سياسة “المرساة” أو “مراسي” التي تنتهجها دولة الإمارات العربية المتحدة في الاستثمار الخارجي، هي نهج استراتيجي، يتضمن السيطرة المادية على الأراضي والأصول خارج حدودها لتوسيع نفوذها، وإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي الإقليمي.
تختلف سياسة الاستحواذات الإماراتية عن تكتيكات “القوة الناعمة” التقليدية، إذ تعتمد على “قبضة جغرافية” ملموسة، تُرسي الحقائق على الأرض، ويصعب نزعها على غرار المرساة المادية.
يختلف نهج الإمارات العربية المتحدة عن بعض جيرانها في الخليج. تركز قطر في المقام الأول على التأثير السياسي، والثقافي من خلال وسائل الإعلام العالمية (مثل الجزيرة)، والرياضة الدولية، والغاز الطبيعي، والوساطة الدبلوماسية، مع استثمارات أقل في الأصول المادية.
رؤية المملكة العربية السعودية 2030، تتمحور بشكل كبير حول الداخل، وتركز على تعزيز قوتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وتطوير مشاريع وطنية ضخمة مثل نيوم، وتنويع اقتصادها. ورغم أن لديها بعض الاستثمارات الخارجية في قطاع الطاقة، إلا أنها لا تضاهي في حجمها أو نطاقها سياسة الإمارات في ترسيخ الاستثمارات. تميل الاستثمارات السعودية إلى الانتشار في الشرق الأقصى وأوروبا، بينما تركز الإمارات على الشرق الأوسط والقرن الإفريقي في مشاريعها العابرة للحدود.
تتضمن سياسة الاستحواذ على مجموعة مختارة من الأصول المادية، والأقاليم، والبنية التحتية، والممتلكات، والعقارات. هذه الأصول عادة ما تكون استراتيجية، تهدف إلى منح دولة الإمارات ميزة تنافسية.
السمة الأساسية هي إنشاء حيازة جغرافية للأصول المادية خارج حدودها. هذه “المراسي” تزيد فعليًا من مساحة الأراضي الخاضعة لملكية دولة الإمارات، حتى لو ظلت الأرض خارج سيادتها الرسمية.
تؤسّس هذه الحيازة الجغرافية علاقات قوة، حيث تستخدم الدولة المستثمرة (الإمارات) أصولها كوسيلة ضغط لتحقيق المصالح الجيوسياسية، وبالتالي، تفقد الدولة المضيفة عناصر من استقلالها في السيطرة والإدارة على تلك الأراضي.
يتم تحديد الاستثمارات في إطار استراتيجية حكومية موحدة، أي من قبل الحكومة المركزية لدولة الإمارات، وخاصة أبوظبي ودبي، كجزء من استراتيجية منسقة. تحدد هذه الحكومة خصائص وأهداف الاستثمارات، ويتم الدمج بين الاستثمار الخاص والعام، حيث لا حدود فاصلة بينهما.
تشارك الحكومة في التوقيع والإشراف على هذه المشاريع، بما في ذلك في كثير من الأحيان الوزراء والشخصيات القوية من الأسر الحاكمة.
أنواع الأصول
يمتد نطاق سيطرة الأصول المادية من دولة الإمارات إلى قطاعات ومناطق مختلفة، مع التركيز القوي على منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوسطى. ومن أمثلة الأصول ما يلي:
• المواني والبنية التحتية البحرية: فشركة مواني دبي العالمية، التي يقع مقرها الرئيسي في دبي، تمتلك، وتدير أكثر من 80 محطة بحرية في أكثر من 40 دولة، بما في ذلك دول رئيسية مثل مصر والهند وماليزيا.
تمنح هذه السيطرة نفوذاً كبيراً على طرق التجارة البحرية العالمية، مثل مضيق باب المندب عبر ميناء عدن في اليمن، مما يؤثر على طريق التجارة المؤدي إلى قناة السويس.
