بدأت حركة المركزية الإفريقية أو” الأفروسنتريك” في الحصول على شرعيتها من خلال حركة الحقوق المدنية بين الأمريكيين من أصول إفريقية في الستينات من القرن الماضي، ثم بدأ اصحابها في تنظيم أنفسهم في منتصف الثمانينات، ردا على الثورة الأصولية التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق “رونالد ريجان”. وفكرة هذه الجماعة قائمة، على أن الجنس الأسمر هو أصل كل الحضارات، وأن المستعمرين الأوروبيين قد سرقوا هذه الحضارات ونسبوها لأنفسهم. وربما لا يتسع المجال هنا للحديث المسهب عن أصل وتطور الحركة، لكن يمكن مطالعة العديد من الكتابات عن الحركة من خلال بعض المقالات بالعربية، ولكن للأسف لا يوجد كتاب كامل بالعربية سوى كتاب “الأمريكيون الفراعنة: الدعاية الإعلامية للأفروسنتريك”، وهو للأستاذة سهر أحمد السيد، بالإضافة لبعض المقالات في الدوريات المتخصصة أو المواقع الإلكترونية، بينما بدأت جهات عدة في تأليف كتب عن الأصول الإفريقية لحضارتنا وأننا سارقوها.

ما يهمنا ذكره الآن، هو أن هذه الحركة قد بدأت مؤخرا في التوسع في حملاتها ضد الحضارة المصرية القديمة بشكل أصبح يشكل استفزازا، ويساندهم في ذلك بعض الأوروبيين، ربما من باب الصوابية السياسية، أو أن الحملة هذه لها أهداف غربية وتمولها بعض الدول قد تكون إسرائيل من بينها؛ لإثبات أن الحضارة المصرية أصلها حامي من نسل نوح، وربما كانت الزوبعة التي أثارها فيلم كليوباترا (السمراء) هي أحد نتائج تلك الحملة. والمتابع لصفحات الفيسبوك، يجد أنه مؤخرا فقط خرجت علينا عشرات الصفحات التي تنشر صورا في غاية الاستفزاز لنا كمصريين ولتاريخنا الفرعوني عن طريق تطبيقات الذكاء الاصطناعي، تظهر ملوك الفراعنة من أصحاب البشرة السمراء، وأنهم عاشوا في سلام حتى جاء العرب ليطردوهم إلى الصحراء الإفريقية، ويستولوا على كنوزهم وتاريخهم. لست هنا بصدد تفنيد هذه الادعاءات الخبيثة؛ لأنها لا يرد عليها، ولكن نجد أنفسنا في حالة تساؤل عمن وراء هؤلاء، فالسؤال هنا لا يكون: هل هناك مؤامرة أم لا؟ بل السؤال يجب أن بكون: ما هي أبعاد المؤامرة علينا، ومن هم أطرافها؟ وهناك العديد من التصورات التي تجعلنا، نتحسس مسدساتنا (على طريقة جوبلز) إزاء هذه الترهات التي تغمرنا بها صفحات الفيسبوك الإفريقي، هل الغرض إثناءنا عن التفاخر بحضارتنا التليدة أمام العالم في ظل الاضمحلال الحالي للدولة المصرية؟ أم العمل على سلخ مصر من بعدها، بعد أن كانت مصر لعقود سندا لحركات التحرر في إفريقيا؟ أو دعونا نتزيد قليلا في تخوفاتنا ونسترجع، ما كانت تقوم به الوكالة اليهودية قبل قيام كيانهم الغاصب من إحياء التراث العبري وفبركة تاريخ عن حقوق اليهود التاريخية في فلسطين؛ توطئة للقيام بإعلان الدولة العبرية. ربما المقارنة هنا ليست متشابهة تماما، لكن ما أراه من تعليقات البعض عن العودة إلى بلدهم الأصلي كيمت وطرد الغزاة العرب (نحن وكأن مصر، لم يكن بها أقباط مثلا يعيشون حتى الآن) وتشكيل حكومة من أبناء البشرة السمراء الذين تعلموا في الولايات المتحدة، فهم مؤهلون لذلك! ومن خلال متابعتي لهذه المنشورات، وردودي عليهم أنهم يبدأون في الهجوم العنصري علينا، ولكن يجدون من قاموس شتائمنا، ما يخرسهم، ولكني لاحظت، أن العديد من الحسابات هي حسابات وهمية، لا يوجد بصفحاتها أية منشورات، وهذا طبيعي، وجزء من أهداف هذه الحملة لإيهام العالم، بأن عددهم كبير جدا. وفي إطار هذه الحملات تسلل أحد هؤلاء النصابين، ويسمونه بروفسير كابا (وهو مدعي يعتمر منديلا مربوطا على رأسه يشبه ربطة القراصنة) إلى المتحف المصري ليلقي محاضرة كمرشد سياحي، عن تاريخ إفريقيا الذي سرقه العرب في مصر (طبعا تم هذا في ظل حالة من الغفلة من طرفنا)، وخرجت المواقع تهلل لهذا الانتصار، وتسخر منا، وتدعي أن المصريين مرعوبون من كشف الحقيقة الذي قام به المدعو كابا بشجاعة. أيضا أقيم معرضا لبعض كنوزنا في هولندا باسم الحضارة الإفريقية، وتم في الإعلان عن المعرض عرض صورة توت عنخ أمون بملامح إفريقية صرفة من أنف أفطس وشفتين مكتنزتين للغاية لترسيخ هذه الصورة في الأذهان.  

