في منتصف سبتمبر 2025، اجتمع قادةُ العرب والمسلمين في العاصمة القطرية الدوحة لإعلان التضامن مع دولة قطر، بعد أن تعرضت سيادتها وهيبتها وكرامتها للإهانة والإذلال في التاسع من الشهر ذاته، حين قصفت النيران الإسرائيلية مبنى يجتمع فيه فريق التفاوض الممثل لحركة المقاومة الإسلامية حماس في العاصمة الدوحة، حيث تساهم دولة قطر بدور كبير- بإذن من إسرائيل وتنسيق رفيع المستوى معه- في إدارة عملية التفاوض المعقدة بين حركة حماس ودولة الاحتلال. 

المجتمعون في الدوحة من قيادات العرب والمسلمين تداعوا للاجتماع على عجلة من أمرهم وفزع في نفوسهم، وقد سيطرت على الاجتماع لحظة تاريخية أسيفة، يعيشها العرب والمسلمون، تمتاز هذه اللحظة بأمرين: جزع شديد، ثم عجز أشد، جزع من جرأة إسرائيل على ضرب دولة قطر جهاراً نهاراً وضرب القانون الدولي عرض الحائط وعدم المبالاة بأي قيمة أو أخلاق سياسية أو أعراف دولية، دولة قطر التي تمثل النموذج الكامل لثمرات حقبة العولمة التي هيمنت على السياسة الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين ثم العقد الأول من القرن الحالي، حقبة العولمة بدأت بإنتاج نموذج دولة قطر- كقوة سياسية إقليمية سريعة التجهيز والتحضير- وانتهت بإسقاط عدد من أنظمة الحكم في الدول العربية الكبيرة وإغراق أكثرها في الفوضى والحروب الأهلية وتعريضها للتفكيك والتقسيم والتفتيت. وبين بداية حقبة العولمة ونهايتها، لعبت دولة قطر دور رأس الحربة التي استخدمتها القوى العالمية في تفكيك وتدمير وتخريب العالم العربي الذي كان قائماً حتى غزو العراق للكويت 1990، ثم سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الكتلة الشرقية 1989- 1992، ثم انسياق العرب إلى مدريد 1991، ثم أوسلو 1993، ثم انفتاح كافة أبواب العالم العربي لقوى العولمة مع منتصف التسعينيات من القرن العشرين، حيث تم الالتفاف على الدول العربية من أعلاها ومن أسفلها ومن خارجها ومن داخلها، وجرت عملية منظمة قوية عنيفة لنحر سيادتها سواء بالتنازل عن بعض السيادة لقوى العولمة سواء صندوق النقد أو البنك الدولي أو منظمة التجارة العالمية أو الشركات الكبرى العابرة للقارات، أو بالتنازل عن بعض السيادة أمام غزو التمويل الأجنبي للداخل، والذي استهدف إنشاء مراكز قوة سياسية داخلية، تنحر سيادة الدولة من الداخل سواء صحف وقنوات تحتمي بحرية التعبير أو جمعيات مدنية وحقوقية تحتمي بحرية التنظيم، ثم الدولة نفسها قبلت على نفسها، أن تتنازل عن الكثير من سيادتها- في مصر على سبيل المثال- عندما اتجهت لصندوق النقد الدولي مع مطلع التسعينيات، وقبلت الخضوع الطوعي للضغوط التي يمارسها، فاتجهت تتخلص من القطاع العام، وتفتح الباب لنشأة طبقة رأسمالية سريعة التجهيز والتحضير، نزلت الدولة بإرادتها عن مستوى الدولة، وباتت رأسها برأس قوى العولمة في الداخل والخارج، باتت الشركات الدولة ذات المصالح في مصر دولة داخل الدولة، باتت جمعيات ومنظمات وصحافة وإعلام رجال الأعمال دولة داخل الدولة، وفي هذه الأجواء باتت قوى الإسلام السياسي بحضورها الجماهيري الواسع دولة داخل الدولة، وخلاصة القول: عشرون عاماً من العولمة كانت كافية لقيادة الدول العربية الكبيرة إلى السقوط الكامل، تبدأ بسقوط الأنظمة ثم تنتهي بسقوط الدول ذاتها؛ لتعيش بعد ذلك مجرد مزق وأشلاء، تفتقد للوحدة والمركزية، وتعجز عن بسط سلطة القانون.