في مصر، استحوذت مجموعة مواني أبوظبي على حصص الأغلبية في شركتي ترانسمار وترانسكارجو إنترناشونال، مما منحها إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر وساحل شرق إفريقيا.
• الأراضي الزراعية: مدفوعة بالأمن الغذائي، استأجرت دولة الإمارات أو اشترت أراضي زراعية واسعة في دول مثل، إثيوبيا وكازاخستان وباكستان وأستراليا ومصر.
• البنية التحتية للطاقة: تشمل الاستثمارات حصصًا في حقول الغاز، وتطوير مشاريع الطاقة المتجددة (مثل مزرعة الرياح المخطط لها بقدرة 10 جيجاواط في مصر من قبل شركة مصدر)، والسيطرة على شبكات توزيع الوقود، على سبيل المثال، تمتلك شركة مبادلة للبترول حصصًا في حقلي الغاز “ظهر” و”نور” في مصر، وتمارا في إسرائيل.
• العقارات والسياحة والتطوير الحضري: ويشمل مشاريع كبرى مثل مشروع تطوير “مرسى زايد” في العقبة بالأردن (بتكلفة حوالي 10 مليارات دولار)، ومناطق سكنية فاخرة ومساحات تجارية ومرافق سياحية. في مصر، يهدف مشروع “مدينة رأس الحكمة الجديدة“، وهو استثمار بقيمة 35 مليار دولار أمريكي من قِبل شركة ADQ، إلى تحويل منطقة ساحلية إلى وجهة سياحية رئيسية ومنطقة تجارة حرة ومركز تكنولوجي.
• البنية التحتية للنقل: تستثمر الإمارات في البنية التحتية الحيوية مثل مشروع السكك الحديدية بقيمة 2.3 مليار دولار في الأردن الذي يربط ميناء العقبة بالمناجم، مما يعزز بشكل كبير القدرات الصناعية للأردن واستغلال الموارد والروابط التجارية.
الأهداف الاستراتيجية
ذكر معهد ميتفيم (Mitvim) الإسرائيلي الأهداف والآليات الاستراتيجية الرئيسية التي تخدم سياسة المرساة أو ترسيخ التواجد الاستراتيجي لدولة الإمارات العربية المتحدة، وأهمها:
١- التنوع الاقتصادي والربحية: توفر الاستثمارات في الأصول المادية مثل العقارات والبنية التحتية والمرافق الصناعية عائدًا اقتصاديًا مباشرًا، وتساعد دولة الإمارات على تحقيق رؤيتها لعام 2030 لتنويع اقتصادها، وضمان أرباح مستقرة وطويلة الأجل.
٢- عكس التبعية واكتساب النفوذ: بعد أن كانت تعتمد تاريخيًا على القوى الخارجية، تسعى أبوظبي الآن إلى عكس هذه الديناميكية، وترسيخ نفسها كقوة خارجية قادرة على التأثير على الاقتصاد، وإلى حد ما، على السياسة الداخلية والخارجية للدول المضيفة.
٣- الاستقرار الإقليمي وتعزيز المكانة: تهدف السياسة إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي وفق مفهومها، وتشكيل العلاقات الثنائية، ورفع مكانة دولة الإمارات الإقليمية والدولية.
٤- الاتصال والتحكم عبر الحدود: من خلال ربط “المراسي” المتعددة في الدول المجاورة، تهدف دولة الإمارات إلى إنشاء بنية تحتية استراتيجية عبر الحدود واتصالات مادية، مما يتيح السيطرة على الأنشطة الاقتصادية الإقليمية وطرق التجارة الحيوية.
لا ينظر هذا النهج إلى حدود الدولة كخطوط ثابتة، بل كشبكات من الروابط الاقتصادية والنقل والاتصالات التي تخلق الترابط المتبادل، وتوسع نفوذ الإمارات إلى ما هو أبعد من حدودها الجغرافية، مما يضعها كقوة عالمية رائدة.
