منذ عقود، كانت الجدية السياسية والتأثير تقاس بالانتماء الحزبي، الاعتصامات، التظاهرات، الصمود في وجه السلطة.
لكن جيل زد، الذي ولد في قلب الثورة الرقمية، جاء ليعيد تعريف الجدية من جديد.
بالنسبة لهذا الجيل، فصورة على تطبيق إنستجرام، أو مقطع على تيك توك أكثر فاعلية من مسيرة مليونية.
إنها أدوات جيل، نشأ على العوالم الرقمية بدلا من المؤسسات التقليدية، فصار أكثر حساسية للقضايا العابرة للحدود، مثل المناخ والاقتصاد والحقوق الرقمية، وأكثر ميلا لاستخدام الشبكات والوسائط القصيرة كأداة ضغط سياسي، بدلا من انتظار المنابر الرسمية والأحزاب القديمة.
جيل لا يستخدم السلاح، لكنه يستخدم عنفا اجتماعيا ورمزيا عبر أساليب ناعمة، تضغط وتقصي من دون دماء ليفضح الخصوم، ويلغي وجودهم.
السؤال إذن، هل هذا الجيل سطحي، كما يُتهم، أم أنه ببساطة ينقل السياسة إلى ملعب آخر جديد؟
الإجابة على التساؤل، تستلزم المرور على وقائع بعينها، ترصد الأداء السياسي لهذا الجيل.
جيل زد والحرب على غزة.. الرواية تتحول لمعركة
الحرب على غزة، فتحت جبهة موازية خارج الميدان، جبهة وعي، وجيل زد، ظهر بصفته لاعبا أساسيا فيها، يعيد تشكيل الرأي العام بوسائل جديدة.
في الجامعات الأمريكية، خيام الاعتصام في هارفارد وكولومبيا وستانفورد، لم تكن فعلا نخبويا، بل حراكا يقوده شباب عشرينيون. الاستطلاعات أظهرت أن الفجوة الجيلية واضحة.
صغار السن أقل دعما لإسرائيل وأكثر ميلا وتعاطفا مع القضية الفلسطينية، وذلك لأول مرة منذ عقود، يتحول التضامن مع فلسطين إلى حدث يومي داخل الحرم الجامعي الغربي.
المقاطعة الاقتصادية، بدلا من البيانات الحزبية، انتشرت قوائم المقاطعة كميمز “الاستعانة بأفكار أو صور أو مقاطع فيديو أو عبارات ذات شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي، بغرض توضيح موقف أو فكرة أو حالة” تنطوي على إبراز السخرية والمفارقة، والتي كسرت احتكار إسرائيل للسرد، وأحرجت وسائل إعلام غربية، تبنت الخطاب الرسمي.
” وفيديوهات ساخرة، سلاح من المقاطع الساخرة والصور المركبة التي كسرت احتكار إسرائيل للسرد، وأحرجت وسائل إعلام غربية، تبنت الخطاب الرسمي.
السخرية هنا لم تكن ترفا ولا فراغا، بل تكتيكا مختلفا لإرباك الخصم، حول سلوك المستهلك بخلق وعي جديد إلى أداة ضغط سياسي.
التضامن العربي الرقمي في القاهرة والرباط وبيروت، استخدم الإنترنت كساحة بديلة للتعبير، الشباب اتقن إذن تجاوز الرقابة، مما جعل التضامن الفكري، ثقافة لا يمكن حجبها.
المناخ.. من الهامش لصميم السياسة
لو سألنا جيل الألفية عن الأولويات، ستأتي الإجابة، الأمن، الوظائف، الاستقرار، أما جيل زد، فالإجابة مختلفة، المناخ أولا.
جريتا تونبرج الناشطة السويدية، لم تؤسس حزبا، بل جلست بكرسي خشبي أمام البرلمان السويدي، تحمل لافتة من كرتون، سجلت من خلالها سلسلة “الجمعة من أجل المستقبل” حيث خرج ملايين الطلاب للهتاف: ليس لدينا كوكب بديل.
جيل زد، يرى أن أي سياسة تتجاهل المناخ سياسة عمياء، لهذا يربطون بين الحرائق في كاليفورنيا والفيضانات في باكستان، والتصحر في شمال إفريقيا، كجزء من معركة واحدة.