دولة قطر في هذا السياق ، كانت النموذج المعاكس تماماً، لم يكن مطلوباً تفكيكها ولا هدمها، فهي أصغر بالجغرافيا والسكان، من أن تحتمل تفكيكاً أو هدماً، ما دامت هي نموذج مثالي للدولة متناهية الصغر، كان المطلوب من قطر هو نوع من معجزات العولمة، وهو: التجهير الفوري والتحضير السريع والإعداد العاجل لدولة متناهية الصغر لتلعب في الإقليم دور الدولة متناهية الكبر، وقد أدت قطر الدور بكفاءة عالية من منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، حين تأسست قناة الجزيرة؛ لتكون على مدى ثلاثين عاماً أقوى وأخطر وأخبث وأمكر وأمهر وأكفأ مدفعية إعلامية، عرفها العالم العربي والشرق الأوسط في التاريخ الحديث والمعاصر كله، إذ فاقت وتفوقت كثيراً جداً على إعلام الدولة الناصرية في ذروة مجد عبد الناصر والقومية العربية، شاركت قطر- كدولة عولمة مصنوعة على عجلة من أمرها ومنفوخة الدور، كأنها دولة متناهية الكبر- في تدمير العالم العربي، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، شاركت بالدبلوماسية المتآمرة، وبالمدفعية الإعلامية الجبارة، وبالقاعدة العسكرية الأمريكية على أرضها، وبالوفورات المالية الأسطورية، فعلت دولة قطر كل ذلك، ولم يرمش لها جفن، ولم يقلق لها ضمير، ولم يضعف لها قلب؛ لأنها كانت على يقين، أنها محمية من القلعتين العظميين: القلعة الإسرائيلية هنا في الإقليم، ثم القلعة الأمريكية التي تحيط بالعالمين بترسانتها غير المسبوقة في التاريخ، بما فيها ترسانة عظمى فوق الأرض القطرية ذاتها، لكن بعد ثلاثة عقود من لعب قطر هذا الدور المرسوم، ثم بعد ثلاثة عقود من اطمئنانها للحماية والحصانة والمناعة، بوغتت بالضربة، تطعن قلبها من أقرب الأقربين من إسرائيل ذاتها التي كانت قطر تستهدف إرضاءها في كل ما تفعل من تدمير وتخريب وتفكيك في العالم العربي وبالذات الدول الكبيرة، حتى لم يبق في العالم العربي غير جيش واحد فقط في مواجهة إسرائيل، وهو الجيش المصري الذي لم يسلم هو الآخر من الأذى القطري، حيث كانت قناة الجزيرة قد سلطت أبواقها عليه، تنال منه قبل أكثر من عشر سنوات لصالح قوى الإسلام السياسية حليفة قطر طوال الثلاثين عاماً.

