تل أبيب تستغل الفقر وإرث الموساد لاستمالة جوبا
رغم تكذيب جنوب السودان رسميا، انخراطه في محادثات سرية مع إسرائيل، لإعادة توطين سكان قطاع غزة الفلسطيني المحتلة في أراضي الدولة الإفريقية الفقيرة، فلا يزال هناك شك حول تورطها في المخطط الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين.
وسارعت وزارة الخارجية في جنوب السودان، إلى نفي وجود أي مناقشات مع إسرائيل بهذا الخصوص، واعتبرتها فى بيان رسمي مقتضب، غير صحيحة، ولا تعكس الموقف أو السياسة الرسمية للحكومة.
لكن هذا النفي لم يوقف الجدل واستمرار تناول القضية في الصحافة الدولية، وصدور تقارير تتحدث عن “صفقات سرية” بين جوبا وتل أبيب، وموافقة حكومة جنوب السودان سرا على طلب إسرائيلي لاستقبال فلسطينيين من غزة، ضمن صفقة تشمل رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على جوبا، واستثمارات إسرائيلية في الصحة والتعليم.
حرج حكومي
واعتبرت دولة جنوب السودان الممزقة بالحروب، أحد الوجهات المحتملة لاستقبال الفلسطينيين حال مغادرتهم قطاع غزة، كجزء من الدفع الإسرائيلي الأوسع نحو هجرة جماعية من القطاع المدمر.
وفقا لما نقلته وكالة أسوشيتد برس الأمريكية عن مصادر، إن هذه الخطة تعني نقل الناس من أرض دمرتها الحرب، وتواجه خطر المجاعة، إلى أخرى تعاني من نفس الأوضاع، ما يثير مخاوف حقوقية.
وزايد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بادعائه أنه يريد تحقيق رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة توطين جزء كبير من سكان غزة، واصفًا ذلك بـ”الهجرة الطوعية”.
بالنسبة لجنوب السودان، قد يساعد مثل هذا الاتفاق في تعزيز علاقاته مع إسرائيل، القوة العسكرية شبه المطلقة في الشرق الأوسط، ويفتح له أبوابًا مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي طرحت الفكرة لأول مرة مطلع هذه العام.
وفي حين تجوع غزة تحت الحصار، أعلنت إسرائيل، أنها بصدد تقديم مساعدات إنسانية عاجلة إلى جنوب السودان، فى محاولة لاستخدام ملف المساعدات كوسيلة لتمرير أجندة سياسية ملتبسة، في ظل تسريبات عن وجود “مناقشات” مع جنوب السودان لاستضافة سكان غزة.
دفعت هذه التطورات حكومة جنوب السودان، لإصدار بيان ثانٍ أكثر تفصيلاً وتشدداً، لقطع الطريق على أي تأويلات أو توظيف سياسي.
البيان الثاني لم يكتفِ بالنفي، بل أعلن عن بدء عقد إحاطات إعلامية أسبوعية، في خطوة تستهدف تعزيز المصداقية والرد السريع على الأخبار المتداولة، ما اعتبر بمثابة مؤشر على رغبة الحكومة في تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
وعكس إصدار حكومة جنوب السودان بيانين متقاربين زمنياً حول قضية واحدة حجم الضغوط والجدل الدولي، فالبيانان المتتاليان خلال أقل من أسبوعين، برهنا على شعور الحكومة بحرج دبلوماسي وتهديد لسمعتها، خاصة مع اعتمادها على الدعم الخارجي، حيث لم ترغب في أن تظهر كطرف متواطئ في “مشروع تهجير قسري” مثير للجدل، واستمرار الشبهات عن صفقة سرية مع إسرائيل.
مساعدات مزدوجة
خلال زيارتها إلى جنوب السودان في أغسطس الماضي، أعلنت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية، شارين هاسكل، عن حزمة مساعدات إنسانية بقيمة أقل من 300 ألف دولار، تشمل مواد غذائية وطبية، ما عزز التكهنات بوجود مفاوضات سرية بين البلدين بشأن إعادة التوطين.
ورغم تأكيد هاسكل، أن زيارتها غير مرتبطة بالتوطين، وأن المساعدات تهدف لدعم جنوب السودان في أزمة الكوليرا، فقد اعترض برلمانيون في جنوب السودان، واعتبروا أن “البلاد غير قادرة على إطعام نفسها، فكيف تستقبل نازحين آخرين”.
وتعليقا على هذه الزيارة، قال عضو برلمان جنوب السودان إستيفن لوال، أن الزيارة تمت بحكم العلاقات الديبلوماسية المعروفة، لافتا إلى أن المحادثات اقتصرت على التنمية والتعاون الثنائي بين البلدين، وقال إن العلاقة مع إسرائيل طبيعية، كغيرها من العلاقات الدبلوماسية، وخلص إلى أنه لا اتفاقيات سرية مع إسرائيل بشأن تهجير الفلسطينيين.
تأمل حكومة جنوب السودان، التي تسعى لكسب ود واشنطن في أن ترفع إدارة ترامب عقوبات عليها.
ومع ذلك، روى جو سزلڤيك، مؤسس شركة ضغط أمريكية تعمل مع جنوب السودان، إنه أُحيط علمًا بالمحادثات من قبل مسئولين في جوبا، وكشف عن زيارة وشيكة لوفد إسرائيلي لدراسة إمكانية إنشاء مخيمات للفلسطينيين هناك، ستتكفل إسرائيل بتمويلها.
كما أكد إدموند ياكاني، رئيس مجموعة مجتمع مدني في جنوب السودان أيضًا، أنه تشاور مع مسؤولين حول هذه المحادثات.