هذا الجيل يجعل قضية وجودية حديثة، مثل المناخ، أكثر أهمية وحساسية لديه من الانقسامات الأيديولوجية التي أغرقت العالم في الصراع؛ لأنه عاش تجربة المناخ، وعرف كلفته في الواقع كقضية حياة يومية، لا كمجرد أيديولوجية وقتية قابلة للتغير والنقد.
السلاح الرقمي هو نفسه الفخ
جيل زد دخل السياسة من باب التكنولوجيا، لكن المفارقة أن الساحة نفسها التي منحتهم القوة، صارت أداة بيد السلطة لإضعافهم.
في السودان وإيران مثلا، يكفي قرار بقطع الإنترنت، حتى تتحول حركة صاخبة إلى صمت تام.
في الصين الخوارزميات تراقب المحتوى، تسقط ما تشاء، وتبقي ما يناسب السلطة.
أما الأداة الأحدث، فهي الذكاء الاصطناعي، خوارزميات ترصد الوجوه والبيانات، وتحدد قادة الاحتجاجات بدقة، هنا يجد هذا الجيل نفسه في معركة غير متكافئة، حيث السلاح الذي صنع وجوده وتأثيره، يمكن أن يستخدم ضده بدقة أكبر مما يتخيل.
المسارات رغم ذلك مفتوحة في المستقبل، فقد ينجح جيل زد في تحويل الضغط الرقمي إلى إصلاحات تاريخية، وبالتالي يحظى بهامش أكبر من المشاركة، ويصبح جزءا من اللعبة السياسية، وقد تنتصر الرقابة، فتغلق المنصات أو تتحول لساحات مراقبة خانقة، ويسلب الجيل أهم أدواته.
المسار الأكثر تعقيدا، أن يظهر نموذج هجين، يمزج بين أثر شبكي سريع، يخلق الترند، ويجذب الانتباه، وبين بناء أبطأ في العمق عبر مراكز بحث ومبادرات قانونية، ونقابات.
المفارقة، أن جيل زد يقف على حافة ميزان حساس، بين أن يكون أول جيل يحرر السياسة من قبضة الدولة، أو أول جيل يسجن وعيه بالكامل داخل خوارزميات الدولة.
في الصين ظهر المشهد بأوضح صورة خلال احتجاجات الورق الأبيض أواخر 2022.
آلاف من جيل زد خرجوا في شوارع شنجهاي وبكين ومدن أخرى، يحملون أوراقًا بيضاء فارغة.
لم تكن الورقة البيضاء مجرد رمز للصمت القسري، بل كانت إعلانًا جماعيًا، أن الكلمات نفسها ممنوعة.
احتجاج بدا عفويًا، لكنه كان في الحقيقة؛ نتيجة تراكم غضب من قيود كورونا “كوفيد” القاسية وسياسات العزل المطولة.
لكن ما يلفت النظر، ليس شجاعة الوقوف في الشارع فقط، بل الطريقة التي تعاملت بها الدولة. في غضون ساعات، انتشرت الشرطة، وأُغلقت شبكات VPN، وحُذفت أي صور أو فيديوهات من الذكاء الاصطناعي المدمج في المنصات الصينية WeChat Weibo. جرى التعرّف على الصور والشعارات، حتى وإن لم تُكتب كلمات صريحة، وجرى تتبّع الناشطين عبر بصمات وجوههم وهواتفهم. كثير من المشاركين استُدعوا لاحقًا للتحقيق فقط؛ لأنهم ظهروا في بث مباشر، أو حتى عبر “مشاركة موقع” أرسلها صديق.
هذا المشهد يلخص مأزق جيل زد في العالم غير الديمقراطي، لديهم وعي عالمي متقدّم، أدوات رقمية بارعة، وشجاعة في كسر الصمت.
لكنهم يواجهون أنظمة، تستخدم التكنولوجيا نفسها، بموارد أكبر، لجعل كل هاتف شاهدًا، وكل منصة فخًا، وكل صورة ورقة إدانة.
