في 30 أغسطس شهدت نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور أداء محمد حمدان دقلو «حميدتي» القَسَم رئيسًا للحكومة الموازية، بمشاركة عبد العزيز الحلو نائبًا له. لم يأتِ هذا التطور من فراغ، بل جاء امتدادًا لإعلان سياسي سابق، تمثل في تكوين تحالف يقوده الدعم السريع «تأسيس»، وما أعقبه من إقرار «دستور انتقالي» داخل مناطق سيطرة الدعم السريع، أتاح لاحقًا تكوين مجلس رئاسي من 15 عضوًا كممثلين لأقاليم السودان وفق رؤية لامركزية للحكم مع تعديل الشعار الرسمي للسودان، بإضافة ثماني نجوم.

هذه الخطوة مثّلت انتقالًا من النصوص السياسية إلى الواقع المؤسسي، حيث سعى تحالف «تأسيس» بقيادة الدعم السريع إلى تحويل سلطته العسكرية إلى مشروع حكم موازٍ، بهياكل تتكون من مجلس رئاسي، رئاسة وزراء، حكام أقاليم، وخطط مستقبلية لإصدار هويات وعملة محلية وتوسيع الإدارة المدنية داخل مناطق سيطرته. وقد اختيرت نيالا كـ«عاصمة فعلية» لهذا المشروع.

ترجمت هذه الإجراءات مسعى لشرعنة الأمر الواقع وتحويل الدعم السريع من قوة ميليشياوية مسيطرة إلى «حكومة» ذات هياكل وهوية قانونية في محاولة لفتح قنوات تعامل خارجي، ولو على مستوى الإغاثة. كما فسّرها مراقبون، باعتبارها مناورة؛ تهدف إلى رفع سقف التمثيل، بحيث يتحول أي تفاوض محتمل مستقبلاً إلى حوار «بين حكومتين» لا بين «جيش ومليشيا مسلحة».

في هذا السياق أيضًا، أعلنت الحكومة الموازية عن تعيين «مندوب دائم» لها لدى الأمم المتحدة، وهي خطوة، وُوجهت برفض قاطع من بعثة السودان الرسمية في نيويورك، لكنها أبرزت حجم سباق الشرعية والتمثيل. كذلك عُقد الاجتماع الأول للحكومة الموازية في نيالا، وفي هذا السياق أيضًا، أعلن عن محمد الحسن التعايشي رئيسًا للوزراء مع جولة ميدانية لحميدتي والحلو داخل المدينة في رسالة، بأن المشروع يتجاوز الرمزية إلى محاولة ترسيخ إدارة فعلية.

ومع ذلك، ما يزال الموقف الدولي موحدًا تقريبًا بعدم الاعتراف بهذه الترتيبات، مما يجعلها أقرب إلى محاولات لترسيخ إداري محدود داخل دارفور وكردفان. ويبقى نجاحها مرهونًا بقدرة الدعم السريع على الحفاظ على سيطرته في دارفور، وبما ستسفر عنه المعارك في محيط الفاشر التي تبدو حاسمة لمستقبل الإقليم.

بين الرفض العلني والدعم المستتر:

مع إعلان التحالف السياسي المكون للحكومة الموازية في نيروبي- كينيا، بدأت ردود الفعل تتوالى، كان الرفض هو العنوان الأبرز، لكن خلف هذا الرفض العلني تحركت شبكة من المواقف الرمادية والتحالفات غير المعلنة.

البداية جاءت من الأمم المتحدة، حيث أصدر مجلس الأمن بيانًا يرفض الاعتراف بالحكومة الموازية، واعتبر أن الخطوة تمثل تهديدًا لوحدة السودان وسيادته، داعيًا الأطراف إلى وقف الإجراءات الأحادية وفتح الممرات الإنسانية. تبع ذلك الاتحاد الإفريقي، الذي شدد على أن أي محاولة لإنشاء سلطة بديلة لا مكان لها، محذرًا من أن مثل هذه الخطوات قد تُغرق السودان في مزيد من الفوضى. أما الجامعة العربية فقد تبنّت خطابًا مشابهًا، مؤكدة أن وحدة السودان خط أحمر، وأن فرض واقع جديد بالقوة لن يمر.