ضرب إسرائيل لمنشآت في دولة قطر ليس فقط مجرد إهانة وإذلال وتهزيء علني مبثوث على الهواء مباشرة، حيث دار الزمان، وحيث جار الزمان، وحيث شفى الزمان غليله، وهو يسمع ويشاهد قناة الجزيرة، وهي تبث النار والدخان والخراب، ليس من العواصم العربية التي تكفلت قطر بالمشاركة في تخريبها، ولكن من الدوحة العاصمة التي كانت تبدو للعالم قلعة حصينة منيعة أبدية الحماية والحصانة والمناعة، حتى قصفها الإيرانيون في 23 يونيو، ثم قصفها الإسرائيليون في التاسع من سبتمبر من العام ذاته، الضربة الإيرانية ينطبق عليها وصف الإهانة والإذلال والتهزيء فقط، لكن الضربة الإسرائيلية فيها كل ذلك، ثم تزيد عليه ما هو أهم من ذلك: إشعار علني للإقليم وللعالم، بأن دور قطر- الدولة المتناهية الكبر في الإقليم- انتهى ولم يعد له لزوم بشكله الحالي، وكل ما تطلبه إسرائيل من مثل قطر، لو كان لها طلب، هو الامتثال الكامل للأوامر الإسرائيلية، ثم التنفيذ المطيع دون اجتهاد ودون تمثيل دور الشريك ودون قناع الدولة المستقلة ودون مناورة ودون لعب على الحبال، فكل هذه كانت من الماضي، كانت قبل الطوفان والإبادة، الآن إسرائيل بصدد تشكيل شرق أوسط جديد وعلى حلفائها- لو كانوا حقاً مخلصين- أن يتكيفوا بسرعة مع المطلوب منهم، الأدوار القديمة التي سمحت بها إسرائيل في الثلاثين عاماً من منتصف تسعينيات القرن العشرين حتى التاسع من سبتمبر 2025، انتهت تماماً ولم يعد لها لزوم، الأدوار المطلوبة الآن من أصدقاء إسرائيل من العرب والمسلمين، هو قبول وتقبل ما انعقدت عليه عزمات إسرائيل، وهو التصفية النهائية الحاسمة للقضية الفلسطينية، فلا قضية فلسطينية، ولا مقاومة فلسطينية، ولا دولة فلسطينية، هذه هي جوهر المشروع الإسرائيلي لشرق أوسط جديد، خال من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بعد تصفية كل ما هو فلسطيني الضمير والروح والهمة والعزيمة والضمير، ولا مانع من أي فلسطيني منزوع النخوة والمروءة، وساقط الهمة يقبل بالسيادة الإسرائيلية، ويخضع عليها وتخلي عن أي حلم فلسطيني، يراوده في اليقظة أو في المنام.

بكل يقين، فإن عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ثم الطموح الإسرائيلي؛ لتكون تاج الشرق الأوسط وسيده الأعلى، ثم حرية الحركة التي تتمتع بها العسكرية الإسرائيلية في توجيه نيرانها، إلى حيث شاءت في عموم الأرض العربية والإسلامية قريبها وبعيدها، كل ذلك خلق حالة من الجزع العام، فلم تسلم من الخطر أكبر ثلاث قوى في الإقليم، إذ قصفت إيران في قلب دارها، وتتحرش بمصر على حدودها، وقصفت تركيا في مناطق نفوذ تركيا في سوريا، بعد أن كان هناك توافق تركي إسرائيلي على مناطق النفوذ في سوريا قبيل هروب الأسد في 8 ديسمبر 2024، كل ذلك خلق حالة من الجزع العام سواء لدى الحكام أو المحكومين في عموم العالمين العربي والإسلامي، لكن هذا الجزع العام ليس أكثر من فزع قلوب وخواطر، لا يتعدى دائرة العواطف الساخطة والمشاعر الغاضبة، وما زال العجز العام هو الأمر الواقع، عجز كلي شامل عن الفعل الحقيقي على الأرض، إسرائيل وحدها تملك الإرادة، وتملك الخطط والرؤى والمشاريع، كما تملك الإقدام والمبادرة، ثم في نهاية المطاف تملك جسارة التنفيذ.

معادلة الجزع العام- العجز العام هي القاعدة الحاكمة للإرادة العربية الإسلامية، منذ اندلعت حرب طوفان الأقصى، ثم حرب الإبادة من خريف 2023 حتى خريف 2025، يجتمع القادة العرب والمسلمون، وكأنهم لم يجتمعوا، اجتماعات فاقدة للهيبة والقيمة والاحترام والاعتبار، وينظر لها العدو بعدم مبالاة، فهو يعلم أنها تبدأ عند نقطة الصفر، وعندها تنفض وتنتهي.

