في الأيام الحزينة التي تلت رحيل الرئيس “جمال عبد الناصر” قبل خمسة وخمسين عاما، كتب الأستاذ “محمد حسنين هيكل” مقالا صادما على صفحات “الأهرام” عنوانه: “عبد الناصر ليس أسطورة”.
بعد عقود طويلة راجعته، فيما كتب وقصد إليه، وكانت إجابته: “خشيت في أعقاب رحيل عبد الناصر، والحزن عميق عليه، من إضفاء طابع كهنوتي على تجربته السياسية والتاريخية، وأن يقف على أبوابها كهان وحراس، فالتجارب الكبرى بنت زمانها، ولدت على مسارحه، وتفاعلت مع تحدياته، نجحت وأخفقت، صعدت وتراجعت، لكنها حدثت في سياق تاريخ يجرى لا أسطورة، تنشدها قرائح شعراء ورواة”.
قيمته تؤكدها معاركه وقضاياه والأحلام التي حملها والمشروع الذي دعا إليه، وهذه وقائع تاريخ لا أساطير منسوبة”.
في تسجيل صوتي له ظروفه الخاصة، ولم يكن للنشر ردد المعنى نفسه:
“لقد رأيناه رؤية عين لا بخيال رواة السير الشعبية”.
“عشنا تجربته، ولم نستمع إليها كسيرة الظاهر بيبرس”.
“كان ثائرا عظيما وإنسانا بديعا”.
في حوار آخر سألته: “هل أعدت اكتشاف عبد الناصر من جديد، بعد كل ما جرى في مصر وعالمها العربي من تحولات وانقلابات على خياراته الرئيسية؟”.
قال: “لا، فقد كنت أعرف قدر دوره، ما جرى بعده يؤكد، ويثبت أنه رجل استثنائي، وما طالعته من وثائق غربية، لم تكن متاحة في أيام يوليو، تؤكد وتثبت، ما تعرضت له تجربته من مؤامرات”.
لماذا اقترب من “عبد الناصر” إلى درجة التماهي؟
ولماذا ابتعد عن “السادات” إلى درجة الصدام؟
سؤالان في التاريخ إجابتهما في السياسات والتوجهات والخيارات الرئيسية.
لمرة نادرة ألمح في حوار صحفي إلى أسباب إلحاحه في معارضة “السادات”: “هو ظني بأنني قمت بدور أساسي في مجيء السادات رئيسا بعد رحيل عبد الناصر، وبدور كذلك في تأييده بظروف، أحاطت بمصر أيامها”- قاصدا أحداث (١٥) مايو التي تردد، أنه مهندسها.
اختلف- أولا- على الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.
واختلف- ثانيا- على التوجهات الاجتماعية الجديدة.
وقد كانت هناك صلة عند الجذور بين السلام مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرى بها.
“حاول السادات أن ينشئ طبقة جديدة، تساند فكرة السلام”.
“كان سؤال هنري كيسنجر: أين الطبقة الاجتماعية التي يمكن أن تسند أي تحول استراتيجي؟”.
“وأسفر الانقلاب الاجتماعي عن خلق طبقة أكثر تدينا وأقل أخلاقا”.
“في سنة ١٩٧٥ كنت أمام وضع اجتماعي، يتغير دون أن يقول لنا أحد من أين جاءت القطط السمان، ولا كيف حصلت على ثرواتها؟”.
هكذا تحدث نصا في الشريط المسجل.
كان ذلك هو المشروع النقيض لما دعا إليه “عبد الناصر”، شارك في صناعة حلمه وصاغ وثائقه الرئيسية.
في الجانب الآخر من تجربة يوليو، التزامات لم يتخل عنها تحت أي ظرف تجاه، ما يعتقده من أفكار، فالوفاء للأفكار قبل الرجال.
لم يكن يدافع عن “عبد الناصر” بقدر ما كان يدافع عن أفكاره واعتقاداته هو.
ذات مرة عند إحدى أزماته ومعاركه، قال: “أنت لا تدافع عنى، بل عما تعتقد فيه من أفكار”.
على جانب من غرفة مكتبه، كان هناك تمثال صغير، ربما لنحات يوغوسلافي، نصف الوجه لـ”عبد الناصر” والنصف الآخر لـ”هيكل”، كأنهما واحد.
شيء من ذلك التصور الفني هو صلب رؤيته لدوره في تجربة يوليو.
قلت له عند “استئذانه في الانصراف” بعد بلوغه الثمانين من عمره، والمشاعر العامة تغمره بفيض عرفانها: “أرجو أن تلتفت إلى أن الناس اختارتك بإرادتها الحرة، أن تكون في الصورة الأخيرة الرجل الثاني لثورة يوليو، دون أن تكون من ضباط قيادتها، أو توليت أي منصب تنفيذي في تجربتها، باستثناء فترة محدودة وزيرا للإعلام”.
الاختيار الحر وزن تاريخ لا ثقل منصب.
“كان شعوري غريبا خلال ساعات الرحيل الحزينة: كيف رحل.. ولم أرحل معه؟”- كما كتب بمشاعره.
“إن جمال عبد الناصر أعطى- فيما أعتقد- إجابات صحيحة في مجملها تجاه القضايا التي طرحها العصر. ثم إن جمال عبد الناصر أجرى- فيما أعتقد- ممارسات سليمة في مجملها؛ لتطبيق ما أعطاه من إجابات تجاه القضايا التي طرحها العصر”- كما كتب بعقله.
