يواجه السودان في مرحلته الراهنة تحديات مركبة، تتجاوز الطابع العسكري المباشر للصراع، لتشمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية، تهدد بتقويض أسس الدولة الوطنية. وفي هذا السياق، تكتسب مبادرة الرباعية التي أطلقتها كل من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر “وهي الدول نفسها المشكلة للمجموعة الرباعية الدولية المعنية بالأزمة في السودان” أهمية خاصة، باعتبارها أول إطار إقليمي ـ دولي يحاول الجمع بين البعد الإنساني العاجل والبعد السياسي الاستراتيجي. المبادرة لا تأتي بمعزل عن التحولات الإقليمية والدولية، بل تعكس إدراكاً متزايداً، بأن استمرار الحرب لا يهدد السودان وحده، وإنما ينعكس مباشرة على استقرار الإقليم وأمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ومن ثم، فإن أسس إنجاح المبادرة لا بد أن تنطلق من فهم ديناميات الصراع الداخلي وتوازنات القوى الإقليمية وحدود قدرة المجتمع الدولي والإقليمي، على فرض ترتيبات تضمن الانتقال نحو وضع مدني أكثر استقراراً.
مبادرة الرباعية تمثل فرصة نادرة لوقف الحرب في السودان، باعتبار الخريطة التي أعلنتها بهدنة إنسانية أولية لثلاثة أشهر، يليها وقف دائم لإطلاق النار، ثم فترة حكم انتقالي مدته تسعة أشهر. نجاح هذه المبادرة يتطلب توافقاً داخلياً والتزاماً إقليمياً ودولياً وآليات تنفيذ واضحة. هنا نسعى إلى تحديد ما يجب القيام به لضمان تحول المبادرة إلى مسار عملي باستعراض أبرز التحديات التي تواجهها، والحلول المقترحة لتجاوزها .
انعدام الثقة وتشابك المصالح في المشهد السوداني
يواجه مسار الرباعية مشكلات جوهرية، تبدأ بانعدام الثقة بين الأطراف المتحاربة، إذ تستمر المعارك بهدف التوسع والحفاظ على المكاسب العسكرية، ما يجعل الالتزام بأي هدنة محفوفاً بالشكوك، وهو العقبة المركزية أمام أي مسار تفاوضي في السودان، إذ لم يعد الأمر مقتصراً على شكوك متبادلة عابرة، بل تحوّل إلى بنية متجذرة، تغذيها التجارب السابقة والفجوة العميقة في الرؤى والأهداف. فالقوات المسلحة ترى في قوات الدعم السريع مشروعاً، يهدد وجود الدولة ذاته، وتتعامل مع أي هدنة باعتبارها فرصة محتملة لخصمها لإعادة التموضع، بينما ينظر الدعم السريع إلى الجيش كخصم، يسعى إلى إقصائه نهائياً وإعادة إنتاج النظام القديم عبر تحالف مع القوى الإسلامية. هذه الرؤية الصفرية تجعل من أي التزام بوقف إطلاق النار هشّاً بطبيعته، وتحوّل كل جولة مفاوضات إلى معركة حول النيات بقدر ما هي حول الوقائع، ويزداد هذا الانعدام للثقة تعقيداً؛ بسبب التجارب الفاشلة السابقة. فالمفاوضات التي رعتها أطراف إقليمية ودولية منذ اندلاع الحرب، كثيراً ما انتهت بانهيار الهدن في أيامها الأولى، ما رسّخ قناعة لدى كل طرف، بأن الآخر يستغل أي اتفاق لمكاسب تكتيكية. كما أن الفاعلين العسكريين طوروا خطابات دعائية متبادلة، تصوّر الخصم كخائن أو عميل لقوى أجنبية، وهو ما يقلل من فرص بناء أرضية مشتركة.
