منذ اندلاع العدوان على غزة واجتياحها البري، برز سؤال «اليوم التالي» في الصحف والمجلات الدولية، والتي ناقشت سيناريوهات إعادة الإعمار، وربطها بمسألة الحكم، بما في ذلك مسألة الإدارة الدولية للقطاع، ودور القوى الإقليمية والدولية.

وفي هذا السياق، نشرت مجلة الإيكونوميست في عددها الأخير (سبتمبر الجاري) تقريراً بعنوان: «اليوم التالي: هل يمكن لتوني بلير أن يحكم غزة؟».

التقرير يتناول مبادرة، يقودها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير لإنشاء «هيئة انتقالية دولية لغزة» بدعم من قوى غربية وخليجية، ويشير إلى أن المقترح يحظى بمباركة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ويضع التقرير مبادرة بلير، الذي ارتبط اسمه أيضاً بغزو العراق، في مواجهة مقترحات أخرى: من «إعلان نيويورك» الفرنسي– السعودي، إلى ورقة حركة حماس، وصولاً إلى وثائق حكومية من واشنطن ولندن وتل أبيب وعواصم عربية. كما يستعرض مواقف الأطراف المختلفة، ومن بينها السلطة الفلسطينية التي تعتبر خطة توني بلير شكلاً من أشكال «الاحتلال الجديد».  

بينما أطراف في إسرائيل تري أنها دفعت تكلفة عالية تستوجب احتلال القطاع، ويطرح سؤال محوري: هل تمثل هذه المبادرة سلطة انتقالية مؤقتة، أم مشروعاً مرشحاً للتمدد.

حرب غزة
حرب غزة

على جانب اّخر، سيكون من الصعب إقناع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بهذا المقترح، ولديه دعم من دول عربية، ورافض وجود منافسين له، وعندما اقترح رجل الأعمال الفلسطيني سمير حليلة أن يكون حاكم غزة، أمر عباس بالقبض عليه وسجنه.

كما يحذر مستشارو عباس من خطة بلير، ويعتبرونها احتلالاً جديداً يلوح في الأفق.

يقول مصدر مصري: إن حماس ستسلم أسلحتها وتسمح لحكومة فلسطينية تكنوقراطية بإدارة القطاع إذا ما توفرت رؤية سياسية. لكن إذا مُنع أعضاؤها من العمل في قطاعي التعليم والصحة، سترفض الحركة ذلك.

 قد يبدو بديهياً، ألا أحد يرغب في حكم غزة. فالقطاع اليوم أرض خراب أشبه بالجحيم؛ دبابات إسرائيل جرفته، وسوّت مدنه بالأرض، ودمّرت بنيته التحتية، وما زال الدمار مستمراً. حتى الأسبوع الماضي وحده، دُفع نصف مليون إنسان إلى النزوح من مدينة غزة. ومع ذلك، وبينما تخوض إسرائيل، ما تصفه بـ«حملتها الأخيرة» في القطاع، تتشكل معركة جديدة، حول من سيتولى حكم هذه الأرض المدمرة؟

وفي الوقت الذي تتجه فيه القوى الغربية للاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، فإنها تتنافس خلف الكواليس، على من يدير غزة بعد الحرب.

مقترحات اليوم التالي: القطاع المدمر محل تنازع

منذ اندلاع القتال في أكتوبر 2023، قدّمت أكثر من عشر حكومات ومراكز أبحاث مدعومة رسمياً خططاً لمرحلة «اليوم التالي» في غزة. هذه الخطط تتراوح بين «إعلان نيويورك» المؤلف من سبع صفحات، الذي طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية السعودي فيصل آل سعود في الأمم المتحدة في يوليو، وبين مقترح من 200 صفحة نشرته حركة حماس في يناير، وهي الحركة التي كانت تحكم القطاع، وما تزال تسيطر على جزء منه.

كما أعدّت حكومات بريطانيا والدنمارك ومصر وإسرائيل وفلسطين والولايات المتحدة وثائق مشابهة، وشاركت أيضاً مؤسسة فكرية إماراتية مدعومة من الحكومة، إضافة إلى رجال أعمال من عواصم المنطقة والغرب.

مبادرة بلير.. ما التفاصيل؟

ولعل الأكثر حماساً هو توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. ففي غضون أسابيع من اندلاع الحرب على غزة، قام بزيارات متكررة إلى تل أبيب، وكلف مؤسسته التي تتخذ من لندن مقراً لها بصياغة خطة لمرحلة ما بعد الحرب. ووفقاً لمصادر متعددة مشاركة في إعدادها، قد يترأس بلير هيئة تسمى الهيئة الدولية الانتقالية لغزة (GITA).

وستسعى هذه الهيئة للحصول على تفويض من الأمم المتحدة؛ لتكون بمثابة «المرجعية السياسية والقانونية العليا» في غزة لمدة خمس سنوات. وفي حال الموافقة على الخطة، سيكون لدى بلير أمانة، تضم ما يصل إلى 25 شخصاً، ويرأس مجلساً من سبعة أعضاء، يشرفون على هيئة تنفيذية تدير الإقليم. أما التمويل فستتحمله دول الخليج. يقول مصدر مقرب من بلير: «إنه مستعد للتضحية بوقته، إنه يريد حقاً إنهاء الحرب».