فروق الأجيال
السؤال هل هناك فروق حادة بين الأجيال في الفهم السياسي الحقيقة في الجوهر التمرد واحد، في الستينيات خرج الشباب إلى الشوارع، يصرخون ضد الحرب وضد السلطة الأبوية، احتلوا الجامعات، وزعوا المنشورات وحولوا الموسيقى إلى سلاح ثوري.
كان الراديو والصحف والميدان أدواتهم، وكان الصدام مع الشرطة مشهدهم اليومي.
اليوم جيل زد يرفع الشعارات نفسها لقضايا مختلفة بطرق مختلفة، المنشور الورقي تحول إلى وسم، والاعتصام في السوربون أصبح حملة رقمية على تويتر، وموسيقى الروك تحولت إلى ميمز وستانداب كوميدي وأغاني راب، تحرج السلطة أكثر من البيانات السياسية، التمرد إذا لم يتغير لكن ساحته وأدواته تغيرت.
السياسة نفسها لم تكن يومًا ثابتة، بل أعادت تعريف نفسها مع كل جيل.
في السبعينيات والثمانينيات، كان جيل إكس يرى السياسة مؤسسات وأوراقًا وأختامًا، كانوا يدخلون النقابات والأحزاب، يجلسون في اجتماعات طويلة، ويقرؤون الصحف اليومية، كأنها “الكتاب المقدس” للوعي العام.
بالنسبة لهم، الجدية السياسية تعني الصبر، البناء البطيء، والقدرة على التفاوض عبر قنوات رسمية بمعنى أشمل “النضال”.
مجيء جيل Millennials “الألفية”كان جزءا في مرحلة انتقالية، فهم لكن مع أول من لمس الإنترنت، لكنه لم يتخل بعد عن الشارع.
عرفوا الميادين والساحات، واعتصموا في العواصم العربية، وشاركوا في Occupy Wall Street “احتلوا وول ستريت شارع المال والأعمال في نيويورك”. وعْيهم كان خليطًا، نصفه قديم من الأحزاب والنقابات، ونصفه جديد من فيسبوك وتويتر. كانوا يسيرون بخطى مترددة بين عالمين، فلم ينجحوا دائمًا في خلق استدامة، لكنهم فجّروا الشرارات الأولى.
ثم دخل المشهد جيل زد، أبناء الهواتف الذكية، لم يعرفوا عالمًا بلا شبكة. السياسة عندهم لم تعد بيانًا أو خطابًا، بل مقطع قصير، وسم على تويتر، أو صورة ساخرة على إنستجرام.
يقيسون الجدية بقدرتهم على قلب الموازين في ساعات إسقاط قانون، إرباك حكومة، أو فرض قضية على النقاش العالمي. قوتهم أنهم أسرع، أكثر جرأة، وأكثر عولمة من أي جيل سابق، لكن ضعفهم أنهم هشّون مؤسسيًا؛ لا أحزاب، لا نقابات، فقط شبكات سريعة الذوبان.
أما جيل ألفا، الذي يولد الآن، فهو الجيل الذي لن يعرف السياسة إلا عبر الذكاء الاصطناعي.
سيكبرون في عالم تُصاغ فيه الأخبار، بما تقترحه الخوارزميات، ويتشكل وعيهم من خلال الواقع المعزز والبيانات الضخمة.
قد يكونون أكثر براجماتية، يستخدمون الذكاء الاصطناعي نفسه للتعبئة والضغط وصياغة البدائل، لكنهم في الوقت ذاته مهددون، بأن يصبح وعيهم السياسي مؤتمتًا “أي خاضع لوسائل تدار أوتوماتيكيا ومبرمجا” بالكامل.
من قاعات النقابات إلى ميادين الاعتصام، ومن الميمز على تيك توك إلى سياسات الذكاء الاصطناعي، يروي خط الأجيال قصة انتقال السياسة من الثبات إلى اللحظة، ومن النصوص إلى الصور، ومن الورق إلى الخوارزمية، جيل إكس بنى على البطء والتمهل.
عاشوا الانتقال في ما عرف بالألفية “MILLENNIALS”.
جيل زد فجّر اللحظة، وجيل ألفا سيختبر كيف يمكن للوعي السياسي، أن يعيش في زمن تتحكم فيه الخوارزميات.