الهجوم الإسرائيلي على قادة حماس في قطر، ليس فقط مجرد عملية اغتيال، نجحت في قتل وإصابة بعضهم، إنما أيضا اغتيال مع سبق الإصرار والترصد لعملية المفاوضات التي ترعاها قطر ومصر، ورسالة واضحة بأن إسرائيل لم تكن جادة في أي مفاوضات، وأنه حين قبلت حماس المقترح الأمريكي/ الإسرائيلي الذي قدمه المبعوث الأمريكي ويتكوف رفضته إسرائيل، ثم قامت بعمليتها أول أمس.
إن ما سبق وذكرناه الأسبوع الماضي في موقع مصر 360، أن مشروع إسرائيل الكبرى هو بالأساس مشروع للهيمنة وبسط النفوذ، يستخدم وقت الحاجة أدوات خشنة وعسكرية قاسية، وأصبحنا لأول مرة نرى دولة استعمارية، لا تمتلك “عصا وجزرة” لإغراء الشعوب وإخافتها، إنما تمتلك فقط عصا قتل غليظة لإرهاب كل من يقف أمامها، وهو ما يجعل هناك استحالة، أن تنجح في أي من مشاريعها للسيطرة على المنطقة، وليس بالضرورة نتيجة قوة من يواجهوها، إنما أساسا للمشكلات الهيكلية في بنية المشروع الإسرائيلي الصهيوني نفسه، والتي تجعل هناك استحالة، في أن يستمر مشروع قائم فقط على القتل والبطش.
علينا ألا نندهش، أن يستمر نتنياهو وحكومته في ترديد شعار إسرائيل الكبرى وإعلان ضم الضفة الغربية ورفض حل الدولتين وإغلاق كل المنافذ السياسية للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وأن تكون الأداة الوحيدة المستخدمة هي القتل والتجويع والإبادة الجماعية ،وليس أداه سياسية أو اقتصادية واحدة، وحين تلوح في الأفق فرص لوقف إطلاق النار، أو تقترب مفاوضات الوساطة من هدنة، تقوم إسرائيل باستهداف قادة سياسيين، تتفاوض معهم منذ نحو عام وعلى أرض دولة حليفة لأمريكا ولديها قنوات اتصال قوية مع إسرائيل.
إن تعبير “إسرائيل الجديدة” ومشروعها الكبير أي “إسرائيل الكبرى” لم تعد مشكلته فقط مع حماس ولا مع محور الممانعة، فقد دمرت غزة، وقتلت ٦٠ ألف شخص معظمهم من المدنيين، وجوعت وقتلت أطفالا ونساء دون حساب أو رادع، وأضعفت قدرات حزب الله، وألقت بكرة النار في الداخل اللبناني، تتمنى اندلاع اقتتال أهلي بين الفرقاء اللبنانيين، كما أنها أضعفت بمساعدة أمريكية مباشرة جانبا من قدرات إيران العسكرية والنووية، وتضرب سوريا لتبقيها ضعيفة ومنقسمة، رغم أن إداراتها الجديدة منكفئة على مشاكلها الداخلية وتخلت في خطابها المعلن عن شعارات تيارات الإسلام السياسي في “الجهاد” ضد “اليهود”، ومع ذلك لا زالت إسرائيل تعبث بأمنها الداخلي وبورقة الأقليات، وتدعم الدروز، لمجرد أن القيادة الجديدة لا زالت خارج التفاهمات التي وضعها نظام بشار الأسد مع إسرائيل.
كل ذلك فعلته دولة الاحتلال ضد من عارضوها، أو لم يتحالفوا معها، لكنها مستعدة، أن تفعل المزيد، فهي لا تريد فلسطينيين في غزة والضفة، وستسعى لتهجيرهم أو تهجير جانب منهم، ولن تقدم أرضا مقابل السلام، فهي لا تربد السلام، ولم يعد يمثل أولوية لها، وإغراؤها بمبادرة السلام العربية لم يعد يهمها.
مشروع إسرائيل الكبرى في جوهره، يرفض التفاوض، وهو عكس منطق أي تفاوض قائم على تقديم التنازلات والوصول لحلول وسط وتسويات سلمية، وهي كلها أمور باتت ترفضها إسرائيل، بل أسس اليمين المتطرف مشروعه على رفض التسوية السلمية منذ اتفاق أوسلو وحتى اللحظة.
إسرائيل يمكن أن تهاجم في ثواني أي دولة، تختلف معها في جانب، وتتفق معها في جوانب، فقطر حليفة مقربة، ويشاد بها من أمريكا، ومع ذلك ضربت وقصفت وانتهكت سيادتها؛ لأن مشروع إسرائيل الكبرى قائم على وجود فائض قوة، سيستهدف الجميع معتدلين ومتشددين متحالفين مع أمريكا أو خصوم لها دون أي تمييز.
على دول المنطقة، أن تعي أن إسرائيل الجديدة تختلف يقيمها وبفكرها ومجتمعها عن إسرائيل التي وقعت اتفاقية سلام مع مصر، واتفاق أوسلو مع منظمة التحرير، فقد كان وقتها هناك متشددون مؤمنون، بأنه يمكن التنازل عن أرض محتلة لصالح التسوية السلمية، كما فعل الليكود بزعامة مناحم بيجين مع السادات في اتفاق كامب ديفيد، وكانت هناك تيارات مؤمنة بالسلام والتسوية السلمية ويسار يدافع عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، كل هؤلاء تحولوا حاليا من تيارات إلى أفراد، وأصبحت غالبية المجتمع داعمة للإبادة الجماعية والقتل العشوائي، واستهداف الأطفال، وترفض حل الدولتين والتسوية السلمية للقضية الفلسطينية.
إن عملية قطر استهدفت دولة حليفة لأمريكا ولديها أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط (قاعدة العديد)، وأهدى قادتها لرئيس أمريكا أثناء زياراته الأخيرة للدوحة في مطلع هذا العام طائرة بنصف مليار دولار، وتباروا جميعا في الحديث عن صفقات السلاح والاتفاقات التجارية والشراكات الاقتصادية التي أبرمت بين الجانبين، كل ذلك لم يمنع أمريكا من أن تدعم العملية سرا، وتتحفظ على كونها جرت في قطر علنا.
ما جرى في قطر، سيكون له تداعيات خطيرة على دول الخليج، وعلى مستقبل التحالفات الأمنية في المنطقة، خاصة بعد أن أثبت الواقع العملي، أنه لا حصانة لأي تحالف عسكري واستراتيجي أو شراكة اقتصادية مع أمريكا أمام إسرائيل، فقد أصبح العالم أمام دولة استثناء لديها حصانة خاصة، وباتت فوق أي قوانين دولية، ولا تهتم بأي دولة أو قيمة أو مبدأ في القانون الدولي، ما دامت تدعمها أمريكا.
اغتالت إسرائيل في قطر مفاوضات وقف إطلاق النار، وأصبحت حماس أمام خيار القبول بالإفراج عن الرهائن في مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين، وليس بالضرورة إنهاء الحرب، وأصبح العرب والعالم أمام خيار، إما التسليم بالتهجير والإبادة الجماعية وإما مقاومته بكل الطرق؛ حفاظا على ما تبقى من قيم وقوانين، تفصلنا عن شريعة الغاب.