نحن- العرب والمسلمين- في حالة ضعف واضمحلال حضاري شامل وكامل، ندفع فواتير سياسات خاطئة، وقعنا فيها، ونحن نظن أننا نحسن العمل، سياسات داخلية طغيانية فكافة شعوب العروبة والإسلام محرومة من الحقوق والحريات المدنية، شعوب يتم تسخيرها في آلة الدولة، والدولة يتم تسخيرها لخدمة الحكام، والحكام جزء بنيوي خادم، وتابع في هيكل المصالح الدولية سواء مصالح حكومات أجنبية عظمى أو مصالح قوى مالية كبرى، بلادنا تفتقد أبسط المقومات: حرية البحث العلمي والتفكير واستقلال الجامعات، حرية التعبير والصحافة والإعلام ، عدالة التقاضي واستقلال القضاء ، مساءلة ومحاسبة ومحاكمة الحكام وأصحاب القرار ، بلادنا ذات محتوى طغياني ومضمون استبدادي يسحق همة الشعوب ويطفئ أنوارها، ويقتل فيها روح المبادرة، ويشل فيها روح الإقدام والاقتحام، الحكام يكبلون الشعوب تكبيلاً جماعياً، ثم النظام الدولي والمصالح الدولية تكبل حكامنا تكبيلاً جماعياً، الشعوب من قهر الحكام فهي لا تملك أمرها، والحكام من قهر النظام الدولي لا يملكون أمرهم. هذا هو سر حالة العجز التام عن الفعل التي تميز كل شعوبنا وحكامنا ودولنا، إلا مع استثناءات جزئية هامشية محدودة، تملك فيها بعض دولنا القدرة على بعض المناورة مثل مصر وإيران وتركيا.

أول الطريق: تصفية ميراث العولمة، فهي رغم أنها لم تعمر أكثر من عقدين، كانت أسوأ أثراً من أحقاب الاستعمار ذاتها، فقد شوهت البلدان من داخلها، حتى جعلت الدولة مجرد طرف من أطراف داخلية متنازعة متصارعة، كل منها يرى نفسه دولة داخل الدولة، حتى تساقطت أهم الدول العربية في العقد الثاني من القرن الحالي. كما عمدت إلى تشويه الإقليم وحصار العرب بالذات، حاصرت العرب من خارجهم بتعظيم دور إيران، وهي أقلية شيعية في محيط سني زاخر ، ثم تعظيم دور تركيا، وهي أقلية لغوية في محيط عربي زاخر، ثم من داخله عظمت دور قطر التي لم تكن عند غزو العراق للكويت قد أتمت العشرين من عمرها كدولة مستقلة، وعندما بدأت دورها المرسوم لها عند منتصف التسعينيات من القرن العشرين، كانت قد تجاوزت الخامسة والعشرين بقليل، ثم لما تم تتويجها بدور عظيم متفرد في الشرق الأوسط، كانت قد تحولت من مجرد قبيلة هاجرت من نجد إلى جزيرة قطر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وقد عاشت القبيلة من مطلع القرن العشرين في حماية الإنجليز، ثم حصلت على الاستقلال منحة، ثم في الثلاثين عاماً الأخيرة، باتت كأنها قوة إقليمية عظمى، نموذج قطر ورحلتها من قبيلة مهاجرة إلى قوة إقليمية زاعقة التأثير، تستحق المزيد من التفكير، فهي رحلة مثيرة، عمرها لا يزيد عن قرن ونصف قرن من الزمان إلا قليلاَ.

………………………….

الرد على إسرائيل لا يحتاج اجتماعات ولا خطب. 

لكن يحتاج مشروعاً مضاداً.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.