على الهواء مباشرة، ودون أي خجل أو خشية، تساوم الأحزاب اليوم على مقاعد البرلمان. نظام القائمة المطلقة أتى؛ وأنتج أسوأ ما فيه… كراسي للبيع. البيع هنا ليس بألف أو عشرين ألفا، بل البيع بالملايين. والبيع يتم بلا أدنى مواربة. اليوم بيع للبرلمان، وغدا في 2030، حيث لا وجود سياسي للرئيس السيسي دستوريا، ربما يبيع الأوغاد مقعد الرئاسة.

في الماضي كانت هناك شائعات عن بيع مقاعد البرلمان عن طريق التواجد في قائمة الحزب الوطني الديمقراطي، عندئذ ترددت أسماء، مات أصحابها، لقيادات كبيرة في الحزب، وصلت لحد أمين التنظيم ورئيسي غرفتي البرلمان، اليوم البيع يتم على الهواء وبإعلانات رسمية، والأسماء معروفة والأحزاب كبيرة منها، الأحزاب المدللة أصحاب القائمة المحظوظة والموعودة، وكل شيء يتم على مرأى ومسمع من الهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات، والتي يبدو أنها أصمت أذنيها، وكأنها لا تعمل، إلا بعد الإعلان عن الجدول الزمنى للانتخابات. وحتى بعد الإعلان عن الجدول، فتلك الهيئة- ومن قبلها اللجنة العليا للانتخابات- لم يصدُر عنها يوما، أن تعقبت مرشح لانتخابات النواب أو الشيوخ، أو منعت حزبا من المشاركة في تلك الانتخابات.

المال السياسي قد يكون فاسدا أو غير فاسد

والمال السياسي: هو مال يُدفع أو يُوعد بدفعه في صور شتى، ويكون حالا أو مؤجلا، وهذا المال يرتبط بأمور عديدة منها الانتخابات، ومنها التعيينات أو الترقي، أو النقل بين المناصب الرفيعة في الدولة، ومنها ما يتعلق أيضا بإدارة الشأن الحزبي، وربما النقابي، ومنها أيضا المال المتصل بالبرلمان وعمله… إلخ.

ولا شك، أن المال السياسي آنف الذكر ليس كله مالا فاسدا، لأن بعضه يُوظف لأغراض إدارية وإجرائية وقانونية بحتة. فعلى سبيل المثال، يعتبر المال الحزبي المتصل بالعضوية في الأحزاب، وكذلك المال المرتبط بالمشروعات الحزبية هو مال سياسي مشروع. وكذلك فإن المال الانتخابي في مصر لا يمكن اعتباره كله مالا فاسدا، لأن منه ملايين تُصرف كرواتب لمجلس إدارة الهيئة الوطنية العشرة، ومثلهم للمشرفين على الاقتراع والفرز، وكذلك المال المدفوع نظير الترشح وإجراء الكشف الطبي، والمال المخصص للدعاية الانتخابية دون خرق السقف المحدد بالقانون… إلخ.

المال الانتخابي الفاسد

وسط هذا كله، يوجد بطبيعة الحال مال انتخابي فاسد، وفي مصر أصبح هذا المال في الوقت الراهن من المظاهر المخيفة، لكونه يرتبط بعدة سمات، بعضها مستحدث.

فهذا المال بداية يتصل بشكل مباشر، بحال غلق المجال العام في مصر، أي أنه يرتبط بنقص واضح في مؤشرات المقرطة، واستشراء مُناخ الاستبداد، واحتكار السلطة، والانخفاض الواضح في درجة تداول السلطة وتداور النخبة. صحيح، أن هناك دلائل على وجود الفساد السياسي في الانتخابات في بلدان عديدة، لكن هذا الأمر أكثر إيضاحا في البلدان النامية، خاصة التسلطية منها.