في الغرب، تبنّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مقاربة مزدوجة تجاه الحكومة الموازية؛ إذ جرى التعامل معها سرًّا كأداة ضغط على الدولة لإضعافها ومحاصرتها، في حين اتجه الخطاب العلني إلى عزلها والتشديد على عدم شرعيتها. فقد أعربت واشنطن عن “قلقها العميق” من إعلان قوات الدعم السريع تشكيل حكومة موازية، واعتبرت ذلك تهديدًا لوحدة السودان واستقراره، ولوّحت بفرض عقوبات إضافية على الأطراف الداعمة لها، بينما شدّد الاتحاد الأوروبي على المخاطر الأمنية المرتبطة باستمرار الحرب، محذّرًا من انعكاساتها على أمن البحر الأحمر وتزايد موجات الهجرة.

ومع ذلك، كشفت تقارير عن محادثات سرّية، أجرتها وزارة الخارجية البريطانية مع قوات الدعم السريع، في مؤشر على وجود تعامل غير معلن مع هذه القوة، باعتبارها طرفًا لا يمكن تجاوزه، وإن كان يُرفض الاعتراف بشرعيته علنًا. ويرى محللون، أن إعلان “الحكومة الموازية” ليس سوى ورقة تفاوضية، يستخدمها الدعم السريع لتعزيز موقعه في أي محادثات سلام مقبلة، أكثر من كونه مشروعًا فعليًا لإدارة دولة.

هذه السياسة المزدوجة لم تُفتح لتوسيع التدخل الغربي المباشر، بقدر ما أرست قواعد إدارة الصراع من خلف ستار، عبر مزيج من الضغوط غير المباشرة والعزلة العلنية، بما يتيح لواشنطن وبروكسل هامشًا أوسع للتحكم في مسارات الأزمة دون الانخراط الكامل فيها. ومن هنا، يمكن فهم حالة عدم الاكتراث بمعالجة جذور الأزمة، والاكتفاء بفتح مسارات تفاوضية محدودة، تُدار بلا جدية، فتتحول من وسيلة لإنهاء الصراع إلى أداة لإدارته وإبقائه تحت السيطرة الغربية، بدل الوصول إلى تسوية سياسية حقيقية ومستدامة.

إقليميًا، أكدت القاهرة، أن وحدة السودان جزء من أمنها القومي، خصوصًا في ظل حساسيات ملف النيل وسد النهضة. السعودية بدورها، أعلنت التزامها بوحدة السودان، غير أن تقارير صحفية فجرت جدلًا واسعًا، حين كشفت عن تخريج دفعة عسكرية جديدة من قوات الدعم السريع على أراضيها. الخرطوم سارعت إلى الاحتجاج رسميًا، فيما ردت الرياض، بأن الأمر يرتبط بمشاركات سابقة للقوات السودانية في التحالف باليمن. لكن طبيعة التدريب– التي شملت قوات خاصة ومدفعية وقناصة وطيران– والتهديدات التي أطلقها قادة الدعم السريع بالقدرة على الوصول إلى بورتسودان، أوحت بوجود مستوى من التنسيق غير المعلن.

الأزمة تعمقت مع الإمارات، التي نفت مرارًا دعمها للدعم السريع، بينما أكدت تقارير دولية أنها الممول الأساسي ماليًا ولوجستيًا له. هذا التناقض فجّر أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، دفعت الخرطوم إلى إعلان الإمارات “دولة عدوان”، لتتطور المقاطعة إلى مستويات تجارية ودبلوماسية. ومع ذلك، حاولت أبوظبي امتصاص الغضب لاحقًا بإعلانها رفع الحظر عن الشحن البحري إلى بورتسودان مطلع سبتمبر الجاري.

أما كينيا، فقد برزت بشكل مباشر في المشهد، إذ كانت نيروبي هي العاصمة التي شهدت أداء أعضاء الحكومة الموازية لليمين الدستورية، وعقد اجتماعهم الأول قبل وصولهم إلى نيالا. ورغم أن الحكومة الكينية لم تُصدر موقفًا رسميًا، يعترف بهم أو يرفضهم، فإن سماحها بعقد هذا النشاط على أراضيها أعطى إشارات رمزية بفتح قنوات اتصال مع هذه الحكومة الوليدة. وفي المقابل، التزمت نيروبي لاحقًا خطابًا عامًا، يدعو للحوار دون الاعتراف بأي سلطة بديلة.