كما نشأت شبكات اقتصادية معقدة من رجال أعمال وشركات مستفيدة من الحرب، تخشى أن يؤدي توقفها إلى خسارة مكاسبها غير المشروعة. وفي هذا السياق، يكتسب القرار الصادر عن بنك السودان المركزي في 14 سبتمبر 2025 أهمية خاصة، حيث نصّ على قصر شراء الذهب الحر الناتج عن التعدين الأهلي، وذهب شركات مخلفات التعدين داخل البلاد على البنك أو من يفوضه، مع حصر تصدير هذا الذهب بالبنك المركزي وحده، ومنع أي جهة أو فرد من تصديره مباشرة. هذا القرار يعكس محاولة رسمية لإعادة ضبط واحدة من أهم القنوات الاقتصادية التي غذّت اقتصاد الحرب خلال الفترة الماضية، إذ شكّل الذهب مصدراً رئيسياً لتمويل الشبكات المسلحة وشركات الوساطة المرتبطة بها. لكنه في الوقت نفسه يطرح تساؤلات حول قدرة الدولة على فرض مثل هذا الاحتكار في ظل استمرار الانقسام السياسي والعسكري، واحتمال لجوء الفاعلين المسلحين إلى قنوات التهريب العابرة للحدود الأمر الذي قد يضعف فعالية القرار، إذا لم يقترن بترتيبات أمنية وإقليمية متينة.
في الجانب السياسي، تمثل الحركة الإسلامية أحد أبرز عوامل التعقيد، حيث حاولت الاستفادة من الحرب لإعادة السيطرة على الدولة عبر المجموعات المسلحة التي جندتها ومنحتها امتيازات اقتصادية واجتماعية، تجعل من تفكيك نفوذها مهمة بالغة الصعوبة. وقد أشار البيان الرباعي بشكل مباشر إلى خطورة الدور الذي تلعبه هذه الحركة وشبكاتها العسكرية، مؤكداً أن مستقبل السودان لا يمكن أن تحدده جماعات عنفية مرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين، وهو ما يعكس موقفاً دولياً واضحاً بعدم القبول بإعادة إنتاج الإسلام السياسي عبر أدوات عسكرية. غير أن هذا الموقف، على أهميته، قد يفتح مساراً مزدوجاً، فمن جهة يضع قيوداً على عودة الحركة الإسلامية إلى قلب المشهد، ومن جهة أخرى قد يدفع بعض أجنحتها إلى تعزيز تحالفاتها الميدانية، أو الاستثمار في خطاب تعبوي معادٍ لأي تسوية سياسية الأمر الذي يستدعي إدارة دقيقة للرسائل والسياسات المرتبطة بالاستبعاد والاحتواء.
في هذا السياق تبرز أهمية انعقاد مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية الثاني في القاهرة كأحد التطورات البالغة الأهمية، إذ يعكس وجود إرادة متنامية لتوحيد موقف القوى السياسية المدنية وتقديم بديل سياسي واضح في مواجهة عسكرة المشهد. أهمية هذا المؤتمر لا تكمن فقط في كونه منصة تجمع طيفاً واسعاً من القوى السياسية والمدنية، بل في أهمية توقيته الذي يأتي متوازياً مع الضغوط الدولية والإقليمية لوقف الحرب وإطلاق مسار انتقالي. وإذا نجح المؤتمر في بلورة رؤية موحدة وآلية تنسيقية، فقد يمثل رافعة سياسية قوية للمبادرة الدولية، ويعزز شرعية أي اتفاق قادم من خلال توفير قاعدة مدنية صلبة، تتحدث بصوت واحد. لكنه في المقابل سيواجه تحديات حقيقية، أهمها عمق الانقسامات الأيديولوجية بين مكونات المعارضة وحذر بعض الأطراف الإقليمية من أي مخرجات، قد تعيد إحياء نفوذ قوى بعينها، إضافة إلى أن بعض الفصائل العسكرية قد ترى في هذا المسار المدني تهديداً مباشراً لمصالحها الاقتصادية والسياسية.