“لقد استعملت تعبير إجابات صحيحة في مجملها، وممارسات سليمة في مجملها- لأنه ليست هناك تجربة بلا أخطاء”.
لم تعن له تجربة “عبد الناصر” “دروشة” في الماضي، بقدر ما كان إلهاما للمستقبل، فكل ما له قيمة يبقى، وأية أخطاء شابتها لا تسحب منها جدارتها، حين غيرت وأحقيتها حين واجهت.
“جمال عبد الناصر هو الحقيقة الأساسية في التاريخ المصري الحديث”، لكنه كان يرى أن “هناك ناصريين ولا توجد ناصرية“
ربما أراد نفي الصفة الأيديولوجية، التي ترتبط بالضرورة مع مثل تلك الانتماءات، خشية الجمود بعدوى الصور النمطية، وربما أراد أن يؤكد اتساع رؤيته لمجمل الحركة السياسية العامة، دون انحياز إلى فريق أو آخر، غير أن أحدا لم يقتنع بالعمق، فهو شريك بالتجربة والكاتب الرئيسي لوثائقها.
في أول حوار صحفي أجريته معه، جوار رئيس تحرير “العربي” آنذاك “محمود المراغي”، نشر يوم الاثنين (٢٦) يوليو (١٩٩٣)، دخلنا في نقاش طويل لم يصل إلى شاطئ.
فيما قاله: “أتصور أن الخلاف بيننا خلاف مسميات، لا مانع عندي، من واجبك أن تبقى في أدبياتك تفاصيل ما فعله عبد الناصر، لكن الانتساب إلى فرد في العنوان يعيدك، حتى دون أن تقصد إلى كامل عهد، العهود تتغير، عندما تقول عبد الناصر، أو الناصرية، أو الناصريين، معناها أنك تتكلم في حدود التطبيقات التي عملها… لكني متفق معك في قيمة الرمز”.
“خشيت- وما زلت أخشى- أن التركيز على الرجل يدفع بالآخرين، أن يردوا عليك بالتركيز على العصر، وعلى اللحظة، وعلى المناخ.. ويضيع المشروع والفكرة والتطبيق، وحتى الوصول إلى الناس”.
بعد ثماني سنوات، كان الحوار بيننا ساخنا وممتدا بلا حواجز في الشأن العام، فجأة أطلق “الأستاذ” عبارة، بدت غريبة على قاموس مفرداته السياسية: “أنا كناصري”.
قاطعت استرساله: “هذا اعتراف جاء أوان إعلانه على الرأي العام”.
قال: “ليس الآن”.
كان ذلك عام (٢٠٠١).
بعد ثلاث سنوات أخرى في يناير (٢٠٠٤)، نشرت اعترافه المتأخر بعد استئذانه:
[لم أصدق يوما، أن هيكل ليس ناصريا، باعتقاد أن ما يكتبه من رؤى وأفكار، تنتسب بصورة مباشرة لمشروع جمال عبد الناصر، الذي هو- كما يرى- المشروع القومي المتجدد.
قال هيكل: أنا ناصري بهذا المعنى وحده.
قلت له على الفور: وأنا ناصري بهذا المعنى وحده].
كانت قضيته المشروع باتساع حركة فعله، لا الأيديولوجيا بانغلاقها على مقولاتها.
لم يكن معنيا بالتصنيف الأيديولوجي بقدر ما كان متنبها، إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئا له قيمة أو فكرة لها أثر.
قال له الدكتور “عبد الوهاب المسيري”: “لست ناصريا”.
أجابه: “ليس مهما”.
الواقعة جرت في أواخر الستينيات من القرن الماضي، عندما عرض وزير الإعلام “محمد حسنين هيكل” على الباحث الشاب الانضمام إلى دائرته الاستشارية.
حسب رواية أخرى، لـ”المسيرى” فإنه سأله عن سر علاقته بـ”عبد الناصر” فـ”إذا به يتحول من كاتب صحفي إلى شاعر غنائي، كيف أن عبد الناصر بالنسبة لمصر هو المستقبل، وهو التنمية المستقلة، وكيف أن العروبة من الممكن أن تعطى لهذه المنطقة هوية حضارية وثقلا استراتيجيا، يجعلها تواجه عالم التكتلات الكبرى”.
لم يمنع انحيازه للمشروع من انتقاداته للنظام.
الأول، يمتد بالتجديد في الزمن.. والثاني، تنقضي صلاحياته باختلاف زمنه.
سألته: “كيف تصنف نفسك فكريا وسياسيا؟”.
أجاب: “يسار وسط”.
قلت: “لماذا يعتقد بعض معاصريك، أنك أقرب إلى اليمين؟”.
قال: “كانوا يظنون أن تجربتي في أخبار اليوم، أثرت على تكويني الفكري والسياسي”.
“كيف أكون يمينيا وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطني، وبيان ٣٠ مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التي أعلن فيها عبد الناصر التأميمات”.
“أنت تعرف أنني لا أكتب شيئا لا أقتنع به”.
“ثم لا تنسى أنني أول من كتبت عن زوار الفجر، واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة ودولة المخابرات لإدانة أسلوب في الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها”.
“ثم إن انتمائي العروبي هو حصاد تجربة جيل بأكمله، شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران”.