يقدّم هذا التقرير الصادر عن مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) استعراضاً شاملاً لوضع حقوق الإنسان في السودان خلال عام ثالث للحرب السودانية من سبتمبر 2024 إلى أغسطس 2025. يركّز التقرير على توثيق الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها المدنيون من قتل خارج نطاق القانون واعتقالات تعسفية وإخفاء قسري، إلى تهجير قسري ونهب واسع النطاق، وصولاً إلى استهداف البنية التحتية الحيوية واستخدام الحصار والتجويع كسلاح في النزاع. كما يتناول أثر الإمدادات العسكرية وشبكات التمويل في إطالة أمد الحرب وتفاقم معاناة السكان، قبل أن يختتم بسلسلة من التوصيات الهادفة إلى وقف الانتهاكات وتخفيف الأزمة الإنسانية.

يدخل السودان عامه الثالث في حرب شاملة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تسببت في انهيار مؤسسات الدولة وتدمير البنية التحتية الحيوية، ودفعت البلاد إلى واحدة من أعتى الأزمات الإنسانية في العالم. الملايين وجدوا أنفسهم بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، فيما فُرضت على المجتمعات المحلية حصارات خانقة، حرمتها من الغذاء والدواء والخدمات الأساسية. ومع انتشار الأمراض وسوء التغذية، برزت الحاجة الملحّة لتسليط الضوء على خطورة الوضع، وما رافقه من انتهاكات منهجية لمبادئ القانون الدولي الإنساني.

خلال هذا العام، شهد السودان تطورات ميدانية متسارعة. ففي 26 سبتمبر 2024، شنّ الجيش عملية برية واسعة في الخرطوم، امتدت تداعياتها إلى دارفور وكردفان والنيل الأزرق. وبعد شهور من القتال، تمكن الجيش في 21 مارس 2025 من استعادة القصر الجمهوري منهياً سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة. كما استعاد السيطرة على كامل ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، ما ساعد في تأمين محاور استراتيجية وطرق إمداد رئيسية، الأمر الذي سمح بعودة أعداد مقدرة من النازحين.

مصير مختلف

إلا أنّ مدناً أخرى واجهت مصيراً مختلفاً. مدينة الفاشر ظلت تحت حصار قوات الدعم السريع منذ مايو 2024، حيث يعيش أكثر من 600 ألف إنسان، بينهم 130 ألف طفل، في ظروف خانقة. تفشي الكوليرا وحمى الضنك وسط نقص حاد في الأدوية، فيما يعاني أكثر من ستة آلاف طفل من سوء تغذية حاد، يهدد حياتهم. وفي نيالا، واصل الدعم السريع سيطرته منذ أكتوبر 2023، معلناً حكومة موازية، بينما نفّذ الجيش غارات جوية في 27 أغسطس 2025، دمّرت مركبات قتالية، وقتلت عشرات العناصر.

جنوب كردفان كانت بدورها مسرحاً للحصار والتجويع، في فبراير 2025، شهدت كادقلي موجة عنف، أودت بحياة 80 مدنياً، بينهم 21 طفلاً. تواصل الحصار لأكثر من تسعة أشهر، ما أجبر 3,070 إنسانا على النزوح في أغسطس 2025، بينما سُجلت 46 وفاة بسوء التغذية خلال يوليو وأغسطس. في 24 أغسطس، وصلت أول قافلة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف”، تحمل علاج سوء التغذية ومياه الشرب، لما يزيد عن 120 ألف شخص في كادقلي والدلنج. فقد واجهت الدلنج المصير ذاته، حيث توفي 17 طفلاً؛ بسبب الجوع في أغسطس 2025، واضطر السكان للاعتماد على مطابخ خيرية لتوفير وجبة واحدة يومياً.