دعم ومساعدات
وكان جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” قد دعم المتمردين الجنوبيين خلال حربهم الطويلة ضد حكومة الخرطوم قبل استقلال جنوب السودان عام 2011.
ولم يفلح نفي الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسرائيل زيف في تبديد حقيقة أن إسرائيل قدّمت مساعدات سرية إلى جنوب السودان، ما استدعى فرض عقوبات أمريكية، شملته وثلاث شركات تابعة له، وفقا لوزارة الخزانة الأمريكية، التي اتهمته باستخدام مشروع زراعي كغطاء لصفقات أسلحة بقيمة 150 مليون دولار لحكومة جوبا، وتزويد جماعات معارضة بالسلاح أيضًا.
طبقا للاتهامات الأمريكية، فقد خطط زيف لعمليات تستهدف حقول النفط والبنية التحتية، في محاولة لخلق أزمة، لا يمكن حلها إلا عبره وشركاته، ما أعاد تسليط الضوء على دور إسرائيلي غير معلن في صراعات جنوب السودان، حيث سعت تل أبيب لترسيخ نفوذها عبر الدعم الأمني والمشروعات الاقتصادية.
وتجعل خلفية هذا الإرث، إلى جانب المصالح الأمنية والاقتصادية المتشابكة، من جنوب السودان ساحة محتملة لمشروعات إسرائيلية مثيرة للجدل، من بينها ملف توطين الفلسطينيين.
التحرك المصري
لهذا تحركت القاهرة على نطاق واسع، ومارست ضغوطًا واضحة على جوبا للتراجع عن أي تفكير بهذا الاتجاه، إذ أكدت وزارة الخارجية المصرية، المنخرطة في وساطة سلام إقليمية، على موقفٍ صارم يعارض أي نزوح جماعي بين غزة وجنوب السودان، لحماية الاستقرار الأمني في المنطقة المجاورة وضمان عدم إثارة توترات ديموجرافية “سكانية”، يمكن أن تُستثمر ضد القضية الفلسطينية.
ترى مصر، أن نقل الفلسطينيين خارج أرضهم، خصوصًا إلى دول بعيدة، قد يُضعف الهوية الوطنية وإمكانية العودة، ويمثل عملية تهجير ذات طابع استراتيجي أكثر من مجرد استجابة إنسانية.
كما أن القاهرة، باعتبارها من أول المعترفين باستقلال جنوب السودان وتقيم علاقات اقتصادية وأمنية معها، تستغل نفوذها لضمان عدم تحوّل قضية اللاجئين إلى أداة ابتزاز سياسي، وأن تبقى ضمن الإطار القانوني الدولي.
وفقا لمحللين، تعتمد القاهرة على مقاربة مزدوجة: فمن جهة، تسجل رفضها الرسمي لأي محاولة لفرض تهجير قسري للفلسطينيين خارج غزة، معتبرة أن ذلك “خط أحمر يمسّ الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ويهدد الأمن القومي المصري“.
ومن جهة أخرى، تعمل مصر على توظيف نفوذها في جنوب السودان، حيث تتمتع بعلاقات استراتيجية تشمل التعاون في ملفات النيل والأمن الإقليمي ودعم التنمية والبنية التحتية.
وتأكيدا على أهمية جنوب السودان لمصر في ملف الأمن المائي، باعتباره مسألة وجودية، شملت اتصالات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، مع نظرائه الأفارقة وزير خارجية جنوب السودان، كدولة رئيسية في حوض النيل.
ويتيح هذا الدور للقاهرة ممارسة ضغوط مباشرة وغير معلنة على جوبا، لضمان عدم الانخراط في خطط، قد تُستغل لإضعاف القضية الفلسطينية أو خلق أزمات لوجستية وأمنية في الإقليم.
وكان واضحا أن السلطات المصرية لم تلتزم الصمت، حيال مشاورات إسرائيل مع بعض الدول المستهدفة ومن بينها جنوب السودان، وتحركت عبر اتصالات سياسية مباشرة، بل ونقلت عن هذه الدول رفضها لهذه المخططات.
بحسب مصادر مصرية، كانت القاهرة على اطلاع مسبق منذ أشهر باتصالات إسرائيل مع جنوب السودان، مشيرة إلى ضغطها على جوبا للرفض، حيث تعارض القاهرة بشدة أي خطط لنقل فلسطينيين من غزة.
ورغم نفي حكومة جوبا، فإن حاجتها الماسة للدعم المالي والسياسي، وارتباطها بسوابق التعاون العسكري والزراعي مع تل أبيب، يعزز الشكوك، بأن استهدافها إعلاميا، ليس مصادفة، بل نتاج تاريخ طويل من العلاقات الخاصة.
لكن إنشاء مخيمات لآلاف الفلسطينيين، يتطلب تمويلاً ضخماً وبنية تحتية غائبة في جنوب السودان، كما أن الاختلافات الدينية والثقافية قد تثير توترات ديموجرافية.
عوامل مُثبِطة
ويُصعِب الواقع الداخلي في جنوب السودان، من احتمال استيعابها لأزمة إضافية، فالحرب الأهلية (2013-2020) قتلت حوالي 400 ألف شخص، وشردت 2 مليون داخلياً من أصل 11 مليون نسمة، بينما يعاني 7 ملايين من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
كما أن تفشي الفساد باحتلالها المرتبة 177/180 في مؤشر مدركات الفساد خلال العام الماضى، ووباء الكوليرا الذي أصاب 80 ألف إنسان، وحصد 1400 وفاة، يزيدان الوضع سوءاً، مما يجعل جوبا ساحة للجدل، أكثر من كونها منصة عملية للتوطين وتنفيذ مخطط إسرائيل المحفوف بالمخاطر.