مثلما تحدثنا في المقال السابق عن الأمن القومي المصري من المنظور الجيوبوليتيكي المجرد من أية اعتبارات أيديولوجية، قومية أو دينية أو غيرها، فإننا سنطبق هذا المنهج  على حديثنا اليوم عن الأمن الخليجي، وكنا قد اختتمنا حديث الأسبوع الماضي، بخلاصة ومجموعة تساؤلات حول حيرة دول الخليج بعد صدمة الغارة الإسرائيلية على قطر، وما أدت إليه هذه الغارة من سقوط وهم اللحظة الخليجية، وهو الوهم أو الادعاء الذي روج لانتقال دور قيادة النظام الإقليمي العربي من مصر، ومعها سوريا والسعودية إلى منطقة الخليج وحدها حصرا، بقيادة سعودية إماراتية.

كان رأينا ورأي معظم الباحثين والمعلقين الجادين، أن مقولة اللحظة الخليجية هي من بدايتها مجرد وهم وخداع بصري، وكما سجلنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، فقد استندت هذه المقولة إلى غرور الثروة الريعية النفطية، والفوائض المالية الضخمة التي جعلت صندوق أبوظبي السيادي مثلا، هو أضخم محفظة مالية في الاقتصاد العالمي، كما استند ادعاء اللحظة الخليجية إلى التفويض الأمريكي لأطراف خليجية بالتدخل هنا وهناك بسلاح المال غالبا، تحت مسميات مختلفة، مثل مقاومة النفوذ الإيراني، أو مكافحة الإرهاب، والاتفاقات الإبراهيمية، أو مشروع الناتو العربي..إلخ.

يعود ظهور وتداول مصطلح اللحظة الخليجية إلى السنوات القليلة الماضية، التي برز فيها دور خاص لدولة الإمارات العربية المتحدة في المنطقة، وفي مناطق أخري، وهي أيضا السنوات التي انتقلت السلطة فيها إلى كل من الشيخ محمد بن زايد (ولي عهد أبوظبي ثم رئيس دولة الإمارات)، والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، ثم هي كذلك السنوات التي انفتحت فيها دول الخليج على تطبيع العلاقات والتعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، بمبادرة من الإمارات والبحرين، وبمباركة صامتة، ثم نشطة من المملكة العربية السعودية في انتظار صفقة التطبيع السعودي الإسرائيلي الكبرى بشروطها المعلنة من قبل المملكة، وأهمها اتفاق دفاعي مكتوب بين السعودية والولايات المتحدة، يصدق عليه الكونجرس، بما يجعل الالتزام الأمريكي بحماية السعودية في مستوى الالتزامات الأمريكية نحو بقية أعضاء حلف الأطلنطي.

بالطبع جاءت عملية طوفان الأقصى، وحرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل الإسرائيلية على غزة؛ لتضع مقولة اللحظة الخليجية أمام اختبار عسير، قبل أن تنسفها تماما الغارة الإسرائيلية الأخيرة على قطر، لاغتيال قادة حركة حماس الفلسطينية، هذه الغارة التي لم تفعل سوى أن أظهرت مدى عمق واتساع الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج، رغم كل الضجيج الدبلوماسي والإعلامي الذي صك الآذان، وخدع الأبصار طيلة السنوات القليلة الماضية، كما سبقت الإشارة.

يُستحسن قبل الاستطراد في رصد وتقويم الوضع الخليجي بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر، أن نتذكر سويا، أن وهم القيادة الخليجية المنفردة للنظام الإقليمي العربي سابق على صك وظهور مصطلح اللحظة الخليجية بعدة عقود، وكانت هذه الفكرة قد طرحت لأول مرة عقب حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي، وكان طرحها في سياق تبرير عملية الاغتيال العمدي من جانب دول الخليج لإعلان دمشق الموقع بين كل من مصر وسوريا، ودول مجلس التعاون الخليجي عام ١٩٩١، والذي كان يستحدث قوة عسكرية مشتركة للتدخل السريع ضمن آلية عربية مؤسسية لفض المنازعات، وحفظ  السلم والأمن في منطقة الخليج والمشرق العربي، وذلك استخلاصا لدرس جريمة الغزو العراقي للكويت وحرب تحرير الكويت.

أما مضمون ذلك التبرير للتنكر الخليجي لإعلان دمشق قبل أن يجف مداده- كما قيل وقتها على لسان مصدر خليجي رفيع- فهو أنه بعد فشل المشروع القومي العربي بقيادة مصر الناصرية أولا، ثم بقيادة البعث العراقي تاليا، وأخيرا ،فإن عبء قيادة النظام الإقليمي العربي انتقل إلى كل من مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، وبالنص قال المسئول السعودي الذي يرجح إنه إما الأمير تركي الفيصل، أو الأمير بندر بن سلطان لمحدثه الأمريكي: “لن يجلس على مقعد قيادة هذه السيارة بعد الآن إلا نحن وأنتم”. 