أما في غرب كردفان والنيل الأزرق، فقد نجح الجيش في استعادة مدن مثل، بابنوسة وبارا و”بالدقو” و”ملكَن”، بعد هجمات قوات تحالف الدعم السريع والحركة الشعبية شمال دفعت أكثر من 100 ألف شخص للنزوح إلى مناطق أكثر أمناً، في ظل عجز مستمر عن توفير الغذاء والمأوى. وعلى امتداد هذه الجبهات، استُخدمت الطائرات المسيّرة والقصف المدفعي بشكل واسع، مستهدفة أحياناً الأسواق والمدارس والمستشفيات، مما فاقم الخسائر البشرية، وأدى إلى فقدان ملايين الماشية وتوقف الإنتاج الزراعي والصناعي.

الانتهاكات التي طالت المدنيين كانت واسعة النطاق وموثقة بالأرقام. سجل التقرير وقوع أكثر من 40 مجزرة خلال الفترة المشمولة، أسفرت عن مقتل ما يزيد عن 12,500 مدني وإصابة 5,200 آخرين. أبرزها مجزرة قرية جلقني في 18 أغسطس 2024 التي أودت بحياة 108 مدنيين وإصابة 153، وجرى قصف سوق كبكابية في 10 ديسمبر 2024 ما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص، والهجوم على مخيم زمزم بين 11 و13 إبريل 2025 الذي أودى بحياة أكثر من 2,000 مدني بينهم نساء وأطفال وعاملون إنسانيون.

تهجير واعتقالات ونهب

التهجير القسري بلغ مستويات كارثية. أكثر من 12 مليون شخص، نزحوا داخلياً، بينما لجأ أكثر من 4 ملايين آخرين إلى دول الجوار. من بين هؤلاء أكثر من 5 ملايين طفل، فقدوا التعليم وتعرضوا للجوع والمرض. حتى 29 يوليو 2025، بلغ عدد النازحين داخلياً نحو 9,937,444 شخصاً موزعين على أكثر من 10,000 موقع محلي، فيما تجاوز عدد اللاجئين المسجلين أربعة ملايين، ما جعلها واحدة من أكبر موجات النزوح في العالم المعاصر. ورغم عودة أكثر من مليوني نازح بين نوفمبر 2024 ويوليو 2025 بعد استعادة الجيش السيطرة على وسط البلاد، ظلّت الأزمة على حالها.

أما الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري، فقد تزايدت بشكل مقلق. حتى نوفمبر 2024، تم الإبلاغ عن 2,309 حالات إخفاء قسري، بينهم نساء وأطفال، بينما تشير التقديرات إلى أنّ العدد الإجمالي منذ اندلاع النزاع قد يصل إلى 50 ألف حالة. كما صدر 82 حكماً بالإعدام و51 حكماً بالسجن ضد متهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع. في محكمة جنايات ود مدني وحدها، بدأت محاكمة 950 متهماً، فيما أصدرت محاكم أخرى في كسلا والبحر الأحمر والقضارف ونهر النيل والشمالية أحكاماً مماثلة.

إلى جانب ذلك، اعتمدت قوات الدعم السريع على النهب المنظم كأداة استراتيجية، حيث استهدفت المنازل والأسواق والمخازن وسرقت الممتلكات والمعدات الطبية والسيارات، بل عمدت في كثير من الحالات إلى تدمير المنشآت بعد نهبها. تقدّر الخسائر الاقتصادية المباشرة حتى سبتمبر 2024 بأكثر من 108 مليارات دولار، مع تدمير أو نهب أكثر من 109,550 منشأة مدنية، بينها 318 موقعاً دينياً و77 موقعاً أثرياً وثقافياً. كما فقد القطاع الزراعي و الحيواني أكثر من 11 مليون رأس ماشية بقيمة تقارب 3.5 مليارات دولار.

