إنها مأساة متكاملة الأركان، تنذر بأوخم العواقب على الإقليم كله.
فشلت قمة الدوحة في ردع العدوانية الإسرائيلية بأية درجة، أو على أية صورة.
أفرطت في الإدانات الشفاهية، دون إجراءات عملية توقف استباحة الدول العربية، واحدة تلو الأخرى، أو كلها مرة واحدة.
بجملة واحدة، واضحة ومختصرة، لخص الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير “حسام زكي” الصورة المحزنة، التي انتهت إليها القمة بوصف الفقرة الأكثر جوهرية في البيان الختامي بأنها: “ليست إلزامية”.
دعت تلك الفقرة بالحرف إلى “مراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل ومباشرة الإجراءات القانونية”.
إذا لم تكن هناك مراجعة للسياسات، التي أفضت إلى الاستباحة الكاملة، فلا معنى لأية رهانات على أي تغيير محتمل في حسابات، وموازين القوى تضع حدا للعدوانية الإسرائيلية وخططها في التوسع والاستيطان والتهجير القسري!
الكلام بنصه ورسائله أقرب إلى حكم بالإعدام الأدبي على فكرة العمل المشترك والجدوى من القمة.
وإذا لم تكن القرارات، التي صدرت عن القمة، ملزِمة فما معنى انعقادها أصلا عقب عدوان همجي على دولة، تستضيف مفاوضات مطولة للتوصل إلى اتفاق يوقف إطلاق النار.
استبيحت القواعد والأصول والقوانين الدولية، كأن إسرائيل فوق المساءلة.
أسوأ ما جرى في القمة العربية الإسلامية، أنها استهلكت طاقة الغضب بكلمات إدانة عجزت رغم قوة أغلبها، أن تغير معادلة واحدة، أو توحي بشيء من الجدية.
بدا كل غضب شكليا تماما وكل إدانة كأنها طلقات في الفراغ.
لم تأبه العدوانية الإسرائيلية، لمقررات القمة، ولا أخذتها على محمل الجد.
في اليوم التالي، ردت على ضعفها الظاهر بـ”هجوم جوي” واسع ومدمر على ميناء الحديدة اليمني، لإسكات مصدر الإزعاج الوحيد.
كانت تلك رسالة ساخرة من القمة العربية الإسلامية، التي التأمت وانفضت، دون أن تترك أثرا يوضع في أي حساب.
باليوم التالي وسعت إسرائيل العملية البرية في غزة، التي تستهدف جعل الحياة مستحيلة فيها، حتى يكون ممكنا المضي قدما في مشروع التهجير القسري إلى سيناء.
إجبار الفلسطينيين العزل على النزوح جنوبا خطوة مقصودة وممنهجة لوضع مصر أمام أمر واقع، أن تقبل بالتهجير، أو أن تواجه خيار الحرب.
مصر في قلب الاستهداف.
هذه حقيقة لا ينبغي إنكارها.
في قمة الدوحة تناثرت دعوات لتشكيل تحالف إسلامي واسع لمواجهة التحديات الأمنية الماثلة، لكنها لم تجد ما يمكن أن يجعلها حقيقة.
تبددت سريعا دعوة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لتعاون واسع في الصناعات العسكرية، كأنه لم يقل شيئا!
تحت الخطر الداهم وصف الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” إسرائيل بـ”العدو”.
كان ذلك تغيرا لافتا في لغة الخطاب الرئاسي المصري منذ زيارة الرئيس الأسبق “أنور السادات” إلى القدس عام (1977).
بالوقت نفسه دعا “السيسي” الرأي العام الإسرائيلي، أن يتحرك، ويضغط حتى لا يتزعزع الاستقرار الإقليمي.
“لا تسمحوا بأن تذهب جهود أسلافنا من أجل السلام سدى، ويكون الندم حينها بلا جدوى”.