أعود وأقول، إن هذه الحملة قد بدأت في التنامي، فحتى عدة أشهر، كانت تنشر مواقع الأفروسنتريك صورا بالذكاء الاصطناعي، أو تفبرك نقوشا، تدعي أنهم أصحاب الأرض الحضارة، بل وصلت البجاحة إلى فبركة النقش الشهير لجنود مصريين، يقومون بأسر محاربين أفارقة بنقش ركيك، يبين جنود مصر سمر البشرة، يضربون الأسرى العرب! أيضا أسر الهكسوس من قبل جنودنا تحول إلى أسر جنود مصريين من سمر البشرة لغزاة عرب (هم نحن وفقا لروايتهم). تطورت الحملة الآن إلى الكتابة عن أرضهم التي سرقناها، نسبناها لأنفسنا باللغة العربية؛ لتصل لنا، وتقوم بالغرض منها، وهو محو إحساسنا بالفخر بتاريخنا الذي يتحدث العالم للآن عن عظمته، أيضا حملات منظمة ضد أي موقع مصري، ينشر أية صور عن تاريخنا المصري القديم مع اتهامنا، بأننا الغزاة لصوص القبور الذين طردنا ذوي البشرة السمراء من أرضهم بعد احتلالنا، لـ “كيميت” التي أسميناها مصر بعد ذلك. ومن المؤسف انضمام بعض أبناء السودان لهذه الحملات خالطين بين حضارة بلاد كوش في الجنوب وبين تاريخ الفراعنة، وقد هدأت هذه المشاركة في أعقاب الحرب في السودان، حيث كانت مصر من أهم الدول التي استضافت الفارين من جحيم الحرب هناك.

إن اللافت للنظر هو توقيت مثل هذه الحملات التي لا شك، أن تمويلها من دول لا أفراد، فالمنفق عليها أكبر بكثير من مساهمات بعض الأفراد المهووسين أو الباحثين عن مكان وسط التاريخ الإنساني. إن مصر تتعرض لهجمات من دول عدة على الأصعدة الفنية والثقافية والرياضية والسياحية والعمرانية، فلا نعتقد أن هذه الهجمات الأفروسنتريك بمعزل عن هذه المخططات. بل أنه يجد بنا أن ننتبه إلى التوقيت الذي بدأت فيه هذه الهجمات الممولة، وهو توقيت أصبحنا فيه دولة وشعبا في أضعف حالاتنا.

مخاطر هذه الحملة:

استمرارا في إضعاف الروح المصرية التي تواجه اضمحلال في معظم مناحي الحياة، فالمتابع يجد أن مصر أصبحت تصدر الغناء الرديء فقط، رغم آلاف المواهب التي تعاني تعتيما إعلاميا، فيظهر على الساحة مطربو المهرجانات فقط، ويتم تكريمهم في دول الخليج، ولا بد أن يرتدوا في حفلاتهم ملابس تشبه إلى حد كبير ملابس المهرجين، بينما غناؤنا الطربي الأصيل، أصبح يشدو به المطربين من الخليج والشام فقط، أيضا أفلام ومسلسلات البلطجة التي تبث بشكل متكرر بألفاظها التي تجاوزت السوقية إلى الإباحية. أصبح الوقت الآن مناسبا لمن وراء الأفروسنتريك لإضعاف الحقيقة الوحيدة في حياتنا، وهي تاريخنا الذي أبهر العالم…. الخطة الخبيثة مفادها، تساؤل واحد هو: لماذا لا يظهر هذا التاريخ، وكأنه متنازع عليه بين المصريين الحاليين وبين هؤلاء المرتزقة؟
في خلال بضعة سنوات مقبلة، سوف تمتلئ صفحات ومواقع الإنترنت بصور مزيفة عن فراعنة من أصحاب البشرة السمراء، وسوف تذوب رويدا رويدا الفوارق بين الأصلي والزائف الذي يريد الأفروسنتريك ومن ورائهم بثها وترسيخها في الذاكرة البصرية لنا ولغيرنا. يأتي هذا في ظل عدم اهتمامنا كمصريين بتاريخنا الفرعوني (أذكر في بريطانيا مرة وجدت طفلا في السنة الخامسة الابتدائية، يحدثني عن ملوك الأسرة الرابعة في مصر القديمة، وتساءلت ساعتها، كم منا يحفظ هذه الأسماء).