٥- تشكيل النظام الاقتصادي والسياسي: تسمح هذه الاستراتيجية بممارسة النفوذ على تدفق السلع والطاقة، وإنشاء مواقف تفاوضية قوية، ولعب دور رئيسي في وضع أنظمة اقتصادية وأمنية عالمية جديدة، وبالتالي التأثير على تصرفات العديد من الدول.
إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية
تعمل سياسة المرساة على إعادة تشكيل المشهد الإقليمي استراتيجيًا من خلال الاستثمار بكثافة في البنية التحتية الحيوية والقطاعات الاقتصادية، إذ تسعى أبوظبي لبناء علاقات طويلة الأمد من الاعتماد المتبادل مع الدول المضيفة. وهذا يعني أن الدول المضيفة أصبحت تعتمد على الإمارات؛ لتحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار، في حين تلتزم الإمارات أيضًا باستمرارية هذه العلاقات.
تعمل هذه السياسة على طمس الخطوط الفاصلة بين العلاقات الثنائية والإقليمية، مما يستلزم في كثير من الأحيان إعادة تقييم كيفية إدارة الدول لعلاقاتها مع كل من دولة الإمارات كمستثمر، والدول المجاورة التي تستثمر فيها.
بالنسبة لإسرائيل، فإن وجود ركائز إماراتية في الدول المجاورة مثل، الأردن ومصر، يعني أن التفاعلات المستقبلية المتعلقة بالموارد المشتركة (مثل المياه أو السياحة) ستتطلب غالبًا مشاركة ممثلين إماراتيين، مما يؤدي إلى تحويل العلاقات من ثنائية بحتة إلى ثلاثية أو متعددة الأطراف.
تسعى الإمارات إلى اكتساب موطئ قدم استراتيجي في المناطق ذات الحساسية الجيوسياسية والأمنية. يمكن أن يسمح التحكم في البنية التحتية للمواني للإمارات بلعب دور الوسيط خلال الأزمات الإقليمية، على الرغم من أنه يخلق أيضًا تبعية للدولة المضيفة.
ومن خلال استثماراتها والتبعيات التي تخلقها، تستطيع دولة الإمارات التأثير على عملية صنع القرار المحلي والأنماط التشغيلية في البلدان المضيفة، بل وتسعى في بعض الأحيان إلى مواءمة سياساتها الخارجية مع المصالح الإماراتية.
إن الاستحواذ على الممتلكات المادية يوسع نطاق دولة الإمارات بشكل فعال خارج حدودها السيادية، مما يشكل تحديًا للمفاهيم التقليدية للأراضي الوطنية والاستمرارية الإقليمية.
تعمل سياسة المرساة بشكل نشط على تعزيز رؤية الاتصال الإقليمي، وإنشاء شبكات عبر الحدود، بما يؤدي إلى دمج مختلف الاقتصادات والبنى التحتية، ويمكن أن يتضمن ذلك ربط مدن سياحية جديدة على جانبي البحر الأحمر أو تشكيل ممرات بحرية، تسيطر عليها إلى حد كبير شركات إماراتية.
الهدف النهائي لسياسة المرساة وتركيز الاستحواذات هو، أن تستخدم الدولة المستثمرة (الإمارات العربية المتحدة) أصولها الاستراتيجية وممتلكاتها الجغرافية للحصول على النفوذ لتحقيق المصالح الجيوسياسية. وفي سياق اتفاقيات إبراهام، تم توجيه هذا النفوذ الجيوسياسي باستمرار نحو الاستقرار الإقليمي- كما تتخيله، والتكامل الاقتصادي والأمني مع إسرائيل، مما عزز بشكل غير مباشر الحسابات الاستراتيجية التي تقوم عليها علاقة مصر المستمرة مع إسرائيل. ولكن كيف تعمل هذه الحسابات؟ هو ما أتابعه في مقالي القادم.