الهجمات على البنية التحتية الحيوية عمّقت المأساة. أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الصحية توقفت عن العمل، وانخفض إنتاج الطاقة بعد تضرر 77 محطة كهرباء وسرقة كوابل ومحوّلات، فيما تعطلت 65% من المدارس و50% من الأسواق. استهدف القصف مستشفيات رئيسية مثل مستشفى الأم والطفل السعودي في الفاشر، ومستشفى الأبيض الدولي، ومستشفى المجلد المرجعي، ما أسفر عن سقوط عشرات الضحايا من المرضى والكادر الطبي. بين إبريل 2023 ويونيو 2025 تم توثيق أكثر من 621 حادثة استهداف للقطاع الصحي، شملت القتل والنهب والاعتداءات المسلحة.

التمويل والإمداد

وراء هذه الممارسات تقف شبكات تمويل وإمداد عابرة للحدود. فقد تلقت قوات الدعم السريع دعماً خارجياً، شمل طائرات مسيّرة ومركبات مصفحة، بينما اتُهمت الإمارات ومجموعة فاجنر الروسية وميليشيات ليبية بتوريد أسلحة ووقود. عبرت الإمدادات العسكرية طرق تهريب منظمة عبر تشاد ودولة جنوب السودان وليبيا، كما استُخدمت شركات كواجهة وحاويات لإخفاء شحنات طائرات مسيّرة، أعيد تركيبها داخل السودان. الذهب السوداني المهرب كان المصدر الأهم للتمويل، حيث بلغ إنتاج عام 2024 نحو 80 طناً بقيمة 6 مليارات دولار، جرى تهريب أكثر من نصفها إلى الإمارات وروسيا. في 2023 وحده، صُدر نحو 46 طناً من الذهب، بما يعادل 2.8 مليار دولار عبر شبكات تهريب.

التوصيات

في ضوء هذه الوقائع، خلص التقرير إلى جملة من التوصيات التي لا بد من التوقف عندها. إذ دعا التقرير إلى إنشاء مناطق حماية آمنة تحت إشراف الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في المدن الأكثر تضرراً مثل الفاشر وكادقلي والدلنج، مع فتح ممرات إنسانية دائمة لتأمين الغذاء والدواء. كما شدّد على حماية خاصة للنساء والأطفال عبر مراكز دعم نفسي واجتماعي، وضمان عودة آمنة للنازحين مع توفير الخدمات الأساسية.

على صعيد المساءلة، أوصى التقرير بتشكيل لجنة تحقيق دولية أو إقليمية للتحقيق في جرائم الإعدامات الميدانية والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والنهب، مع إحالة الملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما دعا إلى إنشاء نظام رقمي مركزي لحفظ الأدلة والشهادات. أما في ما يتعلق بالبنية التحتية، فقد شدّد التقرير على أهمية إعادة تأهيل المستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء، ووقف سياسات الحصار والنهب عبر فرض عقوبات محددة على الأفراد والكيانات المتورطة.

إلى جانب ذلك، شدّد التقرير على ضرورة توسيع نطاق المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والمياه والأدوية، وحملات تطعيم واسعة النطاق، وتوفير برامج تعليمية للأطفال لتعويض فجوة التعليم، مع التركيز على برامج المصالحة المجتمعية والتعايش السلمي. كما دعا إلى تشديد الرقابة على الموارد الاقتصادية لمنع استغلالها في تمويل الحرب، وإنشاء وحدات رقابة مستقلة لمتابعة سلوك الأطراف المتحاربة وضمان التزامها بالقانون الدولي الإنساني.

التقرير يوضح بجلاء أن الحرب في السودان لم تعد صراعاً مسلحاً بين طرفين فحسب، بل تحولت إلى منظومة متكاملة من الانتهاكات والدمار والتهجير الممنهج، تستهدف وجود المجتمع المدني نفسه. إن حجم الخسائر البشرية والمادية، وتواطؤ شبكات إقليمية ودولية في تغذية النزاع، تجعل من الضروري التحرك العاجل لوقف الكارثة ومنع تكرارها. يظل خيط الأمل الذي مازال رفيعا، معقوداً على تضامن المجتمع الدولي والفاعلين المحليين لإيجاد حل سياسي شامل، يعيد للسودان استقراره، ويصون كرامة شعبه.

لقراءة الملف كاملا: