقتاً بالعاصمة الليبية طرابلس، لكن المشهد لا يزال ينذر بانفجار وشيك، إذ تتصاعد التحشيدات وتتقاطع حسابات الميليشيات المسلحة مع طموحات حكومة الوحدة المؤقتة بقيادة عبد الحميد الدبيبة، في مواجهة مباشرة مع جهاز الردع بزعامة عبد الرؤوف كارة، ما يجعل اندلاع جولة جديدة من الحرب في العاصمة أمراً شبه محتوم.

بعد وساطة محلية وضغوط دولية نجت طرابلس عبر اتفاق مؤقت من الغرق مجددا في بحر من الدماء، بسبب اتجاه حكومة الدبيبة، والميليشيات المسلحة الداعمة لها، للسيطرة على مناطق خاضعة لنفوذ الردع في خامس جولات صراع الدم الذي تشهده البلاد منذ 14 عاما. فيما يشبه جولات الألعاب الرياضية، لكن مع فارق جد خطير، ففيما تلحق البهجة والأفراح الدوريات الرياضية، تصطبغ الجولات الليبية المأساوية بلون الدم البشري المسفوح، والذي يصاحبه نكبات إنسانية مروعة على نطاق واسع ومدمر من القتل والخراب.

يمثل الجهاز الذي يقوده كارة الملقب بالشيخ الملازم عقبة رئيسية أمام مساعي الدبيبة لفرض سيطرته الكاملة على العاصمة طرابلس، حيث يضم نحو 1500 عنصر، وهم أحد أكبر التشكيلات المسلحة في العاصمة، ويسيطر على مطار معيتيقة ومناطق حساسة، ويحظى بشعبية مصطنعة؛ بسبب نشاطه في مواجهة الجريمة، ما يجعله لاعباً مستقلاً، يصعب على الحكومة التعامل معه أو السيطرة عليه بسهولة.

رغم دعمه للميلشيات الإرهابية التي سيطرت لبعض الوقت على المنطقة الشرقية، وأعلنت من مدينة بنغازى إمارة إسلامية، حرص كارة على اللعب على التناقض بين تبعيته للدولة وتعامله مع المواطنين.

مهام واسعة للسيطرة

يعتبر كارة نفسه واحدا من أصحاب الحق في مواجهة محاولة السيطرة على ميليشياته داخل طرابلس، التي قاتل في السابق إلى جانب ميلشياتها المسلحة خلال الحرب الفاشلة، التي شنها المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطنى المتمركز في شرق البلاد عام 2019 لتحرير العاصمة من قبضة الميليشيات.

يسيطر الردع على مطار معيتيقة الدولي (المرفق الجوي الوحيد النشط بالعاصمة)، بالإضافة إلى مناطق عديدة مثل، سوق الجمعة وعين زارة، وهو التشكيل المسلح الرئيسي في طرابلس الذي لم ينخرط بالكامل تحت لواء حكومة الوحدة، ويشكّل قوة مستقلة عنها، حيث يبقى آخر الفصائل الكبيرة التي ليست تحت تأثيرها المباشر.

الجهاز الذي تأسس بعد عام من سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي على شكل سرية أمنية في منطقة سوق الجمعة، تمت هيكلته عام 2018، ومعظم عناصره من ضباط الشرطة سابقاً، ويسيطر أيضا على مقرات استراتيجية ومؤسسات حيوية مثل المصرف المركزي، ومؤسسة النفط، ووزارة الخارجية، والجامعات، ومقر الإذاعة والتلفزيون.

حاليا لدى الجهاز الذي اعتمد المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، هيكله التنظيمي، مايجعله خاضعا له وبعيدا عن سيطرة الدبيبة، عدة مهام رسمية، تتمثل في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة ومساندة الأجهزة الأمنية المختلفة.

يتمركز الجهاز في مجمع معيتيقة، الذي يضم المطار الدولي، وقاعدة جوية، ومستشفى عسكريا وسجنا يوصف أحياناً بـ”جوانتانامو الليبي” ويأوي بعض العناصر المتطرفة الموالية للصادق الغرياني، مفتي البلاد المقال من منصبه والمحسوب على جماعة الإخوان المسلمين.

وفق تقارير حقوقية وأممية، فإن الاعتقال في هذا السجن يتسم بالحبس الانفرادي، والتعذيب، والظروف غير الإنسانية، مع وجود حالات وفاة وإعدامات سريعة ومزاعم عن تصرفات خارج القانون.

بمرور الوقت، تحوّل جهاز الردع إلى كيان شبه سيادي، يتمتع بصلاحيات تنفيذية، ولا يخضع للمساءلة القضائية، ما يجعله “لا يُمسّ بسهولة” .

لماذا الردع الآن؟

مثل الخلاص من عبد الغني الككلي، رئيس “جهاز دعم الاستقرار” وأحد أقوى أمراء الحرب في طرابلس، في 12 مايو ( آيار) الماضي، عقب اجتماع تفاوضي فاشل، إغراء أمنيا للدبيبة بتوسيع مناطق نفوذه على حساب الردع.

كان واضحا أن اغتيال الككلي يُمهد لما هو محتمل أن يكون، وأن الاستهداف القادم سيطال جهاز الردع الذي امتنع عن إطلاق سراح عناصر متشددة، ما أثار حقد الغرياني حليف الدبيبة.

بعد مقتل الككلي، سيطرت قوات اللواء 444 قتال على مناطق كانت تابعة له، خاصة أبو سليم، ما اعتبر بمثابة نقطة تحول في صراع النفوذ، إذ فتح المجال لتحالفات مسلحة موالية لحكومة الدبيبة من مصراتة والزنتان، في مواجهة ” الردع” كمرحلة قادمة في سباق النفوذ المسيّس نحو السيطرة الكاملة على العاصمة.

لهذا أصبح  الجهاز آخر حائط صد أمام توحيد التشكيلات المسلحة تحت مظلة داعمة للدبيبة، وبات الهدف التالي لميلشياته، التي ترغب في تمديد مناطق نفوذها وبسط سيطرتها وإضعاف التشكيلات التي لا تخضع مباشرة للحكومة.

واستعان الدبيبة المولود في مدينة مصراتة بغرب البلاد بميلشياتها المسلحة في محاولة لفرض نفوذه الكامل على العاصمة، لكي يظهر كمسيطر فعلي على أكبر مدن ليبيا من حيث عدد السكان والمساحة العمرانية، وعاصمتها السياسية والإدارية والاقتصادية، ويُقدَّر عدد سكانها، بما يتجاوز 1.2 مليون نسمة، ما يجعلها المركز الحضري الأكثر كثافة في ليبيا.

ولم تفلح مناشدات بعض السفراء الغربيين في وقف التحشيد العسكرى المستمر، الذي شهدته طرابلس قبل معركة “نورماندي ليبيا”، التي ستحدد مصير طرابلس والبلاد. معروف أن معركة النورماندي شكلت جولة حاسمة في الحرب العالمية الثانية.

المخاوف من الصراع

كان تشارلز صليبا سفير مالطا لدى طرابلس، محقا بوصفه الوضع فيها بالهش، معتبرا أن الشعب الليبي يستحق أفضل بكثير من هذا الدوران في حلقة الصراع.

ولم يخفِ سفير الاتحاد الأوروبي نيكولا أورلاندو، قلقه البالغ إزاء التطورات الأمنية المثيرة للقلق في طرابلس، بدعوته لانسحاب جميع القوات الأمنية فورا من المناطق العمرانية حفاظًا على سلامة المدنيين.

بدورها مارست البعثة الأممية ماتجيده، عبر الإعراب عن قلقها من  استمرار حشد القوات والأسلحة الثقيلة حول طرابلس، وادعت في المقابل تحقيق تقدم في المحادثات التي تدعمها بشأن الترتيبات الأمنية، في بعض القضايا التي تهم حكومة الوحدة، لكنها لم توضحها.

بات واضحا من هذا البيان، أن البعثة تكرر مجددا نفس المنهج الكلاسيكي لمن سبقوا رئيستها الغانية هانا تيتيه، في إدارة الأزمة رغم تدهور الوضع الأمني في طرابلس.

سعت تيتيه لمغازلة حكومة الدبيبة، بالتلميح إلى محاولات لإقناع “الردع” بالامتثال والخضوع للدبيبة، في إطار صفقة تسمح للطرفين بالظهور كمنتصر.