تحظى خطة بلير بدعم قوي، من قادة خليجيين إلى جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي. والأهم من ذلك، بخلاف مقترحات أخرى، أنها حازت على مباركة دونالد ترامب. ففي 27 أغسطس الماضي، ناقش بلير وكوشنر وستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس إلى الشرق الأوسط، الخطة في اجتماع مع ترامب (انضم رون ديرمر، المقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الشؤون الاستراتيجية، عبر الهاتف).

وفي 23 سبتمبر، قيل إن ترامب عرض الفكرة على قادة تركيا وباكستان وإندونيسيا وخمس دول عربية، قائلاً لهم: «ربما يمكننا إنهاء حرب غزة الآن».

الفلسطينيون موقف حذر

بالنسبة للفلسطينيين، تمثل هذه الخطة تحسناً واضحاً مقارنة بالرؤية التي طرحها ترامب في فبراير الماضي، حين دعا إلى نفي سكان غزة وبناء «ريفييرا» مصممة بالذكاء الاصطناعي بعد رحيلهم.

ووفقاً لاستطلاعات للرأي، نشرها فريق بلير في مايو، أيّد أكثر من ربع سكان غزة شكلاً من أشكال الحكم الدولي، مقابل ثلث دعموا السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في الضفة الغربية. في المقابل، لم يرغب أحد تقريباً في بقاء سلطة حماس، التي تحكم غزة منذ عام 2007. يقول موظف حكومي سابق نزح من مدينة غزة: «إن معظم السكان لا يهتمون بمن يحكم، بقدر ما يهمهم، أن يتوقف القصف، وأن يجدوا ما يأكلونه».

وتقول مصادر مطلعة، إن مقترح «الهيئة» صُمم على غرار الإدارات الدولية التي أشرفت على انتقال تيمور الشرقية وكوسوفو إلى الحكم الذاتي. في البداية، يمكن أن يكون مقرها في مدينة العريش المصرية، القريبة من الحدود الجنوبية لغزة. وستدخل الهيئة القطاع بمجرد استقرار الأوضاع، برفقة قوة متعددة الجنسيات. وتصر تلك المصادر، على أن الخطة لا تهدف إلى تشجيع الفلسطينيين على مغادرة غزة، بل إلى إعادة توحيدها مع الضفة الغربية، وتسليمها تدريجياً إلى السلطة الفلسطينية.

ومع ذلك، غالباً ما تستمر هذه الولايات لفترات أطول مما هو مخطط لها.

تاريخ بلير في المنطقة لا يجعله مقبولا

في نوفمبر 1917، بالتوازي مع إصدار بريطانيا وعد بلفور الذي منح اليهود وطناً في فلسطين، اجتاحت قواتها غزة بسرعة. واستخدم القطاع كقاعدة جوية ومحطة توقف لشركة إمبريال إيرويز (التي كانت سلف شركة بريتيش إيرويز). وبقيت هناك لمدة 30 عامًا. والآن يخشى بعض الفلسطينيين، أن تكرر بريطانيا نفس التجربة.

تاريخ بلير وأدواره في المنطقة، لا يجعله مقبولا، فقد انضم إلى الولايات المتحدة في غزو العراق عام 2003، عندما كان رئيسًا للوزراء، وبعدها وخلال السنوات الثماني التي قضاها مبعوثاً للجنة الرباعية، وهي مجموعة تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، مكلفة بتنفيذ خارطة الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية، لكن في هذا التوقيت قصفت إسرائيل غزة أربع مرات، وشددت قبضتها على الأراضي الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية: مقترح بلير احتلال آخر

على جانب آخر، سيكون من الصعب إقناع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بهذا المقترح، ولديه دعم من دول عربية، ورافض وجود منافسين له، وعندما اقترح رجل الأعمال الفلسطيني سمير حليلة، أن يكون حاكم غزة، أمر عباس بالقبض عليه وسجنه.

كما يحذر مستشارو عباس من خطة بلير، ويعتبرونها احتلالاً جديداً، يلوح في الأفق.

يقول مصدر مصري: إن حماس ستسلم أسلحتها، وتسمح لحكومة فلسطينية تكنوقراطية بإدارة القطاع، إذا ما توفرت رؤية سياسية. لكن إذا مُنع أعضاؤها من العمل في قطاعي التعليم والصحة، سترفض الحركة ذلك.

الموقف الإسرائيلي

بعد أن استولت إسرائيل على غزة بتكلفة باهظة، يريد وزراؤها المتشددون الاحتفاظ بالقطاع، يتطلع سموتريتش، وزير المالية إلى” ثروة عقارية“. ويقول إن العالم سيشفق على سكان غزة عاجلاً أم آجلاً، وسيقدم لهم ملاذاً في مكان آخر.

غالباً ما يتصل بلير برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أملاً في إقناعه برؤيته. لكن مثل حل الدولتين، قد يجد أن المحادثات حول المستقبل لا تزيد عن كونها وسيلة؛ لكسب الوقت لإسرائيل لفرض وقائع جديدة على الأرض.