كانت مصر منذ الخمسينات ملهمة وداعمة لحركات التحرر الوطني في إفريقيا (وهذا ما أكده مانديلا في أحد حواراته، ولا تزال بعض الدول مثل غانا، تضع نصبا تذكاريا لعظماء إفريقيا منهم جمال عبد الناصر)، ولكننا تنازلنا- أو أجبرنا على التنازل- عن هذا الدور لصالح دول عربية أخرى، تقوم بالاستثمار في إفريقيا. ومن الطبيعي، أن تكون المعركة بيننا وبين الأفروسنتريك عنصر هام وجديد في إبعاد مصر عن دورها الداعم في إفريقيا.

خلخلة التحالف المصري السوداني في مسائل مصيرية مثل، سد النهضة، وقد بدأت هذه المحاولات عام 2017، عندما بدأت قطر في الترويج لأهرامات السودان لبث بذور خلافات وتلاسن بين المصريين وأشقائهم السودان مع عمل حسابات مزيفة لإزكاء الفتنة، حتى أن قناة الجزيرة قد أنتجت فيلما وثائقيا بعنوان “السودان أصل الحضارة” وتم توزيعه مجانا بعدة لغات على قنوات عالمية؛ لاستفزاز مصر وترسيخ خلافات متجددة بين القوميين من البلدين، والتي والحمد لله سرعان ما فترت هذه الملاسنة.

ربما كانت هذه الحملات تطورا أو مرحلة لاحقة لدعاوى، أن الفراعنة كفار، وكما قال أحد السلفيين، إنها حضارة “عفنة”، وغير خاف عن أحد ما هي الدول المجاورة التي كانت تدعم هذه المفاهيم المتطرفة، ولكنها بدأت في سرقة آثارنا أو تقليدها. ربما كانت تكملة لسلخنا عن ماضينا تارة من باب التدين الزائد، وتارة من باب أنها ليست لأجدادنا، بعد أن تم نسبة حضارتنا إلى فضائيين، أو اليهود أو إلى قارة أطلنطا الغارقة!.

كيفية التعاطي مع هذه المؤامرة:

ليس من الفطنة، أن نقول إننا يجب أن نواجه الفكر بالفكر؛ لأن ما نواجهه ليس فكرا، بل مجرد تخرصات تزكيها جهات عدة بالشحن والتأليب وتزييف الحقائق، لكن يجب على الأقل أن نرد بقوة على ادعاءات المتخصصين، ممن قد تميل نظرياتهم لدعم أفكار الأفروسنتريك.

لا بد من حصر وتوثيق كافة الجداريات سواء بالمتاحف أو على جدران المعابد بترقيم يكون مرجعية لهذه الكنوز، ويكون بمثابة علامة مسجلة؛ منعا للتدليس وتسلل الصور المزيفة التي يستند إليها اصحاب الصفحات، والتي نعلم ويعلمون أنها من صنعهم، وهو أمر أصبح سهلا جدا.

تاريخنا ليس صفحتين في كتاب، بل متراكم متواصل، ولذلك يجب أن يدرس بالشكل الصحيح، فنحن نملكه، وهو لنا، ومن الأحرى، أن يدرس لأطفالنا، وأن نعدل عن الفكرة الطائشة الخاصة بجعله اختياريا.

لا بد من تدريس الحقبة القبطية أو دراستها؛ لأنها الواقعة بين الحقبة الفرعونية والإسلامية، وهي التي توضح أن الأقباط المصريين هم من كانوا موجودين بمصر قبل مجيء العرب في القرن السابع الميلادي، وأقباط اليوم هم أحفاد أقباط مصر، ولا زالوا يعيشون في مصر وليس أصحاب البشرة السمراء.

لا بد من تشريع بتجريم أي جهة أو شخص يروج لمفاهيم تناصر أفكار الأفروسنتريك وتغليظ العقوبات، وهو أمر ليس متطرفا، ففرنسا لديها قوانين، تحرم المساس باليهود (تم عن طريق هذا القانون محاكمة الكاتب عادل حمودة عن مقال، اعتبر مسيئا لليهود في جريدة الأهرام)، بل أن هناك سبعة عشر دولة أوروبية قد سنت قوانين تجرم إنكار الهولوكوست.

تشجيع إنتاج الأعمال الفنية المبنية على تصوير المعابد الأصلية عن الحقبة الفرعونية في مصر؛ لأننا لطالما أظهرناهم في شكل طواغيت في الأعمال القليلة التي تناولتهم، خاصة في الأعمال الدينية في الثمانينات التي أظهرتهم جبارين في مواجهة اليهود الطيبين.

أن كاتب هذا المقال ليس متخصصا في التاريخ، ولا يدعي ذلك، ولكن ما يحدث يستلزم القيام بالدفاع عن حضارتنا وتاريخنا في زمن أصبح فيه دراسة تاريخنا ترفا!