يكثُر استخدام المال الانتخابي الفاسد في مجتمعات ذات اقتصادات، تتسم بالتشوه الاجتماعي، نتيجة فوارق الطبقات، وفجوة الدخل، وكل تلك الأسباب كفيلة بوجود حالة من تزاوج السلطة بالمال، والرغبة في زيادة الثراء فوق الثراء، وإفقار الفقراء على فقرهم، عبر نهب الثروات والممارسات الاحتكارية التي يُعبر عنها بحتمية الحصول على مناصب برلمانية؛ بغية التمتع بالحصانة من بعض النواب الفاسدين، الذين يجدون أن ما يدفعونه لفوزهم أقل بكثير، مما سيحصلون عليه- من خارج البرلمان- وهم تحت قبة البرلمان.

وعلى الرغم من أن المال الانتخابي الفاسد يظهر بصورة كبيرة إبان أيام الاقتراع، حيث المال المدفوع للناخبين خلال التصويت من قبل رجل أعمال معين، أو من قبل حزب أو أكثر من الأحزاب المدللة حاليا من قبل السلطة، في صورة سيولة أو كراتين المواد التموينية، إلا أن المال الانتخابي الفاسد يظهر أيضا موجها للمرشِحين (بكسر الشين أي القائمين على ترشيح الناس بالقوائم)، وكذلك المرشَحين (بفتح الشين) بعضهم البعض، بغرض “تعريق” البعض للبعض؛ بهدف استبعادهم من المنافسة، أو عبر خرق سقوف الدعاية الانتخابية؛ أملا في التغلب على موازنة المرشح الملتزم أو محدود الإمكانية.. كل ما سبق يجعل الانتخابات يفوز فيها القادر وحده، أو ربما الفاسد دون غيره، ويستبعد منها الممثل الحقيقي للناس.

ما من شك، أن المال المدفوع للمرشَحين (بفتح الشين) الفقراء، سواء كانوا أشخاصا أو أحزابا، لا يدخل ضمن الفساد المالي، خاصة لو التزم بحدود التبرع القانوني، لأن هذا المال مدفوع من قبل الناس للذود عن أنفسهم، للعمل على وصول ممثليهم الحقيقيين للبرلمان للتعبير عنهم وعن مطالبهم، وقد شهدنا تلك الظاهرة التي عفا عليها الزمن في عديد المرشحين إبان انتخابات 1984 و1987 في بعض مرشحي التيارات والأحزاب اليسارية المدافعة عن الطبقتين الدنيا والوسطى.

كيفية شراء الشخص للحزب القائم بالترشيح

لكن تظهر أبشع صور المال الانتخابي الفاسد في العملية الانتخابية اليوم في المرشح الذي يشتري ذمة أحزاب بعينها، وذلك بُغية أحد أمرين أو كليهما: أولا، الفساد المؤسسي ممثلا في إفساد الحزب كمؤسسة غير رسمية، تخضع للقانون العام ولمحاسبة أجهزة الرقابة المالية في الدولة المصرية. ثانيا، فساد قيادات حزبية بعينها.

في حالة انتخابات مجلس النواب القادمة، يبدو إننا نُشير إلى المرشَحين الذين يدفعون المال، وهم على قناعة تامة، بأنهم سيفوزون بمقعد بمجلس النواب. هنا يصبح من شبه المؤكد، أننا لا نتحدث عن ائتلاف “الطريق الحر” بين الدستور والمحافظين برئاسة جميلة إسماعيل وأكمل قرطام، أو ائتلاف “حق الناس” ويضم 8 قوى سياسية، والائتلافيين الاثنين آنفي الذكر سيترشح فيهما المصريون على الشق الفردي، أو أننا نتحدث عن القائمة المطلقة الخاصة بـ “تيار الاستقلال وحزب السلام” برئاسة أحمد الفضالي، أو القائمة المطلقة التي تخص “الائتلاف الوطني” بزعامة ناجي الشهابي. كل ما سبق ومن واقع الخبرات السابقة، يبدو أمر فوزه على المحك، لكن ما تسمى بالقائمة الموحدة للأحزاب المدللة الأربعة، وباقي الأحزاب الفسيفسائية المنضمة إليها، بما فيها الوفد، والذي لم يعد من الوفد القديم فيه إلا مجرد تشابه أسماء، (هذه القائمة)، هي المقصودة لمن يُريد أن يشرك اسمه فيها. الأسماء المرشحة بتلك القائمة بمجلس النواب هي 284 اسما، في أربعة قطاعات/ دوائر انتخابية، ومثلهم أسماء احتياطية، ولكل حزب كوتة، يتقدم بها وبأكثر منها إلى من يُدير المشهد الحزبي، وهو على الأرجح حزب مستقبل وطن، وتلك الأسماء تُعرض من الأخير على الجهات الأمنية، التي تختار منها، ثم تعود القوائم لمستقبل وطن، فيردها للأحزاب المعنية لتحديد الأشخاص المنتهي الاتفاق عليهم بدقة. فمثلا لو اتفق أن للوفد 20 اسما بالقوائم الأربع، فهو يُرسل لمستقبل وطن أسماء 50 مرشحا محتملا، يرجع بالموافقة على 30 منهم، فيحدد الوفد أسماء الـ20 بشكل نهائي من الـ30 اسما محل الموافقة. من هنا تبدأ المساومات المالية بين الأسماء وبين من يرشحها، بين الحزب السياسي- أيا كان اسمه- وبين شخص المرشح.