من جهة أخرى، يظل ملف العدالة محورياً بالنسبة للمواطنين الذين عانوا من انتهاكات جسيمة على يد قوات الدعم السريع، حيث يرون أن استئصال هذه القوات يمثل شرطاً لا غنى عنه لتحقيق السلام، وهو ما يعقد عملية المصالحة. أما القبائل التي جندها الدعم السريع فقد دفعت ثمناً باهظاً بقتل أبنائها، فدخلت الحرب بدوافع ثأرية، كما أن استمرار القتال وفر لها فرصاً للانتفاع الاقتصادي ما يجعلها أقل استعداداً للتخلي عن السلاح. سياسياً، يبرز الرفض من الحزب الشيوعي وبعض القوى اليسارية لبيان الرباعية، إذ يرون فيه تعزيزاً لمكانة خصومهم في القوى المدنية، وهو ما يدفعهم إلى اتخاذ موقف معارض للمبادرة.
في السياق السوداني تبدو الحاجة ماسة إلى توحيد القوى المدنية على رؤية مشتركة للانتقال وإلزام الأطراف العسكرية بوقف إطلاق النار، والامتناع عن استغلال الهدنة لإعادة التموضع. كما أن إشراك المجتمع المدني من نساء وشباب ونازحين يشكل عنصراً ضرورياً من أجل تعزيز الشرعية الشعبية لأي اتفاق قادم. أما الرباعية نفسها فعليها، أن تضمن وحدة مواقفها ورسائلها لتفادي أي استغلال للتناقضات، وأن تربط دعمها الاقتصادي والسياسي بالتزام الأطراف بالاتفاقات، مع استخدام أدوات العقوبات عند الضرورة، فضلاً عن توفير ضمانات إنسانية وأمنية واضحة خاصة بممرات الإغاثة. وعلى المستوى الإقليمي والدولي، تبرز أهمية إشراك الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد “الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا” لتوسيع قاعدة الشرعية وتعزيز ثقة الأطراف في العملية.
مقاربة لتحويل التحديات إلى فرص لبناء السلام حقيقي
تعتمد جدوى مبادرة الرباعية بشأن السودان على قدرة الوسطاء الإقليميين والدوليين على إدارة ثلاثية شديدة التعقيد، تجمع بين استعادة الثقة المفقودة بين الأطراف المتحاربة، وإعادة ضبط بنية الاقتصاد السياسي للنزاع، وتوفير شرعية داخلية قادرة على تثبيت أي اتفاق مستقبلي. فالمبادرة لن تتجاوز حدودها الرمزية، ما لم تُحوَّل إلى مسار مؤسسي متكامل، يزاوج بين خطوات تكتيكية مثل الهدنة الإنسانية وفتح الممرات، وبين مقاربات استراتيجية أعمق، تستهدف تفكيك شبكات المصالح الاقتصادية والعسكرية التي أعادت إنتاج الصراع.
لا يمكن مقاربة الأزمة السودانية من خلال ثنائية المنتصر والمهزوم فحسب، إذ أن الحرب أعادت تشكيلها شبكة واسعة من الامتيازات السياسية والاقتصادية. الذهب وطرق التهريب والجبايات المحلية وعقود الخدمات صارت مرتكزات لاقتصاد موازٍ، لا يخضع لسيطرة الدولة. هذه البنية خلقت فاعلين جدد خارج الإطار الرسمي، يملكون دوافع قوية لمقاومة أي ترتيبات سلام. ومن ثم، فإن أي وقف لإطلاق النار يظل هشاً، ما لم يقترن بآليات حازمة لإعادة توجيه الموارد نحو قنوات شرعية عبر مؤسسات مالية رقابية وحوافز استثمارية، توفر بدائل مقنعة للاقتصاد غير الرسمي.
المعضلة الأكثر إلحاحاً تظل انعدام الثقة، وهو ليس مجرد حالة نفسية بين قادة الحرب، بل تراكم تاريخي من الاتفاقات المنهارة والممارسات الخداعية، والاستقطاب الأيديولوجي. يتجلى ذلك في الشكوك المتبادلة حول تقاسم الممرات الإنسانية وفي الحملات الإعلامية التي تُقوض أي مبادرة. ولهذا، فإن بناء الثقة لا يمكن أن يُختزل في الدعوات العامة، بل يتطلب آليات تَحقق وتثبُت آنية وملموسة تُنتج نتائج قابلة للقياس، مثل نشر تقارير دورية علنية عن الخروقات وتطبيق عقوبات فورية على المعرقلين.
وفي قلب هذا المشهد، يشكل الاقتصاد الموازي للحرب تحدياً بنيوياً. خطوة البنك المركزي السوداني في سبتمبر 2025 باحتكار شراء وتصدير الذهب، قدّمت مدخلاً أولياً، لكنها تظل قاصرة من دون منظومة متكاملة للرقابة تشمل الحدود والمطارات وتعاوناً مصرفياً إقليمياً، يسمح بتتبع مسارات الشحن. إن فرض العقوبات على رجال الأعمال والشبكات الممولة للحرب ضروري، لكن فعاليتها مرهونة بوجود حوافز للشركات الشرعية؛ كي تندمج في الاقتصاد الرسمي، وتجد بديلاً عن التهريب.
أما الحركة الإسلامية والمجموعات المسلحة المرتبطة بها، فتمثل معضلة مزدوجة: استبعادها قد يفتح الباب أمام إعادة إنتاج العنف، وإدماجها بلا شروط يهدد بإعادة تدوير شبكات النفوذ التي فجرت الأزمة. التمييز بين التيارات السياسية ذات الطابع المدني التي يمكن استيعابها ضمن شروط شفافة، وبين القيادات العسكرية التي يجب إخضاعها للمساءلة، يشكل مدخلاً لتفكيك هذا المأزق. البيان المشترك للرباعية الذي دعا إلى تحجيم نفوذ الحركة الإسلامية، يوفر أساساً، يمكن البناء عليه شرط أن يقترن بآليات تنفيذ واقعية.
لا يكتمل بناء السلام من دون معالجة ملف العدالة الانتقالية. فالتوازن بين الاستقرار والمحاسبة يستلزم مقاربة هجينة، تجمع بين لجنة وطنية مدعومة دولياً للتحقيق ومحكمة مختلطة لقضايا الانتهاكات الجسيمة مع برامج تعويض واعتراف علني، تعيد للمجتمع الثقة في العملية السياسية. في الوقت نفسه، يجب تصميم برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج بصورة تدريجية وقابلة للتنفيذ، تبدأ بالحصر والتسجيل، ثم التأهيل المهني والدعم المرحلي، وتنتهي بدمج المقاتلين السابقين في سوق العمل عبر شراكات مدعومة بضمانات إقليمية.
على الجانب السياسي يكتسب مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية الثاني في القاهرة دلالة محورية، إذ يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز لإعادة تعريف التوازنات المدنية وتأسيس ميثاق سياسي، يحدد قواعد الانتقال وضوابط المشاركة العسكرية. وإذا تضمن الميثاق نسب تمثيل واضحة للنساء والشباب والنازحين، فإنه سيعزز شرعية أي عملية انتقالية، ويحول دون إعادة إنتاج الإقصاء.
تظل المؤشرات الكمية والكيفية أداة أساسية لتقييم المسار. انخفاض الخروقات العسكرية وزيادة حجم المساعدات الواصلة، وارتفاع كميات الذهب الموثقة رسمياً واتساع قاعدة القوى المدنية المنخرطة في العملية، كلها مؤشرات تساعد على تحديد ما إذا كانت المبادرة تتجه نحو مسار تصاعدي مستدام، أو نحو سيناريو واقعي هش يقوم على هدن متقطعة، أو حتى نحو انهيار كامل يعيد الحرب إلى مربعها الأول.
شروط الإنجاح
إن إنجاح مبادرة الرباعية يتجاوز حدود الإرادة السياسية التقليدية، فهو مشروط بتصميم مؤسسي مرن وضغط إقليمي ودولي متماسك، وآليات تحقق ومحاسبة شفافة، وأطر اقتصادية بديلة، تحدّ من جاذبية اقتصاد الحرب. الزمن هنا ليس مجرد متغير ثانوي، بل عنصر جوهري: فالتدابير السريعة والملموسة، تتيح بناء الثقة اللازمة لإطلاق إصلاحات أعمق وأكثر استدامة، وتفتح الطريق أمام تحول المبادرة من بيان دبلوماسي إلى مسار عملي لبناء السلام في السودان.