في الجوار المباشر، كانت تشاد لاعبًا أكثر انخراطًا. ورغم خطابها الرسمي الحذر، سمحت التحالفات القبلية والنفوذ العسكري للدعم السريع، بأن يجعل من أراضيها نقطة تجنيد وإمداد علنية، حتى ترددت أنباء عن احتمال تسليم السفارة السودانية في نجامينا للحكومة الموازية. المشهد لم يكن مختلفًا كثيرًا في ليبيا، حيث لم يُعلن أي موقف رسمي، لكن المؤشرات أكدت، أن خليفة حفتر يقدم دعمًا عسكريًا مباشرًا عبر خطوط إمداد من الكفرة إلى دارفور.

جنوب السودان التزمت الحياد في خطابها الرسمي، لكنها في الواقع لعبت دورًا محوريًا، إذ وفرت ممرات لوجستية للدعم السريع مقابل حماية المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب على الحدود في غرب كردفان الخاضعة لسيطرة الدعم السريع. وفي المقابل، أوغندا لم تُعلن موقفًا واضحًا، لكن زيارات حميدتي المتكررة إلى كمبالا، أثارت تكهنات حول احتمال تسليم سفارة السودان للحكومة الموازية هناك، ما يعكس برجماتية أوغندية، تراهن على الطرفين.

أما إثيوبيا فقد اختارت الصمت. التقارير كشفت عن تنسيق غير معلن مع الدعم السريع، لكن الخلافات الحدودية مع السودان وملف سد النهضة فرضا على أديس أبابا سياسة حذرة، تمنعها من الظهور كداعمة صريحة للحكومة الموازية الوليدة.

يتضح في المحصلة، أنّ إعلان الحكومة الموازية في نيالا قوبل برفض علني واسع، غير أنّ هذا الرفض لم يَحُل دون بروز شبكة من الترتيبات غير المعلنة، شملت أشكالًا من الدعم العسكري واللوجستي، وأخرى ذات طابع مالي وسياسي، إضافة إلى أنشطة تدريب، وفّرت غطاءً لتحركاتها. وبهذا أصبحت الحكومة الموازية، رغم عزلتها الرسمية من حيث الشرعية، طرفًا يكتسب حضورًا متناميًا بفعل تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، الأمر الذي يعكس تحوّل الأزمة السودانية إلى ساحة تنافس مفتوح، تُدار توازناته من خارجها أكثر مما تُحسم من داخلها.

مشهد مسدود واحتمالات صعبة

إعلان الحكومة الموازية في نيالا لم يفتح بابًا للحوار بقدر ما عزز الانقسام القائم. عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني شدد بوضوح، أنه لن يفاوض الدعم السريع، ولن يجلس معه تحت أي ظرف، وهو ما يجعل منطق التسوية السياسية بعيدًا في هذه المرحلة. هذا الموقف يترك الساحة مفتوحة لخيارات أخرى أقل هدوءًا. فمن جهة، قد تدفع المواجهة نحو جولات جديدة من القتال ومحاولات كل طرف فرض واقع مختلف على الأرض، الدعم السريع لكي يسعى إلى توسيع حضوره في ولايات الوسط، وربما التقدم شرقًا، بينما الجيش يتمسك بموقعه على البحر الأحمر، ويعتبر أي اقتراب من بورتسودان مسألة أمن قومي.

من جهة ثانية، هناك ضغوط تتشكل على المستوى الدولي والإقليمي لعزل الدعم السريع سياسيًا، ورفض الاعتراف بالحكومة الموازية، وهو ما من شأنه أن يضيف ثقلًا لحكومة بورتسودان، لكن هذا لا يكفي وحده لإنهاء الصراع، خاصة وأن شبكة العلاقات التي بناها حميدتي في المنطقة ما زالت فاعلة. العزلة قد تحد من حركته دبلوماسيًا، لكنها لم تثبت بعد، أنها قادرة على منعه من الاستمرار عسكريًا.

ويبقى احتمال آخر، وإن بدا ضعيفًا، هو أن تضطر الأطراف إلى تهدئة مؤقتة بفعل الضغوط الإنسانية أو تدخل الوسطاء. مثل هذه الخطوة قد تأتي على شكل وقف إطلاق نار محدود أو فتح ممرات إغاثة، لكنها لن تغير جذور الأزمة، ما دام المواقف الجوهرية لم تتبدل.

بذلك، تبدو البلاد أمام مسارات كلها صعبة: حرب تستمر وتتمدد، عزلة تضيق لكنها لا تحسم، ومحاولات تهدئة قد لا تتجاوز كونها استراحة قصيرة في صراع طويل.