نشرت الجريدة الرسمية في عددها رقم 35 مكرر بتاريخ الأول من سبتمبر الجاري القانون رقم 172 لسنة 2025 بتنظيم مرفق المياه والصرف الصحي، وهذا القانون من أواخر إنتاجات مجلس النواب الأخير، ومحل العرض هو ما جاء بنص المادة 73 من هذا القانون، وما بها من عجب عجاب، حيث جاء نصها، على أن يعاقب بغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد عن خمسمائة ألف جنيه كل من روج بأي وسيلة كانت شائعات أو معلومات غير صحيحة، تتعلق بجودة مياه الشرب، وكان من شأنها تكدير السلم العام أو الأمن الاجتماعي.


فهل من المعقول أن يتم كتمان الحق في التعبير، وبشكل أخص الحق في النقد إلى هذه الدرجة، وفق هذا الاستحداث التجريمي، وفق نسق تشريعي لا مثيل له من زاويا متعددة، بخلاف الصياغة المفتوحة التي احتوت على عبارات السلم العام والأمان الاجتماعي، وهاتين العبارتين لا يستطيع أحد وضع معيار منضبط لهما كتعريف، يصلح أن يكون محلا للتجريم، ومن ثم محلا للعقاب، إذ أن هاتين الجملتين لا يقف لهما تعريف واحد، ولا يستقل بهما معنى واضح له حد منضبط، وبالتالي فمن السهل، أن يتم إيقاع العديد من المواطنين تحت نطاق الجريمة وفق هاتين العبارتين دون أي عناء، وهو الأمر الذي لا يتفق مع المعايير العلمية الجنائية في نطاق الجريمة والعقاب.


إذ أن القوانين الجزائية من الأمور المسلم بوجودها، ما بقيت المجتمعات، لكون الجريمة، وهي تلك التي تمثل خرقاً لقواعد المجتمع، وخروجاً عن قواعده، ومن ناحية ثانية، تمثل عدواناً على حقوق الأفراد، وقيم المجتمع، وإجمالاً يمكن اعتمادها على أساس كونها إخلالا بتوازن المجتمع، وبالتالي يصبح القانون الجنائي هو النموذج الأمثل للدول لعلاج ومجابهة هذه الاختلالات المجتمعية، وذلك سعيا لإيجاد حالة من التوازن بين شطط الحريات الفردية وأنانية المواطنين، وبين المصلحة المجتمعية العليا، وتعد السياسة الجنائية لأي دولة هي المعنية بمواجهة كل أشكال التمرد الفردي على القيم الأساسية التي يقوم عليها التعايش السلمي في المجتمع، ومن ثم تحجيم أثره وفرض العقاب عليه من خلال ما يعرف بتقنيات التجريم والعقاب، لكن هذه التقنيات لا بد من أن تكون معقولة ومتوازنة وقابلة للمراجعة المستمرة، وحسب ما تقتضيه التطورات التي يشهدها المجتمع، وخاضعة بشكل رئيس لمقتضيات دولة القانون ومبدأ سيادة القانون، والمتمثل في عدم الخروج عن القواعد الدستورية العليا.


ومن زاوية أخرى، فإن حرية التعبير من الحريات العمومية التي لا يجوز تقييدها إلا وفق أسس منضبطة، وفي أضيق الحدود، بما لا يعطلها عن ممارسة وظيفتها، أو يحد من قيمتها الحقيقية ودورها الاجتماعي، ذلك ومن أجل ضمان استقرار المعاملات داخل المجتمع، كان لا بد من تحديد نطاق ممارسة حرية الرأي، بحيث إنه لو مورست هذه الحرية وفق هذا النطاق لا يمكن معاقبة ممارسيها على أي جريمة، حيث تمثل حرية الرأي والنقد من الحريات العمومية التي تكفلها الدساتير، وتضمنها كافة مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان، حيث يمثل الحق في النقد سببا من أسباب الإباحة في الجرائم القولية وأهمها القذف والسب، ويعني ذلك أن الفعل ينطبق عليه بداءة وصف التجريم، باعتباره مشكلاً للقذف أو السب أي أنه ينطوي على إسناد واقعة تستوجب عقاب المسند إليه، إذا كانت صحيحة، كما أن التوسع في نطاق التجريم، فيما يتعلق بممارسة حرية التعبير، يشكل قيدا على ممارسة تلك الحرية، ذلك إذ أن النقد والنقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به والحط من كرامته، وكما ورد في حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن 42 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية أن الحق في النقد– وخاصة في جوانبه السياسية– يعتبر إسهاما مباشرًا في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديمقراطية، وحائلا دون الإخلال بحرية المواطن، في أن “يعلم”، وأن يكون في ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومي، قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه. على أن يكون مفهوما، أن الطبيعة البناءة للنقد– التي حرص الدستور على توكيدها– لا يراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التي تعارضها؛ لتحدد ما يكون منها في تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة، أن تصادر الحق في الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة. وما رمى إليه الدستور في هذا المجال، هو ألا يكون النقد منطويا على آراء، تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة.


ونجد من زاوية مغايرة وأكثر عمومية، أن القانون بشكل عام لا بد وأن يعمل على توفير الظروف الملائمة للفرد في ممارسة نشاطه، واستثمار وجوده في المجتمع لتحقيق مصالحة عن طريق مد جسور التعاون مع بقية أفراد المجتمع من خلال بناء العلاقات المتنوعة، وتبادل المنافع عن طريق رسم وتوضيح نطاق العلاقات والمعاملات بين الأفراد، فالقانون يبين لكل فرد ماله من حقوق وحريات، وما عليه من واجبات والتزامات تجاه المجتمع وأفراده، ولا يجيز لأي فرد تعدي حدود حقوقه وحرياته، ويلزمه بأداء واجباته وما عليه من التزامات تجاه المجتمع وأفراده، فهو ينظم أطراف العلاقة، ويسمح للجميع من تحقيق أهدافه ومصالحة دون أدنى تعارض، فلا يسمح لتداخل الحريات وجحد الالتزامات، ويمنع تعدي القوي على الضعيف، فقيام القانون ببيان حدود الحريات وأنشطة الأفراد وضمان نمط سلوكهم الاجتماعي، وإعمال الجزاء في من يمس بهذه الأسس من خلال السلطة العامة المختصة، يحقق الطمأنينة والاستقرار لدى الأفراد، والذي تنعكس نتيجته على المصلحة العامة للمجتمع، فيتحقق الأمن والنظام في المجتمع، وهذا يشجع الأفراد على الانصراف لممارسة نشاطهم وحرياتهم وتوطيد سبل التعاون بينهم.


وإذا كان الحق في حرية الرأي هو حق مطلق، لا يجوز تقيده بأي قيود كانت، فلا يحق لأي أحد، مهما كانت سلطته ومكانته الروحية والاجتماعية والسياسية، أن يمنع الآخرين من التفكير في الأشياء، إيجابا أم سلبا، لأن الحق في حرية الرأي هو قضية تتعلق بالإنسان نفسه، ولا تتعدى غيره، وما زالت كذلك؛ فلا يجوز تقيدها أو الحد منها، بل لا يمكن تصور تقييدها أو حدها إلا بموت الشخص نفسه. ويمكن تغيير أفكار الآخرين بالمنطق والعقل والحجة فقط.


هذا جميعه ما يجعلنا نتساءل عن الهدف من وراء تضمين هذا القانون لذلك النص، وما العلة التي تستوجب وجوده على الرغم من تعارضها مع العديد من الأسس الدستورية أو الحقوقية، التي يعلمها جيدا صناع هذا القانون.