ورغم نفي الردع ومؤيديه في منطقة سوق الجمعة، التوصل إلى اتفاق، أعلنت حكومة الوحدة موافقة الجهاز على شروطها، مهددة باتخاذ إجراءات عسكرية حاسمة ومباشرة، إذا تعطل التنفيذ.

وفي محاولة رسمية لإعادة ضبط المشهد الأمني في طرابلس ومنع الانزلاق إلى الفوضى، أكدت لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية بالمجلس الرئاسي، الالتزام بوقف النار مع رسالة طمأنة للرأي العام، بأن الاستقرار هدف مشترك، لن يُفرط فيه، وانتهى الأمر مؤقتا بإبرام اتفاق، لكنه لن يدوم في ظل العداوات المستحكمة بين أطرافه.

مصراتة تحكم

في أعقاب الإطاحة بنظام القذافي، تصدرت ميليشيات مصراتة المشهد السياسي والعسكري، ونجحت في السيطرة الكاملة على الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011.

مصراتة التي اعتبرت نفسها صاحبة الانتصار على القذافي بدعم سخي من حلف شمال الأطلنطى وتركيا وقطر، كتبت لاحقا تاريخ ليبيا المعاصر، الذي انطلق من قاعدة أن “المدن المنتصرة هي من تحكم”.

مثلت تلك القاعدة نهاية دراماتيكية لمبدأ تداول السلطة، التي ظلت مصراتة تحتكرها بفضل ميليشياتها المسلحة المنتشرة في المنطقة الغربية، وتحتفظ بقوى نارية كبيرة مقارنة بغيرها من الميليشيات الأخرى.

صك محمود شمام، أحد أبرز وجوه الإعلام في عهد المجلس الوطني الانتقالي، هذا المبدأ بقوله، إن الدستور يجب أن يكتبه الثوار الحقيقيون، وتقرره المدن المنتصرة، أما من انهزموا في الحرب فلهم حق المواطنة فقط.

جولات الصراع

منذ سقوط القذافي، شهدت طرابلس أربع جولات رئيسية من النزاعات المسلحة ضمن الحرب الأهلية الليبية الثانية (2014- 2020)، إضافة إلى اشتباكات متفرقة (2018، 2022، 2023، 2025). تسببت هذه النزاعات في مقتل آلاف الأشخاص (منهم 430 مدنيًا في 2019- 2020) ونزوح حوالي ربع مليون إنسان، مع إصابات واسعة النطاق.

وتمثلت الخسائر المادية في تدمير مطار طرابلس الدولي وأحياء سكنية وبنية تحتية، مع خسائر اقتصادية وصلت إلى 500 مليار دولار.

إذا اندلعت الجولة الخامسة المرتقبة من الحروب العبثية بين الأخوة الأعداء في طرابلس، فإنها لن تبقى محصورة في داخلها، فثمة اعتقاد، بأن إخفاق الدبيبة في حسم معركة الردع خلال يومين أو ثلاثة، سيعني تدخلا مباشرا لقوات حفتر، لكن العالمين ببواطن الأمور في الرجمة مقر حفتر، يقولون إن الوقت لم يحن بعد.

في المقابل، التزم صدام نجل حفتر، وإبراهيم الدبيبة ابن أخ ومستشار الدبيبة للأمن القومي، الصمت بعد اجتماع سري، عقداه في إيطاليا لبحث القضايا الأمنية والعسكرية وإمكانية تشكيل حكومة موحدة لإنهاء الصراع على السلطة.

وحضر الطرفان اجتماعًا مع المبعوث الأمريكي مسعد بولس، حيث تلعب الولايات المتحدة وقطر دورًا أساسيًا في الوساطة بين الجانبين.

في مواجهة الضغوط المحلية والدولية، التي تطالبه بإجراء انتخابات سياسية ومنع الفساد المالي والإداري المستشري في حكومته، يراهن الدبيبة، على أن تحويله جهاز الردع إلى مسرح للدماء، سيضمن بقائه لفترة أطول في السلطة، التي يرفض التخلي عنها أو مشاركتها.

في المجمل، يرى الدبيبة في إخضاع “الردع” مصلحة استراتيجية طويلة الأمد، حتى لو أدى ذلك إلى حرب جديدة في طرابلس، لتعزيز موقفه ونفوذه في المفاوضات الدولية، لمنع فرض حكومة موحدة أو إجراء أي انتخابات قد تطيح به.