العبارة الأخيرة تحتاج إلى إعادة نظر جوهرية، لما جرى لمصر على مدى ثمانية وأربعين عاما، قيدت إرادتها وهمشت أدوارها حتى وصلنا إلى حافة الإذلال المقصود، ضياع سيناء والقضية الفلسطينية معا.
لا أحد يريد الحرب، لكنها قد تفرض على مصر.
استبعاد هذا السيناريو خطيئة كبرى.
نحن أمام منحنى خطر، أن نكون أو ألا نكون.
ليس أمامنا غير أن نثق بأنفسنا، ونصحح أوجه الخلل الفادحة في بنيتنا السياسية والاجتماعية.
ليسوا أقوياء إلى حد التغول علينا.
ولسنا ضعفاء إلى حد تعمد إذلال أكبر وأهم دولة عربية دون قبول التحدي إلى منتهاه، أيا كانت النتائج والعواقب.
مصر ليست دولة صغيرة.
أسوأ ما قد يحدث، الرهان على الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.
لم يكن ممكنا، أن يحدث الهجوم الإسرائيلي على الدوحة دون ضوء أخضر أمريكي مسبق.
في قمة الدوحة، كما في اجتماع مجلس الأمن غابت أية إشارة للتواطؤ الأمريكي، الذي ينزع أي احترام، أو صدقية عن قوة، يفترض أنها عظمى!
في الاجتماعين تكررت ذات الأجواء والحسابات.
إدانة عالية النبرة في كلمات الوفود، ورخاوة في البيان الرسمي.
لم يدن البيان الصحفي الصادر عن مجلس الأمن إسرائيل بالاسم.
ولم تعكس مقررات البيان الختامي للقمة، ما تردد فيها من إدانات غاضبة.
قطر ليست هي القضية.
الإقليم كله مهدد في صميم وجوده.
الاجتماعان الدولي والإقليمي تجاهلا عمليا الرسالة بالغة الخطورة في الهجوم الإسرائيلي.
جرى التركيز بضغوط أمريكية غير خافية على تهدئة المخاوف القطرية المشروعة؛ بهدف إعادتها بأسرع وقت ممكن إلى أدوار الوساطة، في مفاوضات لا سقف لها ولا جدوى منها.
في لحظة القمة زار وزير الخارجية الأمريكي “ماركو روبيو” تل أبيب، قبل أن يذهب إلى الدوحة باليوم التالي.
تماهت رؤيته مع الرواية الإسرائيلية، كأنه وزير خارجيتها والمتحدث باسم حرب الإبادة، التي تشنها على الفلسطينيين العزل في غزة.
بدت تصريحاته كأنها صدى لتهديدات “ترامب” بإحالة غزة إلى جحيم، إذا ما استخدمت “حماس” الرهائن الإسرائيليين دروعا بشرية!
أي جحيم أكثر مما يحدث الآن من تقتيل جماعي وتجويع منهجي، وهدم ما تبقى من عمائر وأبراج وأي مظهر للحياة.
“أمام حماس مهلة قصيرة لوقف إطلاق النار، تستغرق أياما أو بضعة أسابيع، وليس شهورا”.
كان ذلك إنذارا عسكريا بارتكاب جرائم حرب أكثر توحشا على لسان وزير الخارجية الأمريكي.
المثير هنا، أن يطلب من قطر أن تعاود دور الوساطة، الذي وصفه بالمحوري، لإعادة الأسرى الإسرائيليين، وإنهاء وجود “حماس” ككيان مسلح!
القطريون يستشعرون الحرج، لكنهم قد يدفعون إلى نفس الأدوار القديمة.
الإمعان في إذلال كل ما هو عربي واستباحة الوجود الإنساني كله نفسه، يستدعي أن تلتفت مصر قبل غيرها إلى الأخطار المحدقة، التي تتهددها في صميم مستقبلها ووجودها.
يجب ألا تنسى أبدا، أنها الدولة المفتاح في المنطقة كلها، إذا تهاوت سقطت المنطقة معها، وإذا أعلنت المقاومة تتغير كل المعادلات.