 في نشوة الاغتباط بالتدخل العسكري الأمريكي وتكوين ما يسمي بالتحالف الدولي لتحرير الكويت تحت قيادة الولايات المتحدة، نسي ذلك المسئول الخليجي، أن الدور الأمريكي في تأمين المنطقة محكوم أولا بالمصالح الأمريكية فقط، ومحكوم ثانيا بمحددات صنع القرار في واشنطن، وذلك لأنه لا يوجد التزام تعاقدي مصدق عليه من الكونجرس للدفاع عن دول مجلس التعاون الخليجي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا المجلس ذاته أي مجلس التعاون الخليجي، ولد بعيوب خلقية مماثلة للعيوب الخلقية التي ولدت بها جامعة الدول العربية، فهو تأسس أصلا لمواجهة المخاطر الداخلية والخارجية التي تولدت عن الثورة الإسلامية في إيران، ولا بأس في ذلك، إذا توافرت الجدية والإمكانات، ولكن العقبات والموانع كانت ولا زالت كثيرة، فالخلافات والمنافسات بين دوله، أو بمعنى أصح بين الأسر الحاكمة متجذرة وقديمة، والثقة المتبادلة تكاد تكون شبه معدومة، فضلا عن ذلك، فإن الأوضاع داخل كل دولة، بل وداخل كل أسرة حاكمة ليست مستقرة، والخوف من هيمنة السعودية يكاد يكون عقدة متوارثة لدى بقية العواصم الخليجية، إضافة إلى انعدام الشروط الاجتماعية والثقافية وأحيانا الديموجرافية اللازمة لتكوين جيوش حديثة، ولذلك باستثناء الانعقاد الدوري للقمة الخليجية، ولاجتماعات وزراء داخلية الدول الأعضاء، فلم يتحقق مشروع واحد من المشروعات الطموحة للوحدة الخليجية، بل تأجل مشروع العملة الخليجية الموحدة أكثر من مرة، كما توقفت المناورات العسكرية لقوة درع الجزيرة المشتركة… إلخ.

 إذن فالرهان الخليجي على الالتزام الأمريكي (الأوتوماتيكي) والقاطع والدائم بالدفاع عن دول الخليج فرادى ومجتمعات غير مضمون، كما ظهر مثلا من رفض واشنطن المشاركة في حملة عاصفة الحزم السعودية الإماراتية ضد حلفاء إيران في اليمن، مما اضطرّ الدولتين في نهاية المطاف إلى وقف الحرب، وبالطبع أكدت الضربة الإسرائيلية الأخيرة لقطر هذه الحقيقة المرة، أي حقيقة عدم التعويل الخليجي (الأوتوماتيكي) على الحماية الأمريكية، كذلك أظهرت تللك الضربة أن الرهان الخليجي على إسرائيل هو أيضا غير مضمون، وغير مسلم به، وأنه ليس صحيحا، أنهم شركاء على قدم المساواة مع إسرائيل، وإنما هم مجرد أرصدة استراتيجية لتل أبيب في صراعها مع إيران، والعكس غير صحيح، بمعنى أنه لو افترضنا إمكان عقد صفقة إيرانية مع واشنطن (ومن ورائها تل أبيب طبعا)، فإن مصالح دول الخليج لن تحظى بكثير من الاعتبار في هذه الصفقة. 

هذه الحسابات أو الحقائق هي التي تفسر لنا اندفاع السعودية فور الغارة الإسرائيلية على قطر لتوقيع الاتفاق الدفاعي مع باكستان، إذن أن العدو المفترض في هذا الاتفاق هو إيران وليس إسرائيل، كما أن سوابق التعاون العسكري السعودي الباكستاني، تشير إلى أن أولويته هي تأمين الداخل السعودي، خصوصا في المنطقة الشرقية، حيث تتركز أغلبية سكانية شيعية، ولم يكن إعلان هذا الاتفاق في أعقاب الغارة الإسرائيلية على قطر، إلا لغرض الاستهلاك المحلي في السعودية، وبقية المنطقة الخليجية التي اهتزت الثقة فيها في الأسر الحاكمة؛ بسبب تلك الوقاحة والعدوانية من جانب إسرائيل؛ وبسبب الخذلان الأمريكي للأصدقاء من حكام الخليج الذين تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في أراضيهم.

لكن هذا الاتفاق لا يملأ، ولن يملأ الفراغ الاستراتيجي في الخليج في مواجهة مشروع إسرائيل الكبرى،  فلا مصلحة لباكستان في المواجهة العسكرية ضد إسرائيل، ولا يتصور أن تتسامح واشنطن مع نشر قوات باكستانية في غرب وشمال السعودية، كما أنه من المؤكد، أن رد الفعل الإسرائيلي على مثل هذا العمل (بفرض إمكان حدوثه نظريا) سيكون حادا وعنيفا إلى أقصى حد، ولنتذكر معا تهديدات مناحيم بيجين رئيس وزراء إسرائيل عام ١٩٧٨، ثم تهديدات آريل شارون عام ٢٠٠٣، للسعودية بسبب نشر طائرات حربية يصل مداها إلى إسرائيل في قاعدة تبوك، ولنتذكر كيف انتهت الأزمة بسحب هذه الطائرات في صمت في المرتين.

 الخلاصة إذن هي أن السكرة راحت وجاءت الفكرة، فلا شيء- بعد- اسمه اللحظة الخليجية، وأما الفراغ الاستراتيجي الخليجي في مواجهة إسرائيل الصغرى والكبرى، فلن تملأه الاتفاقات الإبراهيمية المزعومة، ولا القواعد الأمريكية، ولا الاتفاق الدفاعي الباكستاني السعودي، وإنما يتعين البحث عن مسار جديد ومختلف. 

  سوف نتحدث في مقال تال عن ذلك المسار المقترح، ولكن يجب أن نتناول قبل ذلك مشروع إسرائيل الكبرى ذاته بين الواقع وبين الخرافة، فإلى اللقاء.