هنا يكون شكل المال المدفوع للحزب عبارة عن سيولة نقدية في الأغلب الأعم، لأنه لو جرى التعامل بالشيكات لافتضح الأمر، وظهر الفساد مكتوبا بأحرف من الخيبة، وأصبحنا أمام جُرم مشهود، ورشوة متكاملة الأركان.

نظام حزبي وانتخابي كشف مصائبه على البرلمان القادم

هكذا يظهر عاريا النظام الحزبي الراهن، لكونه خالي من المحاسبة من قبل أجهزة الرقابة المالية والإدارية، ولا يتمتع بأي درجة من درجات ستر العيوب، أو بالأحرى سد منافذ الفساد والرشوة والمحسوبية.

لقد كشفت انتخابات مجلس الشيوخ 2025 عن عيب خطير- وربما جديد- في نظام القوائم المطلقة، لأنه كان معروفا، أن هذا النظام يُعد تعيينا مُقَنعا أو تزكية لأسماء مضمونة الفوز، في ظل نظام الأحزاب المدللة لدى السلطة، اليوم تبين أنه في ظل القائمة مضمونة الفوز- مع إغراء العرض والطلب وغياب المحاسبة على أعين الناس- فساد البرلمان المقبل.

شطب الحزب مُتلقي التبرع عام الانتخابات

بعبارة أخرى، فإن تداعيات كل تلك الرشاوى ستعود على البرلمان المنتخب أو بالأحرى الموصوف بأنه منتخب، وهو أنه سيأتي بأعضاء فوق مستوى الشبهات. صحيح أن هذا الأمر حدوثه لا يرتبط بكل الأعضاء، لكن مجرد وجود البعض مهما قل عددهم، ممن أتوا إلى مقاعد المجلس من الذين دفعوا أموالا غير منظورة ومجهولة المصدر، ومن باب أولى غير قانونية، يشوب العملية بأسرها. فنقطة واحدة من الكيروسين فوق ماعون كبير من اللبن الصافي، تجعل اللبن كله آسن وغير صالح للشرب، ونحن نسمع يوميا مهازل تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي، ولا معقب عليها، إلا في حالة واحدة تخص حزب أحد الأحزاب المدللة، وهنا نجد أن الضحية هي التي تُحاسب، ولا يحاسب من هو يفترض أنه جانٍ، لكونه حزبا مدللا. وبغض النظر عن الوقائع، فإن الأمر جد خطير، وهو أن المُشرع المطلوب منه، أن يكون نزيها وشفافا، أصبح راشيا أو مرتشيا أو مختلسا أو منتفعا أو فاسدا… هل يُعقل أن تكون تلك هي العينة من النواب التي سيوكل لها أمر الناس؟!!!! من الممكن إسعاف وعلاج الأمر برمته الآن بإصدار قرار بقانون لتعديل قانون 40 لسنة 1977 بشأن الأحزاب، لمنع التبرع الشخصي للأحزاب السياسية في عام الانتخابات، ووضع عقوبة تصل لحد شطب الحزب حال ثبوت هذا التبرع.